«سعدون المجنون» تائه فى التاريخ

«سعدون المجنون» تائه فى التاريخ

العدد 800 صدر بتاريخ 26ديسمبر2022

 منذ بداية الزمن وحتى يرث الله الأرض ومًن عليها، سيظل التاريخ هو أساس المستقبل، القريب منه والبعيد، للبشرية. أحد البديهيات التى تعلّمنها كجنس بشري، والتى أنجتنا وأطالت بقاءنا حتى اليوم لاستعمار الأرض.
  نتناول اليوم واحدة من أهم أعمال المسرحي العظيم «لنين الرملي» مأساته السياسية والتاريخية والاجتماعية »سعدون المجنون». والتى رغم إنها تحكي عن تاريخ بدء من ستينيات القرن الماضي، وربما قبله، وأمتد حتى عام 1992، إلا أن الحكاية تصلح للحكي عن مأسي تقع فى الألفية الجديدة، ولا نعلم مدى التاريخ الذى يمكن أن تصلح للتعبير عنه مستقبلا.
 تنقسم مسرحية»سعدون المجنون» إلى جزئين اساسييين، الجزء الأول هو التاريخ الشخصى لبطل المسرحية»سعدون» والذى تماهى مع التاريخ العام لمصر والعالم العربي. أما الجزء الثانى من المسرحية فهو التاريخ العام لمصر والعالم العربي، والذى تداخل مع التاريخ الشخصى لبطل المسرحية.

انسحاب العام على الخاص
يختلف الناس فى التأثر وتقبّل النكبات. فمنهم مَن تشحنه الإبتلائات بقوة أكبر للنضال والاستمرار، ومنهم من ينكر ويمضي فى طريقة، وبعض مرهفي الحس ربما يتوفون، والبعض الآخر يصابوا بالجنون. وسعدون كان من الفئة الأخيرة. أصيب جيش بلاده بهزيمة فى معركة كبرى فهُزم عقله أيضا. أنتكس جيش البلاد فانتكست عقول بعض أهله.
ولم يستفق عقل سعدون من حالة الجمود التى توقف عندها، منذ هزيمة يونيو1967،  إلا بضربة أقوى. فبعد عجز عقله عن تخطى حائط الهزيمة الذى أنهار فجأة، ليكشف عن نكبات، ربما أقوى، آلمّت ببلاده فى أغلب النواحي. ظل سعدون المجنون طوال خمسة وعشرون عاما يعيش الهزيمة، والتحضير للحرب، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، واشتراكية عبد الناصر، والاتحاد الاشتراكي، واغنيات عبد الحليم الوطنية.
فى هذا الجزء من المسرحية، يضيء لنا»لنين الرملي» الكثير من جوانب الحياة فى فترة الستينات، الأغنيات الوطنية الاعتقالات المفرطة، منظمات العمل السياسي السرية وغيرها.
أيضا يتجلى فى ذلك الجزء الدرجة التى وصل إليها حال الثقافة والتعليم من انحدار ونراه فى مشهد الافتتاح للمسرحية عند اجتماع الأطباء ممن سيقررون مصير مريضهم، وتبيّن مدى أنقسام أرائهم كليا، ليس عن قناعات تسكن عقولهم بصحة ما يجزمون به، إنما عن جهل.
أيضا من الظواهر الدرامية التى ركّز عليه ذلك الجزء هو حالة الانقسام التى تسود كل شيء. وهذا ما عبّر عنه المشهد الثانى»فى بيت سعدون» وهو النموذج المصغر لبلد بأكمله تمثلت فيه الانقسامات والاختلافات، والتغيرات، قبعد مرور 25 عاما، بالتأكيد تغير كل شيء فى البيت والبلد.

