مقاربات الفرجة.. في تحليل الدراما (3)

مقاربات الفرجة.. في تحليل الدراما (3)

العدد 805 صدر بتاريخ 30يناير2023

السياقية والأداء المشترك في النص :
     ولعل أحد محاولات تطوير الدراماتوجية  لمقاربة السياق التاريخي الأدائي للدراما هي كتاب « الدراما في الأداء Drama in Performance” (1954) تأليف ريموند ويليامز . وفيه انطلق ميليامز لدراسة العمل المكتوب في الأداء ؛ بمعنى البنية الدرامية للعمل، الذي يمكن أن نفهمه عندما نقرأه كأدب، لأن ذلك يظهر فعلا عند أداء المسرحية . وسوف يتضح لنا أن العلاقة بين النص والأداء متفاوتة، ولكن الجمع بينهما في التحليل يبدو لي أمرا ضروريا . ففي كثير من الفكر المعاصر، الفصل بين الأدب والمسرح مفترض باستمرار، ومع ذلك فان الدراما يمكن أن تكون أدبا ومسرحا علي حد سواء، وليست أحدهما علي حساب الآخر، بل كل منهما بسبب الآخر . وأعتقد أن الفصل الآن يعطل بعمق الدراما التي أدرسها كنقطة نظرية شكلية، ويعطل العلاقة بين النص والأداء . وكتابة ويليامز استجابة لتركيز النقد الجديد علي ملامح النص الداخلية المكتفية بذاتها، تؤكد على وعي القارئ بالإعداد المكاني الذي كُتبت فيه المسرحية، ويعمل مع الفروق بين، مثلا، مختلف أنواع الفعل الدرامي : الكلام الذي يتم تمثيله، والتجسيد البصري، والحركة، والسلوك .
     ورغم ذلك، لم يطور ويليامز أي مقاربات تحليلية للأفعال التي يقوم بها المتفرجون .
     وحديثا جدا جادل مارتن ميزيل في كتابه « كيف تعمل المسرحيات : القراءة والأداء How Plays Work :Reading and Performance “(2007) بأن قراءة المسرحيات بالمعنى الكامل، اذن، يعني القدرة علي قراءة الحوار والوصف كمجموعة من الإرشادات لا تفسرهما فقط بل أيضا بمعيار التجسيد تحققهما . وهذا يعني استحضار شيء من فهم الكاتب أو المخرج للكيفية التي تعمل بها المسرحية علي جمهور متخيل في ظروف تمثيل مسرحي متخيل . ويتأمل ميزيل كيف تستخدم المسرحيات العناصر الشفهية والبصرية، علاوة علي الحركة والإيماءات، ويتضمن بحثه أيضا تحليل كيفية توقع الكاتب المسرحي واستفادته من توقعات الجمهور، وتعاطفهم واستجاباتهم العاطفية، وان كان سطحيا الى حد ما وأساسي فيما يتعلق بجماهير خشبة المسرح فضلا عن الجماهير الفعلية .
     وتستمر مسرحانية النص الدرامي، التي ترتبط بالعلاقة مع المتفرج في أن تظل فرضية أساسية، ولكن يتم تجاهلها إلى حد كبير . وهذا لا ينطبق فقط على المسرحيات التي تهدف صراحة الى تضمين الجمهور في الأداء مثل مسرحية لويجي بيرانديللو « ست شخصيات تبحث عن ممثل « (1921)، ومسرحية بيتر هاندكه “اهانة المشاهدين « (1966) أو « تيم كراوتش هو المؤلف « (2009) . ولكي نضم منظور المتفرج النشط ولتطوير منهج دراماتورجي بفرضية أن بنية النص الدرامي تتضمن أداء مشتركا من جانب الممثلين والمتفرجين، يبدو أنه أمر حاسم لتطوير الدراما المستقبلي . وهذا يعني أن المسرحانية المدمجة والتضمينات المكانية المشهدية مفتاح التجربة الجمالية المغلقة في نص الدراما . وبعكس المفهوم الأدبي التقليدي للدراما، فان النص ليس مضادا للأداء، بل يبدأه .
     فالدراما ولاسيما دراما النص تفترض الفرجة في القارئ . فالنص الدرامي يفترض نظرة جسدية بمعنى أن قراءة النص تتطلب حساسية لما يحدث في الدراما . ويجب أن يكون الدراماتورج ( معد الدراما) قادرا علي تمييز قالب الدراما بأي طريقة تسمح لقدرة القارئ الإدراكية أن تملأ الفراغات في الدراما . وهذه الفجوات الإدراكية هي الحدود المكانية للمواجهة الكامنة بين خشبة المسرح والجمهور لفهم متمايز حتى يأتي الإدراك المسرحي . وكل هذا يفترض فهما للمسرح باعتباره الشيء الذي يتعلق بالفرجة الضمنية . وبالتالي فان نظرة المتفرج الجسدية حاضرة وتشارك في فعل القراءة . والتطابق كمثال في العاطفة، هو مشاركة وتطهير يتطلب المشاركة بشكل أساسي . وبالتالي، فان مفهوم ايريكا فيشر ليشت للحضور الجسدي المشترك للممثلين والمتفرجين فيما يسمى حلقة ردود الفعل الشعرية التلقائية يتساوى مع الحضور المشترك للقارئ مع الدراما باعتبارها تميز القوة التحويلية للأداء نفسه . وبالتالي، عند قراءة المسرحية، يجب أثارة الجانب الأدائي للحضور بحيث يعني هذا الحضور المشترك أدء مشتركا .
