العدد 658 صدر بتاريخ 6أبريل2020
تحدثنا في المقالات السابقة عن افتتاح معهد التمثيل في الأول من نوفمبر 1930، وكيف انتظمت الدراسة فيه، وتحدثنا عن المحاضرات، ونشرنا بعضها.. إلخ، مما يعني أن المعهد أصبح حقيقة ملموسة، فتم التعامل معه على هذا الأساس، فوجدنا الحكومة تخصص له مبلغ 2600 جنيه من أصل (إعانة/ ميزانية) وزارة المعارف، الخاصة بتنشيط التمثيل البالغ مقدارها خمسة آلاف جنيه، مما يعني أن ميزانية المعهد أكبر من ميزانية جميع الفرق المسرحية!! فميزانية فرقة يوسف وهبي 800ج، وفرقة فاطمة رشدي 800ج، وفرقة نجيب الريحاني 400ج، وفرقة علي الكسار 400ج، كما قالت مجلة العروسة في ديسمبر 1930.
لم تكتفِ وزارة المعارف بذلك، بل خصصت لطلاب المعهد أسبوعيا عشرة مقاعد مجانية لمشاهدة العروض في دار الأوبرا الملكية، حتى يطلع الطلاب على الجديد دائما في العروض العالمية. وبالمثل خصصت الفرق التمثيلية اثنا عشر مقعدا لطلاب المعهد أيضا. وأول تطبيق لهذا النظام، كان مشاهدة الطلاب لمسرحيات الفرقة الفرنسية بالأوبرا، والفرقة الإنجليزية بمسرح الكورسال، مع مشاهدتهم لعروض بقية الفرق المصرية.. هكذا أوضحت لنا جريدة الثغر ومجلة الصباح في ديسمبر 1930، ويناير 1931.
نتيجة التحريض
في الحلقة الخامسة – وعنوانها «حديث الطلاب وعتاب الأصدقاء» – تحدثت عن قيام الناقد محمود طاهر العربي بالتحريض الديني على معهد التمثيل، عندما طالب الشيخ محمود أبو العيون مفتش الأزهر بالتدخل لمنع الفتيات من تعلم التمثيل وعدم اختلاطهن بالطلاب في هذا المعهد. وربما كان الناقد محقا في اختياره للشيخ أبو العيون لهذه المهمة؛ لأن الشيخ – كما جاء في الجزء الثاني من كتاب «الأزهر في ألف عام» للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي - مضرب الأمثال في الغيرة الدينية، والجهاد الوطني، وحب الإصلاح، وكان ركنا من أركان الأزهر، وعلما من أعلامه؛ حيث أحبه الجميع، وقدروا فيه العفة والنزاهة وطيبة القلب وحلاوة اللسان. وقد اتجه إلى الرذائل الاجتماعية يحاربها، فأعلن الحرب على البغاء والخمر، وعلى المجون، وعلى التبذل والاستهتار في المصايف والشواطئ.. إلخ.