الانقلابات الدرامية
فى المشاهد التى مُثلت فى بيت سعدون، يجسد الشخوص فيه الانقلابات الدرامية الحياتية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التى حدثت طوال الخمسة وعشرون عاما. فمثلا، بعد أن كان معيار الترقى الاجتماعي بين الطبقة الوسطى هو التعليم، أنقلبت الآية وأضحى المعيار هو إما التحول إلى أقصى اليمين والتأيد المطلق، وإما جمع الثروة بعض النظرعن مصدرها، أما التعليم والشهادات الجامعية لم تتخطى كونها للوجاهة الاجتماعية. وكانت شخصية»زينهم» وسياسة الإنفتاح بالمسرحية نموذجا.
بالبيت أيضا يعيش النموذج النقيض وهو”هجرس” الأخ الأكبر لسعدون، والذى كان فى السابق أحد مهندسي السد العالي، ودخل المعتقل(معتقلات الستينيات) وعُذب ونُكل به، وظل طوال ال 25 عاما التالية يحاول أن ينسى تلك الثلاثة أسابيع فقط، لكنه فشل فى النسيان وفشل فى حياته بأكملها، ولم ينجح سوى فى أدمان الخمر والثمالة. كان اعتقال»هجرس» واحد من أكبر الأسباب التى عطلت عقل سعدون عن العمل. فهو كما سيتذكر لاحقا، من قدم فى أخيه وأصدقاءه تقرير للأمن وعلى اثره أعتقل وعُذب. فى تلك الفترة حيث كان الجميع معتقلا. من كل التيارات ومن كل الاتجاهات ومن غير اتجاهات ولا حتى مبادء سياسية كما فى حالة هجرس. اعتقل الصحفيين والكتاب والممثلين والطلاب والمحامين، شيوعين واشتراكين وأخوان.
ثم يأتى التغير الطارئ الجديد، المتمثل فى ولادة جيل جديد»جهاد وهيثم» جيل لم يعرفو سوى ما يُحكى لهم من التاريخ الخاص بالعائلة والبلاد. هذا الجيل الذين لم يعرفو عن عمهم سوى أنه»سعدون المجنون».
من هذا الجيل يظهر الفتى»جهاد» والذى سيعجب لأبعد حد بعمه سعدون، وسينقاد وراء كل مايقول ويفعل ويفكر، بل وسينفذ كل ما يملى عليه دون نقاش، رغم أن الفتى لا يرى فى الواقع مايدل على حدوث مايقوله العم، مثلا عندما اتفق معه على تكوين تنظيم سرى للحشد وتعبئة الجماهير استعددا للمعركة والحرب وهذا مالم يراه الفتى فى حياته اليومية.
 لكن وكما أظن، أن»لنيين الرملي» قصد بشخصية جهاد أن يعبر بها عن حالة جيل بل اجيال جاءت إلى العالم مفتقدة(القدوة والمثل الأعلى) ففى خضم الأحداث، سوف يصرح جهاد لعمه سعدون بأنه يحبه وينصاع له لانه صاحب مبادء وشرف، وهذا مالم يسبق للفتى أن رأه فى محيطه. فلم يسبق لأبيه(الجاهل الإنتهازي) أن جلس وتحدث إليه كما يفعل العم المجنون، بل لم يكن يخاطبه سوى ب(ذاكر ياحمار) وهذا ماجعل الفتى يُسلم عقله لأول من أوهمه بفكرة وانها الأصح، لكن لما اكتشف الفتى هذا الوهم وزيف الأفكار والمبادء التى من اجلها تنازل عن عقله، كانت العواقب وخيمة.
وكما فى الواقع حيث نحصد وسنظل نحصد افتقاد الصغار للقدوة والمثل الأعلى، والانصياع وراء كل صاحب مصلحة. فعندما اكتشف جهاد فى اخر مشهد قبل ان يُجن، كذب العم الذى لم يكن ذو مبادء ولا شرف بل هو من دل على اخيه ليُعتقل، أول من وجهه إليه المسدس كان العم الكاذب ولقبه بالكافر، دلالة على أن العم لم يكن وحده من يلعب بعقل الفتى،الذى فقد عقله واخذه الطبيب إلى المشفى.