    ويتضمن هذا الزعم قطيعة مع فكرة المتفرج السلبي السائدة والحاكمة غالبا . ولم تكن فكرة المتفرج المشارك الفعال اختراعا ( والذي يبدو أنه يطابق الأداء التفاعلي المشارك فقط)، فقد تم حذفها من المفهوم الأيدلوجي لمعنى المتفرج ومعنى القارئ أيضا . وقد أصبح الفيلسوف جاك رانسييه مصدرا ثابتا عندما نأتي الى تعريف المسرح المشارك . فقد عبر عنه رانسييه بالطريقة التالية : « كل متفرج هو ممثل في قصته» . وهذا يعني أن عنصر المشاركة حاضر دائما، وما يسمى المتفرج السلبي ينشأ من الاستخدام الأيدلوجي للكلمة . وفي كتاب « نظرية الدراما وتحليلها the theory and analysis of drama “ للعالم الأدبي الألماني مانفريد فيستر، يتعلق بتأثير الفرجة في قراءة الدراما من خلال التأكيد علي « الادراك المتناقض « من خلال الاتصال الضمني والصريح في الدراما . بمعنى أن القوى التخيلية تلعب دورا في هذا الوعي المتناقض .
     وتبعا لذلك يجب أن يعيد التناول الدراماتورجي تقديم مفهوم الفرجة بتركيز باعتباره حساسية درامية معينة . وهذا يعني أن الادراكين البصري والإيقاعي للدراما يجهل خيالنا يؤدي أثناء القراءة وأثناء معايشة الدراما أثناء الأداء . فهناك زمنية ضمنية للدراما والتي غالبا ما تثير معنى رد الفعل المغترب في عقل القارئ . ويتيح رد الفعل هذا «في الوقت المناسب « اكتشاف القارئ لتمييز نفسه كقارئ في نفس الوقت . وحسب قول رابيكا شنايدر، أو ربما بصورة صحيحة لكي ننقل طموحها كما تم العبير عنه في كتابها « ويبقى الأداء Performing Remains” (2011) إن مواجهة المادة الدرامية يتطلب نوعا من اعادة التجسيد بواسطة القارئ / المتفرج . فجسم القارئ /المتفرج يتأكد عند قراة المسرحية . انها مواجهة جسم لجسم، ويجب علي الدراماتورج أن يحرك حساسية الجسم أثناء فعل القراءة .
     وبتضمين موقف المتفرج المضمر في التحليل الدراماتورجي، يصبح التفاعل بين النص في الأداء وإحساس المتفرج وتخيله شيئا ضروريا . ويجب أن يتضمن النص الدرامي فحصا للكيفية التي يتضمن من خلالها النص استراتيجيات للأفعال الإدراكية التي يجب أن يؤديها المتفرج : الاستراتيجيات المشروطة تاريخيا أيضا . وربما تقدم علوم الأعصاب والعلوم الإدراكية أدوات تحليل مفيدة، واستخدمها المتخصصين في المسرح الحديث . وتقدم آمي كوك في درستها « مسرحية الأعصاب الشكسبيرية : تنشيط دراسة النصوص الدامية والأداء من خلال العلوم الإدراكية (2010) نظرة ثاقبة حول كيفية قيام اللغويات الإدراكية بدراسة النصوص الدرامية باستخدام نظرية الاستعارة المفاهيمية ( كما طورها جورج لاكوف ومارك جونسون ) ونظرية المزج الإدراكي ( التي طورها جيل فوكونيه ومارك تيرنر ) . وتوضح كوك علي سبيل المثال كيف أن تحليل عنصر المرآة في مسرحية هاملت يمكن يكون كامنا في السياق التاريخي الحديث للمتفرجين وأيضا الإطار اللغوي الادراكي التي تتجلى فيه المرآة لكي تتكون من معاني مختلفة أو مدخلات لأماكن مختلفة .
