الممثل والكتابة لخشبة المسرح: تشكيل الجسم

 الممثل والكتابة لخشبة المسرح: تشكيل الجسم

العدد 631 صدر بتاريخ 30سبتمبر2019

من بين المسائل اللغوية المرتبطة بالكتابة للمسرحية، يحظى التمثيل بمكانة خاصة . وسؤال التمثيل سؤال مركب لأنه يتعلق بالمقدار الهائل والمتنوع للوثائق الصادرة في القرن العشرين حول مهنة التمثيل والممثلين بشكل عام . والمسرح الذي يرتكز علي الكتابة المسرحية ليس غريبا عن هذه الإشكالية . بالطبع ظهرت في داخل  تيار المسرح الحالي بعض النظريات والممارسات التي أثرت بدرجة كبيرة علي دور الممثل في مسرح القرن العشرين، كما اتضح في أعمال كل من جروتوفسكي، وبروك، و باربا، ولي ودي برادينيس، وساندرو لومباردي . من الواضح إذن أن مسألة الممثل والتمثيل في الكتابة المسرحية تلعب دور مهما، ولكنه منفصل، بالمقارنة إلي أشكال الكتابة الأخرى، لأنها تركز علي شكل معين من التعبير المرتبط بأساليب تقنية معينة وعمليات تشكيل معينة . ويمكن أن تكون معالجة المشكلة في مجملها خارج نطاق هذه الدراسة . وما نتمنى أن نفعله، رغم ذلك، هو التركيز علي مسألة أكثر تحديدا، وهي هوية الممثل المسرحية، بمعنى، الممثل كجسم علي خشبة المسرح . فماذا نعني بذلك ؟  فبالجسم علي خشبة المسرح  نقصد أن نشير إلي الصور المادية لحضور الممثل علي خشبة المسرح، في علاقته بأشكال الكتابة الأخرى، ولاسيما المكان .
     عندما تناول ( مايرهولد)، في المرحلة الأولى من تطوره، مسألة تقاليد المسرح، كانت أول مشكلة واجهها هي تعديل لغة الممثل الي مسرح لم يعد مهتما بالتمثيل، أو الخصائص النفسية للشخصية، أو تصوير النص الدرامي  .  وفي هذا السياق، فكر أنه كان من الضروري أن يطور الممثلون شكلا جديدا وخاصا تماما في التعبير، يدور فعلا حول وجودهم علي خشبة المسرح . وكان يجب أن يعبر هذا الحضور عن نفسه . بالنسبة ل( مايرهولد)، من خلال الحركة وبالإيماءة، بمعنى الخصائص التعبيرية المرتبطة بالمرونة . فبداية من النظريات التي قدمها (كريج) عام 1905، قرر (مايرهولد) أن الكلمات تخاطب الأذن وتخاطب المرونة العيون . وبالتالي، يجب أن يوجد علي المستوى البصري أيضا نموذج يسمح للمشاهدين أن يفسروا بشكل صحيح المشهد . ومنذ البداية، كانت الحركة بالنسبة ل (مايرهولد) مفتاح عمل الممثلين، والعنصر الأساسي لتعبيريتهم، وهي فكرة عبر عنها في نظريته البيوميكانيك biomechanics . يبدو أن فن الممثل، بالنسبة ل(مايرهولد) يدرس نوعين من الاحتياجات : احتياجات مرتبطة بالنص، تنشأ من النطق الصحيح للغة الشعرية، واحتياجات مرتبطة بخشبة المسرح، والتي تتطابق أساسا مع الحركة . ولم تكن هذه الصورة المزدوجة