العنصر النسائي فى بيت سعدون.
“الأم، ووفاء الحبيبة” أما عن الأم فهى ككل الأمهات، لكنها ثكلي لأسباب عدة، بسبب ابنها الشهيد فى حرب اليمن والتى ترفض تصديق خبر استشهاده ولا تقدر على سماع شيء سوى أنه مفقود وسيعود يوما ما. وهى ثكلى فى ولدها سعدون الفاقد لعقله، والذى لم تره سوى مرة واحدة طوال 25 عاما قضاهم فى المشفى، وثكلى لفشل ابنها هجرس المدمن على الخمور، وثكلى لاستغلال وانتهازية ابن اختها زينهم. ولكنها رغم كل شيء تنتظر حدوث الأفضل.
أما»وفاء»والتى كانت حبيبة سعدون والتى طرأ عليها كل التغير حتى انقطعت صلتها تماما بتلك الفتاة الصغيرة التى احبت ابن الجيران. وفاء التى تغيرت(سلبا) بكل التغيرات التى يمكن أن تطرأ على كل امرأة تعيش بمثل ظروفها. تغيرت شكلا وعقلا.
فأصبحت(سمينة) وفظة وعجوز قبل آوانها. لكن أيضا أصبحت شخصية لا تعرف لنفسها فائدة فى الدنيا ولا لماذا تعيش فى هذا العالم، أصبحت سيدة مستلبة تماما.
 فبعد ان فقدت الأمل أن يعود حبيبها سعدون إلى عقله، تزوجت زينهم ذالك الشخص الذى ضمن لها معيشة بلا مشقة أو تعب، تزوجته دون أن تحبه، وفشلت فى إقامة علاقة وثيقة مع ابنها، وفشلت فى أن تصبح له قدوة كما كان جهاد يتمنى. وفى أحد المشاهد اعترفت وهى حانقة على نفسها والعالم، إنها لا تفعل أى شيء فى حياتها سوى الأكل ومشاهدة المسلسلات حتى أصبحت متخلفة أكثر من المسلسلات نفسها.

كل يغني على ليلاه
ينتهى هذا الجزء من المسرحية، بالمشهد حيث يعترى الجميع الجنون، وينساقون وراء فكرة سعدون. يرجعون هم أيضا حيث تتوقف ذاكرتهم عند عام 1967، عندما كانو لا يزالون يعرفون أنفسهم وهوياتهم. ماعدا زينهم الذى كان راضيا تماما عما وصل إليه، ولذلك ظن أنهم جميعا سرت إليه عدوى جنون سعدون الذى كان يستعد للخروج إلى الشارع لحشد الجماهير للحرب، وهم فى اعقابه حتى يحولوا بينه وبين المشكلات التى ستواجهه(ظاهريا) لكن فى مكنونات قلوبهم، وكما جاءت نصوص أدوارهم، بأنهم يتوقون للعودة إلى زمانهم القديم ولربما لن يفعلوا مافعلوا واوصل حيواتهم إلى ما وصلت إليه.
وفاء التى اعترتها لحظة التمرد وهى تركض وراء سعدون فى الشارع، وتقول لزينهم(أنا ميصحش فعلا اقعد ساكته اتفرج على اللى بيحصل، وهتطوع فى التمريض، الست مش أقل من الراجل)
أما»الأم» هى الاخرى تذكرت ذالك العام عندما سمحت لابنها بالخروج اخر مرة رأته ولم تراه بعدها لمدة 25 عام وقالت(ماكنتش اتصور انه ينزل الشارع والغارة شغالة.....ياخوفي لتنزل عليه قذيفة!).