     وثد كان تخيل المتفرج وتجرتبه الحواسية في سياق تاريخي أساسية أيضا في أعمال العالم البولندي الأمريكي والدراماتوج «جان كوت». ففي كتابه الأساسي «شكسبير معاصرنا» وضع التفسير التحليلي للمسرحيات العبثية بجوار أعمال شكسبير علي خلفية حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية . اذ كانت الواقعية وراء النوع الدرامي العبثي بالنسبة الى كوت نتيجة طبيعية للواقعية الاشتراكية، التي امتدحت الرؤية العالمية لجوزيف ستالين . وبالتالي يمكن أن يؤكد كوت الجوانب الوجودية والفلسفية في قراءة أعمال شكسبير لأنه رآها من خلال مرشح مسرح اعبث بينما ظل حساسا إلى تضمينات السياق التاريخي لمسرح شكسبير . وتحليل كوت لادجار وجلوستر وهما يقتربان من صخور دوفر في مسرحية الملك لير أو نهاية اللعبة، وتحديدا ابراز كيف يكمن التقديم علي خشبة المسرح في الحوار الذي يتطلب مشاركة فعالة من المتفرج لكي يحول التمثيل الايمائي المسرحي حيث يرفع ادجار قدمه عاليا، متظاهرا بأنه يسير أعلي التل، بينما يرفع جلوستر قدميه أيضا وكأنه يتوقع أن ترتفع الأرض، ولكن يوجد تحت قدميه الهواء فقط . وكأن شكسبير قد كتب بشكل أدائي متعمدا أعلي الفجوة أو الهوة، ويجسد كلا الأمرين السياقيين التصور المسرحي بالنسبة للمتفرج . ويلاحط كوت أن هذا التمثيل الايمائي” له معنى إذا تم فعله علي خشبة مسرح مسطحة . ينعكس الموقف الدرامي داخل الذي يقود فيه رجل مجنون رجلا أعمى ويحثه علي الاعتقاد بأن هناك حبل غير ممتد  في الموقف الدرامي غير النصي حيث في لحظة أخرى سوف يرسم المشهد منظرا طبيعيا . ويعتمد المشهد علي كل من الإيهام واللاايهام بارتفاع غير موجود بالنسبة للشخصيات والمتفرجين علي حد سواء . وكمساو حديث، يذكر كوت نص يوجين يونسكو «القتلة» (1957) . إذ تقع أحداث الفصل الأول بالكامل في ديكور غير مرئي، بينما يتكون افصل الثاني من مشهد صوتي خارج خشبة المسرح . والمسرحية مثال مدهش لكيفية حدوث الدراما عن طريق تفاعل خيال المتفرج وانشغال حواسه بالنص المؤدى علي خشبة المسرح .
 وبأخذ زمام المبادرة في الدراسات المذكورة أعلاه، سوف تعد الدراماتورجيا الجديدة النص الدرامي بمثابة نتيجة، حيث تلعب جميع جوانب الأداء والسرد والحواس، في نفس الوقت دورا وتضم المكان ومكان الجمهور . فالنص الذي يتم إدراجه في إطار مادي مكاني متجسد له صدى مع الجسم، وهو نص يتحدث إلى مستويات أخرى غير المستوى اللغوي . والنص كسجل، يتضمن مثلا، سجلا إيمائيا (الذي يستدعي الانتباه إلى النص المكتوب للتمثيل، علاوة علي الدراماتورجيا الحاسمة عند بريخت ) والسجل الصوتي ( الذي يستدعي الانتباه الى للنص كما ينطقه الممثل ويعبر عنه، وبالتالي، يؤكد علي إمكانات الدلالة الموجودة في الإيقاع ) وهذا لا يتم التعبير عنه فقط في إرشادات خشبة المسرح،ولكن أيضا من خلال أسلوب التمثيل المضمر، والاستخدام الضمني للحركة والأدوات، وأيضا أفكار المؤلف البصرية وتشبيهاته . ويشير نص الدراما في نفس الوقت الى الخلف نحو السياق المكاني والجسمي المكتوب فيه، والى الأمام الى السياقات المتعددة التي يتم أداؤه فيها .
 ربما لم يكن اهتمام المسرح بالجمهور وتطوره  مهما جدا. ولكن الاهتمام الحالي بتشجيع جمهور جديد للمسرح مطلوب لمسرح الغد . وقد فتحت الوسائط الجديدة ومختلف المنصات (مثل القراءة وكلام الفنانين) طرقا جديدة للتفاعل بين الفنانين والجمهور، وفتحت للمتفرجين لكي يدخلوا في حوار مع المسرح . وحاليا، هناك اهتمام متزايد من الجمهور أن يصبحوا جزء من الأداء، ليس فقط في مشاركة تفاعلية، بل في المسرح عموما . ونرى علي هذه الخلفيات إمكانية فريدة لدخول المتفرج ضمن تحليل الدراما .
................................................................................
• نشرت هذه المقالة في Nordic Theater Studies
Vol 30 , No 2 , 2018 – pages 22-39
• أولا كالينباش تعمل أستاذا في دراسات المسرح بجامعة بيرجن في النرويج
• أنيليز كولمان تعمل أستاذا للمسرح والدراماتورجيا والأداء بجامعة أرهاوس بالنرويج .


ترجمة أحمد عبد الفتاح