وبالفعل ذهب الشيخ أبو العيون إلى المعهد، فكتبت إحدى الطالبات المستمعات تفاصيل هذه الزيارة، وأرسلتها إلى صاحب جريدة الضياء، الذي نشرها في أوائل ديسمبر 1930، تحت عنوان (أدب فضيلة الشيخ أبي العيون وسبابه علنا لمدرسة فاضلة في معهد فن التمثيل)!! وهذا نص الموضوع: «جاءنا أمس ما يأتي، وقد تثبتنا من صحته: حضرة الأستاذ رئيس تحرير الضياء، أرجو أن تسمحوا لفتاة مصرية تغار على كرامتها وكرامة أخواتها أن تنصف لهذه الكرامة على صفحات جريدتكم من رجل كان خليقا به أن يكون في طليعة الذين يحرصون على كرامة الناس ولا سيما النساء. هذا الرجل يا سيدي هو الأستاذ محمود أبو العيون أحد رجال الدين. فقد رأيت الأستاذ لأول مرة مساء أمس في معهد فن التمثيل، رأيته صدفة إذ كنت جالسة بجوار حجرة المدير فسمعت صوت رجل يقول العبارة الآتية بحروفها تقريبا موجهة إلى السيدة الفاضلة منيرة هانم صبري المدرسة بالمعهد: «أنا قلت لهم يا سيدة منيرة في الوزارة، تعلمين البنات الدعارة!» فلم أتمالك عند سماع هذه الكلمة عواطفي فنظرت فرأيت قائل هذا الكلام أستاذا معمما فأسرعت بالاستفهام عمن يكون الشيخ فعلمت أنه الأستاذ أبو العيون. ثم سمعت السيدة منيرة ترد في لهجة باكية على ألفاظ الأستاذ ولم أسمع شيئا بعد فقد أسرعت هاربة من مكاني لأني لم أطق أن أسمع هذه العبارة من عالم يحمل كتاب الله ويحفظ أحاديث نبيه الكريم. هربت لأنني لم أطق سماع هذه الكلمات من شيخ من رجال الدين، بعد ذلك رأيت الأستاذ يحضر بعض الدروس ولم أدر ما الغرض من حضوره، ولا الصفة التي حضر بها. والذي أريد أن أقوله الآن هو إنني وأخواتي اللواتي التحقن بمعهد فن التمثيل سواء منا الطالبات الأصيلات والمستمعات لم نلحق به إلا على أنه معهد راق يعلم الأدب ويثقف العقل وتصان فيه الكرامة كل الصون. ولم يكن يخطر ببالنا أن نسمع مثل هذه الكلمة يقولها رجل من رجال الدين في حجرة مدير المعهد وعلى مسمع منه ومن أستاذ آخر هو الأستاذ أحمد ضيف، ولكن الكلمة قيلت وسمعها المدير والأستاذ، ومما يدعو إلى الأسف الشديد أنه لم يتحرك أحدهما للرد على فضيلة الأستاذ المؤدب، ولسنا ندري إذا كانت هذه الكلمة قد وصلت إلى مسمع سعادة وزير المعارف أو لم تصل، فإذا لم تكن وصلته فها أنا أبلغها إليه علنا. وقبل أن نقول كلمتنا التي يجب أن نقولها نحب أن نسمع رأي سعادة الوزير في هذا الكلام الذي قاله الأستاذ أبو العيون. وهل يوافق سعادته على أن السيدة منيرة صبري تعلمنا (الدعارة) في هذا المعهد الرسمي؟ فإذا كان موافقا على هذا الكلام فليصرح بموافقته لنترك له المعهد خالصات بكرامتنا وسمعتنا. وإذا كان لا يوافق فنحن ننتظر ما سيفعله سعادته لدفع الإهانة التي وجهت إلى سيدة وإلى فتيات يعملن في هذا المعهد تحت رعاية وزارة المعارف وفي اطمئنان إلى حرصها على كرامتهن وسمعتهن من أن ينالها إنسان بالأذى. فهل نسمع كلمة سعادة الوزير قريبا. [توقيع] طالبة مستمعة بالمعهد».