الجزء الثانى من المسرحية
  فى هذا الجزء سوف تخرج بنا المشاهد إلى الفضاء العام حيث الشارع ثم المقهى. الشارع الذى اصبحت سمته الرئيسية هى الزحام، والذى لم يستوعبه سعدون، ومظاهر الثراء التى طرأت على البعض، وكثرة السيارات، وهو الشيء الذى لم يألفه سعدون قبل دخلو المشفى، فلقد كانت السيارات من مظاهر النظام الإقطاعي الذى قضت عليه ثورة يوليو، حتى أن سعدون فى وسط دهشته يقول(كيف زاد عدد الإقطاعيين فى البلاد هكذا!)
ثم ناتى لمشهد المقهى حيث لازت الشخصيات»سعدون ووفاء وجهاد وهيثم» طلبا للراحة. وفى المقهى اجتمعت والتقى سعدون بكل الطبقات والاتجاهات التى تكوّن المجتمع المصرى سواء الاتجاهات القديمة أو التى ظهرت مؤخرا.
بدء الحديث بين الشخوص الأربعة ثم توسع النقاش ليشمل كل رواد المقهي
الشاب: ذلك الشخص الضائع(ومن مثله) ممن لا يجدون عمل ولا أموال ولا مكان للعيش ولا أمكانية للزواج، ولا يسعى لشيء سوى الهجرة للخارج، وحتى هذا لا يقدر عليه أيضا.
الشخص: وهو رمزا للشخص الذى مثّل التيار الإسلامي المتشدد الذى ظهر أيام السادات، يكفر المجتمع ولا يرى آمل فى أى تغير للأحسن سوى بتطبيق الإسلام(كما يراه) على المجتمع الكافر ليصلح من أحواله.
المثقف: ذلك الذى لا يعرف من الطرق الإصلاحية، ويمارس التغير والثورة، ويتمرد ويغير العالم كله وهو جالس على المقهى، ولا يعرف سوى(سياسية المقاهى) ولا يشجع سوى الحرية التى لا يمارسها ولا يستطيع ممارستها.
الكهل: ما يزال يعيش أيام الملكية(ملك أكثر من الملك ذاته) يكره ثورة يوليو ويراها انقلاب عسكري، ولا يجد سوى الملكية للإصلاح.
الجرسون والبائع: وهما يمثلان الشعب المطحون ويكرهون الحكومة(أي حكومة) ولا يهتمان سوى بلقمة العيش.
 فى هذا المشهد، يُظهر لنين الرملي، مدى التخبط وفقدان الهوية الذى يغرق فيه الجميع، ايضا الفكر المنقوص لدى الجميع والذى يجعل كل واحد منهم يرى صواب رأيه على الإطلاق وخطأ رأى الأخرين تماما.
لذا جاءت نهاية مشهد المقهي عبثية، ربما. فالجميع يتحدثون فى آن واحد، لا أحد يسمع أحد، الكل مشغول بهيمنة رأيه حتى يصل الأمر بهم إلى التشابك بالأيدى، وضرب سعدون، وما خلصهم من الاشتباك سوى مسدس جهاد الذى صوبه نحوهم ففرو.
يذهب سعدون إلى مكتب ضابط الأمن ليحكى له عن المؤامرة الكبرى التى تحدث فى البلاد حتى لا يخوضو الحرب، وحتى يشوهو صورة الثورة والنظام.
رجل الأمن الذى يتلهف فى البداية لسماع تلك الكارثة التى حضر بها سعدون، وما يلبث حتى يدرك أن الرجل ضائع فى زمان مضى، ويأتي هجرس الأخ ويؤكد للضابط اختلال عقل أخيه، وتأتى الأم أيضا لتسقط بين ولديها مغشيا عليها عندما يضربان بعضهما بعدما اكتشف بل تأكد هجرس أثناء حديث أخيه سعدون، أنه هو من دل عليه وأصدقاءه ليعتقل قديما.

الإفاقة والصدمة
بعد العودة إلى المنزل بعدما تكشفت كل الحقائق أمام الجميع وسعدون أيضا الذى تذكر ثم عرف انه انقطع عن العالم مدة 25 عام. ويأتي الطبيب فى الموعد الذى حدد سابقا ليقرر ما إن كان سعدون سيرجع المشفى أو انه سيترك فى بيته، واكتشف ان عقل سعدون رُد إليه، لكن الطبيب عاد بمختل اخر. جهاد الفتى الذى انهار عقله بعدما انهار امامه مثله الأعلى الذى ظن انه كان له ملجأ وقدوة.

الملامح الأساسية للمسرحية
  تناول التاريخ. وهو من السمات الرئيسية لأعمال”لنيين الرملي” ففى سعدون المجنون، تحدثنا عن نكبة 1948، حرب اليمن، النكسة 1967، وحرب الاستنزاف، وانتصار أكتوبر، مقتل السادات، تزايد نفوذ الجماعات الإسلامية، التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المريعة والمخيفة التى حدثت أعقاب سياسة الانفتاح، ومقتل رئيس وتولي آخر.
  السمة الأهم والأقوى فى كل أعمال الرملي، كتابة الأعمال السياسية مرتدية عباءة الكوميدية. مزج الواقع المرير سواء السياسى والاجتماعي والافتصادي، بالنكات المضحكة لكنه ضحك كا البكاء.
رغم أن المسرحية تناولت المشكلات، لكن الحيرة ليست فى معرفة المشكلات التى يغرق الناس بالفعل فيها، إنما الحيرة فى الحلول التى للأسف ليس من ضمنها النسيان على طريقة سعدون المجنون. 


سماح ممدوح حسن