للمثل تجديدا، وكان (مايرهولد) يعي ذلك تماما، اذ قال ان المسرح القديم نظر الي المرونة باعتبارها وسيلة ضرورية للتعبير (وأشار إلي الممثل “سالفيني” في مسرحية هاملت أو عطيل) . ولكن شكل المرونة القديم يتطابق مع اللغة المنطوقة، بينما المرونة التي يريد أن يستخدمها لا تتطابق مع الكلمات . وقد استخدمت الحركة، التي تم دراستها بعناية بواسطة الممثلين في القرن التاسع عشر، ولاسيما الايطاليين، في تأكيد العنصر الشفهي، اذ كتبت لغة الجسم، وحضوره في المشهد، في نفس إرشادات اللغة الشفهية . وعلي هذا النحو، كانت ضرورية لأسلوب الممثل ولكنها ظلت عنصرا ثانويا، ينقصه الاستقلال التعبيري . ومجرد نتيجة للتمثيل . وبدلا من ذلك فكر (مايرهولد) في مرونة لا تتطابق مع الكلمات وتفسر المفهوم من خلال مثال فصيح. تخيل مثر أننا نشاهد اثنين يتحدثان ولكنهما لا يسمعان حوارهما، ويتحدث الاثنان عن الفن، وحالة الجو، الخ، ولكن إيماءاتهما تنقل شيئا آخر . فالإيماءات لا تحدث بالتوازي مع الحوار، ولمنها بدلا من ذلك توحي بعلاقتهما العميقة، سواء كانا صديقين أو عدوين أو حبيبين، فما الذي يمكن أن نفهمه نحن المتلقين ؟ بالتأكيد لن نفهم النقاش الشفهي ( الذي لا نستطيع أن نفهمه ) . بل هو التواصل اللغوي الذي نتخيله ويسمح لنا بفهم الأشياء التي لم نكن لنفهمها أبدا لو تمكننا من سماع المحادثة وركزنا عليها بشكل حصري . والإيماءات في المسرح، بالنسبة ل (مايرهولد)، يجب أن توظف بنفس الطريقة، فبدلا من مصاحبة الكلمات، فانها يجب أن تحدد سجلا تواصليا مع أفق معناها . ويسمح هذا السجل للممثل والمخرج، بشكل منفصل عن النص الشفهي، بالتدخل في النص والشخصية التي تتبع تفسيراتها الذاتية والمستقلة . وهنا إذن يكمن الفرق . فالتمثيل التقليدي يربط الايماءات بالكلمات . وفي المسرح الجديد يجب أن يكون لكل منهما ايقاعه .
     وعندما قدم (مايرهولد) بعد خمسة عشرة سنة مسرحية (كروملينك) “ القواد الكبير Le Cocu Magnifique “، فقد كان السجل الذي اقترحه علي الممثلين يقوم علي المسافة بين الاتصال الشفهي وغير الشفهي . لا يعني هذا استقلالهما الكامل بل بالأحرى التداخل بين الشفرتين المختلفتين . وخلال هذه السنوات، كان (مايرهولد) مرتبطا بمرحلة بنائية في بحوثه، التي وضعها في نظريته البيوميكانيك Biomechanics وقد تأكد مفهوم استقلال الإيماءة وتنظيمها علميا . فقد دٌرست الايماءة في محتواها البنيوي، وتم تفكيكها وتحليلها وتقسيمها إلي أجزاء يجب أن يؤدى كل منها وقا لمعيار خاص بها ثم يعاد تجميعها بنفس الطريقة، وعلي الرغم من سيولة النتيجة النهائية، تظل الديناميات البنائية التي أنتجت إيماءة مرئية .
