العدد 759 صدر بتاريخ 14مارس2022
لم تكن كتابة صلاح عبد الصبور منفصلة عن ذاته بل مرتبطة كل الارتباط بشخصيته، لذلك ظل تأثيره على الأجيال التالية له واضحا، رغم اختلاف المدارس والاتجاهات الشعرية.
تحفل دواوين ومسرحيات صلاح عبد الصبور بما لا يحصى من موضوعات وقضايا تختلف وتأتلف، تتناغم وتتناقض. فهو شاعر الوجود مثلما هو شاعر الحياة، شاعر العدم مثلما هو شاعر العالم، شاعر الهموم الما ورائية والهموم اليومية، شاعر الحزن والليل، شاعر العزلة والتأمل، شاعر الحب واليأس والسأم.... أما الشعر لديه فهو كما يصفه “صوت إنسان يتكلم”. وعندما يكون الشعر صوت الإنسان المتكلم يصيح قادرا على أن يستوعب ما لم يستطع أن يستوعبه سابقا.
صوت جيل
ينتمي الشاعر صلاح عبد الصبور إلى جيل شباب ثورة يوليو 1952، فقد نشأ في مدينة الزقازيق محافظة الشرقية لأسرة بسيطة، تخرج من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية.
كان لنشأته الريفية أثر واضح في ديوانه الأول “الناس في بلادي” والذي صدر عام 1957. والذي استلهم فيه ما يمكن أن أسميه بتراث الحرية في الريف المصري ، خاصة في قصيدة “شنق زهران”، ومن هنا بدأ يظهر في كتاباته الشعرية “تيار الوعي” وإن جاء مغلفا برؤية فلسفية عميقة، مؤطرة بلغة تقطر بالألم والوجع على المصير الإنساني في عالم يعاني من ويلات الحروب.
يقول “عبد الصبور” في كتابه “حياتي في الشعر”: “يصفني بعض النقاد بأنني شاعر حزين ، وأقول لهم لست شاعرا حزينا لكنني شاعر متألم”.(1)
وهناك عبارة دالة في هذا الكتاب أخذها “عبد الصبور” من الشاعر الألماني “شيلي” وهي “لدي شهوة لإصلاح العالم”.
هذه العبارة تمثلها شاعرنا واعتبرها مانفيستو لتجربته الشعرية والإبداعية، خاصة في مسرحياته، التي دارت كلها في فلك علاقة المثقف بالسلطة والصدام المحتوم بين الطرفين، وهذا ما رأيناه في “مأساة الحلاج”، و”ليلى والمجنون”، و”مسافر ليل” و”الأميرة تنتظر” و”بعد أن يموت الملك”.
ويرى بعض النقاد أن بعض أبطال مسرحيات صلاح عبد الصبور هم نفس شخصية المؤلف الباحث عن الحرية والفضاءات الشاسعة للمعنى فهو “الحلاج” في “مأساة الحلاج” و”سعيد” في “ليلى والمجنون” و”المسافر” في “مسافر ليل”، ومن هنا يمكن أن نقول بأن مسرح عبد الصبور أعطي للشخصية المسرحية الاهتمام الأكبر بخلاف الرؤية “الأرسطية” التي كانت تعطي لمفهوم الشخصية النصيب الأقل من الاهتمام.
يقول عبد الصبور عن نفسه في كتابه “حياتي في الشعر” : “كنت إنسانا جادا، لا أستطيع أن آخذ مسائل الضمير مأخذا هينا، فقد يهون علي كل ما في الحياة، وتبقى غصة في قلبي هي ما يتصل بالفن والفكر، فإني أحمل حجرها الثقيل في ضميري حتى أحقق بينها وبين نفسي قدرا من الانسجام”(2)
طبقة النص
أما الطبقة التي يصدر عنها النص ويعبر عنها فهي “طبقة المهمشين” التي تعاني كثيرا من الفقر وعدم اهتمام السلطة بها ، وحينما تجد صوتا يدافع عنها يكمن في “المثقف” فإنها تتخلى عنه حين يحتاجها للوقوف معه دفاعا عن حقوقها.