كان من الصعب على الوزارة تجاهل هذا الموضوع، فتصدى له سكرتير وزير المعارف، ونشر بعد يومين توضيحا في جريدة الأهرام، تحدث فيه عن أساس المشكلة، المتمثلة في أمرين: الأول مادة (الرقص التوقيعي)، التي يدرسها تطبيقيا وعمليا الطلاب مع الطالبات، والأمر الآخر السماح للفتاة بدراسة التمثيل!! وقال عن الأمر الأول: «دراسة الرقص التوقيعي المشترك بين البنات والبنين، الغرض الأساسي الذي من أجله وضعت دراسة الرقص التوقيعي هو إنماء ملكة التوقيع المتناسق في نفوس الطلبة، وأن هذا النوع من الرقص يختلف عن الرقص العصري الشائع، وهو قريب الشبه بالرقص العربي القديم المعروف (بالدبكة) وتوقيع موسيقاه على البيانو لا على (الجازباند) كما يتوهم البعض، وتقوم بتدريب الطلبة عليه مدرسة مصرية مسلمة ما برحت تدرس هذه المادة في مدارس البنات الأميرية، وليس في هذا النوع من الرقص خروج على الآداب كما ألقى في روع البعض بل هو عبارة عن خطوات موقعة ودورات متناسقة، ولا يوجد فيها ما يخدش الحياة». وقال سكرتير الوزير عن الأمر الآخر: «وقد رسمت الوزارة بقبول الفتيات بالمعهد بعد أن رأى أن الفتاة المصرية المسلمة قد اعتلت خشبة المسرح، وأصبحت تجد فيه مجالا للنشاط الذهني، ووسيلة لكسب العيش من طريق شريف، فالواجب على وزارة المعارف أن تعطي هذه الفتاة قسطا وافرا من التعليم والتهذيب يصونها ويمكنها من القيام بمهمتها على الوجه الذي تحسن معه سمعة المسرح المصري أدبيا وفنيا».
وبعد يومين من تصريحات سكرتير الوزير، قام بالرد عليها الشيخ محمود أبو العيون – في جريدة الأهرام أيضا – قائلا: «... أما عن الأمر الأول، فإنه ليس من المألوف عندنا، ولا عاداتنا الخلقية، ولا من آدابنا القومية التي يجب أن نحتفظ بها أن تهجر العذارى خدورهن إلى معهد رسمي يتعلمن فيه فن الرقص الخليع أو غير الخليع، على (الجازبند) أو على (البيانو). إن للفتاة في خدرها لها أن تلهو ما شاء اللهو البريء، أما أنها توجد بين فتيات وفتيان يضمهم جميعا معهد واحد، ويتلقون دروس الرقص متشابكين في حلقة واحدة!! إن قلوبنا تخفق غيرة على الأخلاق حينما نسمع همسا أن بعض (الصالونات) في بيوت سرانا تقام فيها حفلات الرقص المشترك، فماذا عسى يكون الشأن حينما يخرج الهمس إلى الجهر ويتأسس معهد علمي تشرف عليه وزارة في دولة دينها الرسمي الإسلام أعلم فيه دروسا للرقص التوقيعي المشترك لإعداد الجنسين إلى الطريق الشريف، وأخيرا أي شريعة من شرائع الأخلاق تجيز ذلك. أما عن الثاني، فإن ظهور الفتاة المصرية المسلمة على خشبة المسرح، لا يسوغ للوزارة أن تعتبر ذلك أمرا واقعا ونقرّه رسميا، فإن ظهور بعض الفتيات متسللات من المجموع بهذا المظهر، لا يجعل الشأن أمرا واقعا ولا يعطي قاعدة صحيحة يبنى عليها حكم صحيح، ثم أي طريق شريف ذلك الطريق الذي تلجه الممثلة، ونحن نعلم حالها في الشرق والغرب، وأي عار يلحق أسرة بأسرها هنا وهناك أكثر من ظهور فتاة غريرة من فتياتها على خشبة المسرح، وهل ما تحوزه الفتاة من هذا الطريق المعروف الذي تعده الوزارة لها، يتفق مع المثل العربي (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)! سمعنا أن موسوليني أصدر تشريعا يعاقب به كل امرأة تقصر ثيابها بما يكشف عن ساقيها، أو تلبس لباسا رقيقا يشف عن جسمها. وسمعنا أنه وضع للرقص قيودا أصبح معها عدما لا وجود له. وسمعنا أن رجال الدين في اليونان أصدروا أمرا بأن لا تدخل كنيسة من الكنائس امرأة قصيرة الثياب عارية الذراعين والصدر، وأن حكومة اليونان تولت تنفيذ هذا الأمر، وسمعنا أنهم فعلوا بمثل ذلك في بولونيا. وصرحت راقصة شهيرة بأن خمسا وتسعين في المائة من الراقصات يسقطن بسبب الرقص، وقد منعت بناتها من اتخاذ هذه المهنة طريقا للحياة، وفوق ذلك كله لا تزال صرخات علماء الاجتماع والأخلاق في أوروبا وأميركا تنذر تلك الشعوب عواقب الانحلال والتفكك الخلقي إذا هي لم تقلع عن عادات خلقية وفي مقدمتها الرقص. معنى هذا أن الغربيين بعد أن وصلوا إلى نهاية الشوط، وأدركوا نتائجه، ابتداوا أن يعالجوه بالمطاردة، فهل يحسن بنا أن نبدأ هذا الخطر باسم المدنية والرقي والثقافة في الوقت الذي أدرك أصحابه شره، وأخذوا يعملون لعلاج أنفسهم منه. [توقيع] محمود أبو العيون».