      وقد استخدم هذا النسق في عرض “ القواد الكبير” لكي يصف المظهر الخارجي لمختلف الشخصيات . وقد كان مطلوبا من الممثلين تبني مواهب أكروباتية، بلهوانية، تقوم علي الدمج والإيماءات الآلية، التي تبدأ من الإشارة إلي الواقع، ولكنها بتعد نفسها عنه، مؤكدة علي اصطناعية الحركة . وبهذه الطريقة، خلق تفسير كل ممثل، وعمل الممثلين المشترك، تخطيطات إيمائية . وقدم هذا المنهج سجلا للايماءات والحركات، التي استخدمت لإبعاد المشهد عن الحبكة والهوية السيكولوجية للشخصيات، السطحية والمترسبة فعلا . بينما من الناحية الأخرى يستخدم السجل للفصل التمثيل عن النص، ومن الناحية الأخرى، يساعد في تكامله مع المشهد . وقد تكامل الأكروبات الإيمائي في عرض “ القواد الكبير” في آلية المشهد التي ابتكره (بوبوفا Popova) وأفعال الممثلين هي في الغالب جزء من المشهد . فهم يقيمون علاقة بين ديناميات الجسم وديناميات الأشياء الحميمة . ونتيجة لذلك، تعتمد لغة التمثيل علي الكتابة المسرحية بشكل أكبر، ناهيك عن النص . ويمكننا أن نحتج بالطبع بأن الممثل، في مسرح ( مايرهولد)، يوظف كعلامة فعلية للكتابة المسرحية .
     يبدو أن العنصر الأول، اذن، والذي يميز حضور الممثل في علاقة مع المشهد في سياق حديث، هو الأهمية السيمانطيقية ( المرتبطة بالمعنى) للإيماءات، باعتبارها سجلا مستقلا قادر علي التدخل في دراماتورجيا الحدث الدرامي من وجهة نظره . ومن هذا المنظور، من الممكن أن نتحدث عن الحركة باعتبارها شكلا فعليا للكتابة . والنتيجة الثانية هي أن لغة الممثل يجب تأملها في علاقة مع تعبيرية الجسد ككل . بمعنى آخر، في مقارنة مع التقاليد الأكاديمية التي ركزت علي دراسة الإيماءات بشكل رئيس علي أساس الأطراف العلوية، مع اختزال أجزاء الجسم الأخرى الي مجرد وظائف داعمة، وعلي مدار القرن العشرين، ينظر الي الجسم بشكل متزايد باعتبار أن كله تعبيري، بمعنى أن كل طرف وكل جزء في الجسم يمكن أن يكون له قيمته التعبيرية .
     وقد تقرر هذا بوضوح من جانب (يوجينو باربا) في مناقشته “ المواد قبل التعبيرية “ المستخدمة في التمثيل . وبالمواد قبل التعبيرية، يشير ( باربا) إلي عمل الممثلين علي أنفسهم، وعلي القدرات التعبيرية للجسم، والحركة، والصوت، والإيماءة، قبل تطبيق أي منها علي شخصية بعينها . وهذا هو شكل الدراسة والتطبيق التي يستخدم من ناحية لتدريب الممثلين في العملية الإبداعية للعرض المسرحي ومن الناحية الأخرى يساعدهم علي اكتساب قدرة تعبيرية و وتقنية، تميزان أسلوبهم الفردي . وبالتالي فهو نوع خاص من التدريب الذي يستخدم للإبداع – باستعارة تعبير (مايرهولد) في البيوميكانيك – كنوع من مساحة التخزين، والمكان الذي يمكن أن يحتفظ فيه الممثل بمعلومات معينة وينميها .