وهنا نرى”الحلاج”/ كنموذج للمثقف، صوفيا وشهيدا، يمثل حالتين: فناء العاشق في المعشوق، والموت تحت راية نظيفة دفاعا عن المظلومين الذين لم يكتشفوا ظلمهم إلا على ضوء جراحه.
حلولية الحلاج لم تذهله، ولم تصرفه عن إخوانه الضعفاء الجائعين إلى النور والمعرفة ونيل حقهم المشروع في الحياة، حلوليته كانت دينية وثقافية مبدعة في شوارع “بغداد”، بينما حلولية صديقه الصوفي”الشبلي” وغيره من المتصوفة تنحو منحي انغلاقيا وتعاني جذبا باستمرار صوب الداخل:
الشبلي: يا حلاج
لا أدري للصوفي صديقا إلا نجوى الليل
وبكاء الخوف من الدنيا
وأناشيد الوجد المشبوب وآهات الذل
وفتوح المحبوب بنور الوصل
اختيار صلاح عبد الصبور لشخصية “الحلاج” كرمز صوفي، هو اختيار لثقافة عربية إسلامية مبدعة تتحول باستمرار وتهاجر من أقاليم الذات المملوءة بالضجيج الكوني إلى رحاب الكون، حيث الظلام يحيط بالأفئدة الغلف، وحيث ذهب “المادة” يدفع الدراويش إلى إطفاء أنوارهم الحقيقية، وفتح التكايا لاستقبال الهبات، لا لاستقبال الظامئين إلى النور المعرفي.
البطل التراجيدي
يهدف “عبد الصبور” إلي جعل “الحلاج” المتصوف بطلا اشتراكيا ثائرا مع الفقراء ضد السلطة الجائرة وغلاء الأسعار والفساد الاجتماعي، فالحلاج بطل منتصر في النهاية – من ناحية المعنى – رغم قتله وصلبه، فشهادته ترمز إلى بقاء مبدأه فيما يمكن أن أسميه “ثقافة الحق المبدع المستمر في التراث العربي الإسلامي”.
في هذه المسرحية يعيد صلاح عبد الصبور بناء شخصية الحلاج اشتراكيا آخذا من التاريخ، ومسبغا عليه أفكار مرحلة التحول الاشتراكي التي شهدتها مصر تحديدا في فترة حكم جمال عبد الناصر، وشهدتها المنطقة العربية في أقطار أخرى، لقد أصر صلاح عبد الصبور على إعطاء شخصية الحلاج أكثر من واقعها التاريخي رغم الخيط المنسول من كتب التاريخ، حيث كان الحلاج ينادي في أسواق بغداد ضد غلاء الأسعار، إنه لم يغيب الحالة الدينية عن الحلاج بل غلب عليها الصفة الاجتماعية، صفة الثائر الحامل صليبه على ظهره باستمرار.
وهنا يمكن وضع مسرح صلاح عبد الصبور بين مرحلة النهضة ومرحلة الحداثة في المسرح العربي، حيث أعاد بناء شخصية الحلاج وفق ما يراه ضروريا للمستقبل العربي، وتلك حالة نهضوية على كل حال.
عبد الصبور هنا يعيد طرح نظرية وحدة الوجود بمفاهيم حديثة متصلة رغم حداثتها بالحلول الصوفي المعروف منذ الحلاج ومحي الدين بن عربي.
وهذا ما نراه في قوله على لسان “الحلاج”:
وكما لا ينقص نور الله إذا فاض على أهل النعمة
لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء.
الهوامش:
1- صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر – مكتبة الأسرة- القاهرة 1997 – ص42
2– مرجع سابق ص22,