وبعد يومين نشر حسين عفيف المحامي ردا على الشيخ في جريدة الأهرام، تحت عنوان (الرد على مقال الأستاذ أبي العيون) قال فيه الآتي: «... ولقد بلغ من إسراف الأستاذ بالتمسك بالتقاليد أنه بعد أن اعترف بأن الرقص التوقيعي الذي يُدرس في المعهد غير خليع، اعتبره مع ذلك جريمة خلقية، لأنه – ولأنه فقط – يتنافى مع تقاليدنا! وهذا الاختبار تحكمي كما ترى، لأنه لا ينبغي أن نحكم على أمر ما صوابا أو خطأ لأنه يتمشى أو لا يتمشى مع تقاليدنا بل ليكن حكمنا بحسب ما إذا كان يتلاءم أو لا يتلاءم مع التقدم البشري والفائدة الإنسانية أي فلتكن نظرية الفائدة هي ميزان الأمور. أما ما يتصادف من عدم تلائم بعض الأنظمة الاجتماعية مع التقاليد فهذا مما لا بد من الاصطدام به إذا كانت مجاراة المدنية هي رائدنا، لأن التقاليد معناها ثبات قوم على حال معين، والمدنية معناها اضطراد التطور، والتطور والثبات نقيضان. على أن تقاليد الأمة المصرية التي يجب أن تكون خاضعة لسنة التطور كما بينا قد خضعت له فعلا. ولذا فإن الأمر الواقع الآن، هو أن الرأي العام أو الأغلبية المتنورة منه، لا تستهجن أي مظهر من المظاهر التي تنطوي على تحرير المرأة، وإذن فالأستاذ يرى التقاليد التي دافع عنها على غير ما هي عليه، ولو أنه نظر إليها بالعين المجردة من التحزب للرجعية لرآها على حقيقتها. ويسلم الأستاذ بأن التمثيل ضرورة اجتماعية، ومن المسلم به أيضا أن الرقص التوقيعي ضروري للتمثيل لأنه ينمي حاجة التناسق في حركات الممثل وإشاراته وإلقائه فإذا كان التمثيل ضروريا بالدولة، والرقص ضروريا للتمثيل، فباستنتاج منطقي بسيط نستطيع أن ننتهي إلى أن الرقص لازم في معهد التمثيل. وبمثل هذا المنطق يمكننا أن نثبت لزوم اشتراك الفتيات في الالتحاق بمعهد التمثيل لأن التمثيل لا يتصور قيامه بغيرهن».
اشتعل الأمر، وبدأ الهمس بين الجميع عن رغبة منيرة صبري رفع دعوى ضد الشيخ محمود أبي العيون، فحاول الشيخ تلطيف الأجواء، فزار المعهد مرة أخرى!! فكتبت مجلة الصباح كلمة عن هذه الزيارة، قائلة: «.. دعت إدارة المعهد التمثيلي الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون لسماع المحاضرات، التي يلقيها أساتذة المعهد على الطلاب، فلبى الدعوة وسمع محاضرة الدكتور طه حسين عن تاريخ الأدب المسرحي، ومحاضرة الأستاذ زكي طليمات عن حرفية المسرح، وأبدى رغبته في حضور حصة الرقص التوقيعي، الذي تعلمه للطلاب والطالبات السيدة منيرة صبري. ولما علمت السيدة منيرة صبري بزيارة الشيخ أبو العيون لحصتها رفضت ذلك احتجاجا على إهانته لها في قوله عنها إنها (تلقن الطلبة والطالبات دروس الدعارة في المدارس) وانصرف الأستاذ أبو العيون من المعهد ولم يحضر حصة الرقص. ويقال إن السيدة منيرة صبري تفكر في رفع دعوى على فضيلة الشيخ محمود أبو العيون حيث اعتبرت الجملة التي وجهها إليها إهانة».