     وطبقا ل (باربا) فان هذه المادة قبل التعبيرية لها خاصيتين : فهي من ناحية لغة تقوم علي العلامات ( الإيمائية والصوتية والوجهية )، وشكل من الكتابة التي تستخدم بشكل مستقل عن التعبير عن المعنى وتوصيله، ومن الناحية الأخرى هي كتابة تتدخل في الحضور المشهدي الآني للممثل . وهاتان المقولتان ضروريان في حجتنا . ويقول ( مايرهولد) إن نواة المادة قبل التعبيرية تهتم بالطبيعة الفعلية لفعل الممثل بشكل مستقل عن الرقص أو المؤثرات المسرحية . وبالتالي فهي بناء الحضور البدني البحت للممثل، وهو حضور يدرس الإمكانيات التعبيرية للجسم ويوسعها، أو بالأحرى العقل – الجسم، بمعنى الذوبان الكامل في الفعل والفكر، أو بالأحرى الفعل والضمير، والفعل والإرادة . وإذا كان لنا أن نرسم خريطة، علي أساس التبسيط، فيمكننا أن نقول إن مفهوم ( مايرهولد) ل(ما قبل التعبيري) يشير الي حضور الممثلين في المشهد، وتمثيلهم كأجسام في الفراغ دون أي إشارة بخلاف الجسم والفراغ في ذاتهما . ورغم ذلك، هناك عنصر يميز هذا الحضور ويؤهله : الابتعاد عن الإيماءات والسلوكيات العادية . في النهاية، السلوك المسرحي هو سلوك غير عادي، وبالتالي، فان استثنائية الموقف لا يمكن أن تتفادى أن تعكس نفسها أيضا علي لغة الجسم، فجسم الممثل، أو الجسم العقل في لغة ( باربا ) هو جسم له اختلاف لا تتطابق فيه العلامات والكتابة مع  نظيرتها في الحياة العادية . فالمرحلة قبل التعبيرية أولا هي تحليل وبناء . إنها تحليل للإيماءة والحركة من منظور الإمكانية البحتة وبناء قواعد تقوم علي العناصر التي تم تحليلها. والعمل علي المادة قبل التعبيرية يعني بالنسبة للممثلين تشكيل وجودهم علي خشبة المسرح . ويضيف ( باربا )، ان لم يكن الممثل مؤثرا علي المستوى قبل التعبيري، فهو ليس ممثلا، لأن ما قبل التعبيرية هي التي تمنح للممثل أحد معايير استقلاليته كفرد و كفنان . وبالتالي فان ما قبل العبيري هو تحويل حضور خشبة المسرح بالنسبة للممثل من معطيات ظاهرية خالصة ( الوجود هنا والآن ) الي كتابة، بمعنى التعبير عن العلامات المنتشرة بشكل واع . إنها تعبر عن القدرة علي بناء لغة تمثيل معينة، مستقلة عن تفسير الشخصية وعن الاتصال بالمعنى الدرامي من خلال الفعل . بمعنى أخر، يظهر ما قبل التعبيري باعتباره معطى مع تناغمه، ومستقل عن تناغم المعنى . وبالتالي فهو بناء من العلامات في مجال قبل اشاري pre-referential sphere، علامات بحتة، خالية من المعنى . فالمعنى يتحقق في فقط في مرحلة ثانية وليس بواسطة تداعي المعاني ( العلامة/الإيماءة التي توضح المعنى )، ولكن من خلال تدخل المستويات والشفرات . وحقيقة أن ما قبل التعبيري مستقل عن مستوى المعنى لا تعني أنه ليس له علاقة به . فهو بالأحرى يعني أن ما قبل التعبيري له علاقة بالعملية الإبداعية فضلا عن النتيجة النهائية، التي يجب أن تندمج مرة أخرى  برغم مختلف العناصر التي تميز العملية .
     ولذلك نستطيع أن نصف ما قبل التعبيري بأنه “ كتابة “ بواسطة الممثل نتجت خلال تحليل الحركة والإيماءة .. الخ . وهو شكل من أشكال الكتابة، ليس فقط لأنها علامات مدونة، ولكن أيضا، كما يقول ( بارث)، إنها مظهر دينامي لعملية غير مستقرة ومضطربة، في منتصف الطريق بين الأسلوب واللغة، والتعبير الفردي والبنية المدونة . فمن خلال هذه الكتابة – التي ليست كتابة تفسيرية بل كتابة مطلقة، بمعنى أنها تشير الي علامات تنتمي الي البعد يباشر إنتاج المعنى – يتدخل الممثل في الكتابة الكلية للمسرحية . فدراسة ما قبل التعبيري هي وسيلة لتنشيط المعنى الذي سبق أن أنشئه المؤلف، لقصة تٌحكى في أغنية شاعر، في تفسير المخرج، في سجل الألحان الراقصة، التي تم تثبيتها بواسطة التقاليد .