وبعد أربعة أيام فجرت مجلة الصاعقة مفاجأة، عندما نشرت حوارا مع الشيخ أبي العيون، تحت عنوان (الاعتراف بالحق فضيلة)، قالت فيه: «... تقوم في معهد التمثيل حركة غريبة وفتنة لا نعرف إلى أي حد تصل. قالوا إن وزارة المعارف أذنت للشيخ أبي العيون بزيارة المعهد والاطلاع على ما يجري فيه وإبداء رأيه في حالة التعليم، وبنوع خاص في اختلاط النساء والرجال من بناته وشبانه أثناء التمثيل........ حدثني الأستاذ [يقصد الشيخ أبي العيون] قال: وبعد أن تجولت في أنحاء المعهد وحضرت فصلا مما يمثله التلاميذ قصدت غرفة الاستقبال فوجدت فيها السيدة منيرة صبري المعلمة بالمعهد ومفتشة الألعاب بالوزارة وإلى جانبها أحد كتاب الصحف فوجهت كلامي إلى السيدة منيرة وهنأتها بنجاح المعهد وما لاحظته على بناته من كمال الأدب. وقلت لها قبل أن آتي إلى هنا كنت أظن أن التمثيل مدرسة للدعارة فخاب ظني وتأكدت من أنه مدرسة للفضيلة وترقية الآداب. قال: والظاهر أن الصحافي الذي حضر حديثي لم يفقهه أو أراد نكايتي أو إحداث فتنة في البلد، فكتب في صحيفته رسالة عزاها إلى فتاة من الطالبات قالت فيها إنني سبيت السيدة منيرة واتهمتها بتعليم البنات الدعارة. وفي اليوم التالي قرأت أن السيدة منيرة عزمت على رفع الأمر إلى القضاء واتهامي بأنني وجهت إليها أمرا لو إنه ثبت عليها لحقرها بين مواطنيها ودعا إلى عقابها. قلت: وماذا أنت فاعل إذا صدقت رواية الصحيفة ورفعت السيدة منيرة الأمر إلى القضاء؟ قال: في هذه الحال أنكر كل ما قلته في قاعة المعهد، وأقرّ أمام المحكمة أن ما اتهمتني به السيدة منيرة صبري صحيح وأصر على أن تعليم التمثيل دعارة.. وللمحكمة أن تفعل ما تشاء. هذا ما يقوله الأستاذ أبو العيون، وويح الأخلاق من حملة الأخلاق! والمسألة كما ترى أن هي إلا مكابرة في الحق وإصرار على التمسك بالباطل من باب العند لا أقل ولا أكثر! فالشيخ أبو العيون يعترف بأن التمثيل مدرسة للفضيلة وترقية الآداب، ولكن الكبرياء الكاذب أو حب الشهرة الكاذبة والاتجار باسم الدين يأبى عليه أن يصارح الناس بهذه الحقيقة. فما رأي علماء الدين في زميلهم أبي العيون، وهم يعلمون طبعا أن المكابرة في الحق ضرب من الكفر؟».
نختتم هذه القضية بمقالة منشورة في جريدة المساء في يناير 1931؛ وهي مقالة مهمة؛ لأنها رد من طالبة المعهد إحسان الشريعي على الشيخ أبي العيون!! والمقالة وثيقة مهمة، تعكس مدى قدرة الطالبات العلمية في ردهن على مشايخ الأزهر في هذه الفترة، دفاعا عن معهدهن!! قالت الطالبة تحت عنوان (التمثيل من الوجهة التاريخية والعصرية): «طنطن الرجعيون وهولوا على صفحات الجرائد عن هذا المعهد والغرض من إنشائه فتناولوه بالسوء من كل ناحية من نواحيه وقد أعمت الغيرة أبصارهم وامتلأت بالحقد أفئدتهم فصاروا يهذون بما جادت به قرائحهم بادعائهم الخوف على الفضيلة. ولو أمعن الإنسان النظر لوجد أن تلك الحملات الشعواء لم تكن إلا من جانب أناس يهمهم الحط من قيمة المعهد أو بعبارة أخرى هم من الممثلين الذين يخافون على مراكزهم ممن هم أكثر منهم علما ودراية بهذا الفن الجميل. وإن كنت أريد أن أتناول كلا منهم بالرد على ما افتراه إلا أني سأدحض كل أقوالهم بأمثلة واقعية منها ما هو تاريخي ومنها ما هو عصري وأتناول الآن الكلام على الرقص التوقيعي من الوجهة التاريخية وهو المقصود بكل هذه الحملات وذلك ردا على ما أدعاه الأستاذ أبو العيون. كان قدماء المصريين يعنون بتدوين أساليب الرقص التي كان يبتدعونها إما بنقش القصص المألوفة على جدران القبور أو بتسطيرها في كتاب الموتى (وكتاب الموتى هو مجموعة اللفائف البردية التي كانت تترك مع الميت والمملؤة بالصلوات والأدعية وقصص الرقص التي تسر الآلهة وروح الميت فتمكنه على ما يعتقدون من دخول محكمة العدل وتكون بمثابة شفيع لدى الآلهة فيحكمون ببراءته وتساعده على دخول الجنة) والرقص لم يكن يتناول المخاصرة الشائعة الآن بل كان عبارة عن حركات منظمة على دق الطبول المستعملة في الحرب يؤديها الرجل والمرأة أمام بعضهما على أن لا يحصل أي تلامس بينهما إلا بالأيدي عند الدوران أو عند تغيير المواضع وهذا النوع من الرقص يشبه رقص البولكا الذي كان شائعا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فإذا توفى كاهن من كهنة المعابد مثلا وتقدم آخر لهذه الوظيفة كان عليه أن يؤدي امتحانا صعبا وشاقا جدا. كان عليه أن يمر في بئر قيل إنه موجود بالقرب من الفيوم وقيل إنهم كانوا يستعملون البئر العميق الذي بالهرم الأكبر والذي يؤدي إلى معبد أبي الهول ويمشي بجرأة في الظلام بدون طعام ولا سلاح يقيه من الحشرات أو الزواحف المؤذية التي قد تعترضه في طريقه ويستمر في سيره يومين أو ثلاثة حسب سرعته بدون طعام أو شراب إلى أن يصل إلى الفتحة الأخرى من البئر فيجد في انتظاره فتيات عذارى من أجمل بنات مصر يرقصن رقصا ابتدعته على أن يكون جديدا لديه لم يره لا في الحفلات الدينية ولا في الحفلات الخاصة. ويمضين في الرقص أمامه عدة ساعات وهن يعطينه من المأكولات ما لذ وطاب ثم يحملنه والعبيد الذين في انتظاره إلى معبد الآلهة حيث يتوج كاهنا لهذا المعبد. ولقد ذكر في بعض الأساطير أنه كان يتقدم إلى هذا الامتحان الصعب الكثير فكانوا يموتون من الخوف وسط الطريق حيث إذا مضت الثلاثة الأيام المقررة، أرسل غيره للامتحان ولم يذكر أنه نجح في تلك التجربة سوى ثلاثة كهنة على مر الأيام. من هذه الأسطورة يمكن القارئ تصور السعادة الكامنة في نفوس هؤلاء القوم حيث يعرضون حياتهم لخطر الموت رعبا وخوفا وهذه من أشنع الميتات للرغبة المتأججة في نفوسهم كي يصيروا كهنة فيرون من أنواع الرقص ما أطلق عليه الرقص التوقيعي لشبهه بما يدرس بالمعهد الآن. أتناول الآن الكلام من الوجهة الاجتماعية ونرجع إلى القديم فنقول: كانت المرأة المصرية في العصور التاريخية تخرج إلى الأسواق سافرة الوجه وتختلط بالرجال لشراء لوازمها فكانت ترى في الحقل تساعد زوجها في عمله كما أنها كانت تأخذ على عاتقها جزءا كبيرا من المهام أثناء غياب زوجها في الصلاة في المعابد. هذا الاختلاط كان مألوفا وعاديا حتى أنه لم يذكر في أسطورة من الأساطير المصرية القديمة حادثة واحدة من الحوادث الفاضحة إلا بعد دخول الفرس مصر فتفتحت أعينهم ودب الفساد في نفوسهم إذ كان الاختلاط شيئا مألوفا ولم يكن أحد ليفكر في أن يشتهي امرأة يراها وما ذلك إلا لتمسكهم بعقائدهم الدينية وخوفهم من غضب الآلهة وكانت بعض حفلاتهم الدينية في الحقيقة حفلات تمثيلية لتكريم الآلهة أو لطلب عفوها إذا ما ألمت بالبلد كارثة وفيها يختلط الرجال بالنساء ويرقص الجميع رقصا بديعا عدا بعض الحركات المضحكة التي يعتقدون أنها تسر الآلهة. والان أتكلم على الحرية الشخصية من الوجهة العصرية ونجد أن الفتاة الأجنبية يعلمها ذووها تعليما ابتدائيا لا ينطوي إلا على مبادئ بسيطة في الحياة ولكن التربية الأصلية منذ الحداثة كانت تلازمها للكبر فتجد الفتاة متى شعرت بالرابطة الجنسية تصحب خطيبها معها في كل غدواتها وروحاتها فلا تجد من ذويها أية معارضة أو تأنيب فتجد الفتاة أمامها الحرية تامة فتحسن استخدامها فلا يتطرق إلى ذهنها أن تسيء استعمالها حيث هي تفهم الضرر الذي يعود عليها من ذلك. أما عندنا فالفتاة كالسجينة تتعلم لتأخذ الشهادات المتوسطة والعالية وهي لا تفهم من أمور الحياة شيئا عدا أنها تجد نفسها أسيرة في المنزل كالعصفور تنتظر أمر والديها إلى أن يمن عليها الدهر بخطيب لم تره قبلا ومن ثم تتزوج به وبعد أسبوع إن لم يكن بعد يومين الطلاق المحتم لماذا لأن مزاجها يختلف عن مزاجه تمام الاختلاف فهي لم تفهمه ولم يفهمها. التمثيل الحديث في الأقطار الأوروبية – لم يكن يوما من الأيام محطا لهجو مراسلي الجرائد بسبب وبدون سبب لغرض الكتابة. هل أعمالهم وحريتهم في المخالطة رجعت بهم وبأخلاقهم فتدهورت بلادهم بسببهم إلا أنهم رغم ذلك بقوا ولهم السيطرة على العالم وهم نور المدنية، لماذا؟ لأنه لا يتطرق إلى أذهانهم مثل ما يتطرق إلى أذهاننا من الأفكار السيئة التي تفتح أعين الشباب الممتلئ حمية. يا قوم عصركم غير عصرنا فاتركونا وشأننا فأنتم لستم سوى أقلية بسيطة إذا امتلأت حناجركم بالصراخ فستضيع صرخاتكم كما يضيع صوت القطة بين زئير السباع. من هذا يمكننا أن نفهم فوائد اختلاط الجنسين إذا ما أزيلت تلك الأفكار السيئة التي تنتاب بعض ذوي العقول الوضيعة من طبقة خاصة رجعية جنت على البلد بقوميتها المنقرضة. [توقيع] إحسان محمود عفت الشريعي الطالبة بالمعهد».