     ونظرية ما قبل التعبيرية التي وضعها (باربا) ( بوجهها الفعال المتمثل من خلال التدريب ودراسة تقاليد التمثيل التي تكرس اهتماما خاصا للتدريب علي التقاليد المسرحية الشرقية، والكوميديا دي لارتي، ومجددي القرن العشرين بما في ذلك مايرهولد وجروتوفسكي وديكرو وستانسلافسكي أيضا ) ربما هي أفضل ما يعبر عن فكرة التمثيل باعتباره كتابة مسرحية بأسلوب غير اختزالي من حيث تحديد خاصية محددة وأساسية في فن التمثيل . ونظرية (باربا) هي الخلاصة النظرية المركبة لتوتر مثالي وميل عملي يظهر بشكل متكرر في القرن العشرين نشأ من نقلة من المستوى التعبيري للتمثيل إلي التماسك المادي للبدني وحضور الممثل في المشهد . وهو الحضور الذي يؤثر، باعتباره علامة مستقلة وكتابة، علي الشكل العام ( وفقا لتعبير باربا)، النموذجي في أغلب مسرح القرن العشرين . وفي حين أن هذا الحواز حاسم في ميلاد فن الإخراج الحديث، فان له أيضا تأثير حاسم علي دور الممثل . وهذا بالضبط استجابة الي الحاجة لجعل المسرح يستعيد شكله المفقود، الذي وضعه ( كريج)، وفقا لكلام (باربا)، في نظرية “ الماريونيت “ . وحدث نفس الشيء مع مجددين عظام، كل منهم في مجاله، بداية من ( آبيا) وصولا إلي ( رينهارت ) و(كوبوه) . والمشكلة بوضوح هي أن المسرح تبنى نسق جديد من الشفرات اللغوية تقوم علي الكتابة لخشبة المسرح، لا يمكنها أن تتجاهل دور الممثل في هذا التحول . فإذا بقي المعنى في الرؤية – كما يؤكد (كريج) – عندئذ يجب أن يكون معنى الممثل مرئيا، ويجب أن يتطابق مع ما يحدث علي خشبة المسرح وليس في الصفحة ولا في داخل الشخصية . ففن الممثل يجب تجديده مع الحركة كأساس له . وتأمل الممثل باعتباره شكلا مسرحيا يعني فهم حضور الممثل علي خشبة المسرح باعتباره كائن يمثل، وبالتالي تشجيع المواجهة الفردية بين التمثيل والرقص .

     فما هي أرضية اللقاء بين فني الأداء هذين ؟ . انها بالتحديد تشكيل الجسم . ففي بداية القرن العشرين، كانت نظريات التمثيل والرقص تتغير جذريا . وبالمقارنة مع النظرية التقليدية، كان هناك اهتمام بقواعد تعبير جديدة في الحركة تقوم علي الجسم باعتباره شكلا متحركا، وشكلا عضويا حيا . ففي الرقص مثلا، كان الميل لترك البنية المدونة في البالية لاستعادة تكامل الحركة البحتة . وظهور فنانات مثل (ايزيدورا دانكان) و ( لوي فاولر) و ( روث سان دينيس) قد ميز نقلة حاسمة في هذا الاتجاه وإعادة تأمل مفهوم الرقص نفسه . فالرقص باعتباره تجل للجسم الإيقاعي، المتمرس في الحركة، ولكن أيضا المتحرر من التدوين الأكاديمي للإيماءة . وبهذا المعنى بالتحديد أصبح أبطال الرقص الحديث مصدرا ثمينا لإلهام المسرح التجريبي في بحثه عن هوية لغوية للممثل . ولعل الكلمات التي تذكر بها (جوردون كريج) لقائه الأول كمتفرج مع ( دانكان) بارزة بوجه خاص :  
            “ دخلت من خلال بعض الستائر القصيرة التي لم تكن أطول
              منها نفسها : دخلـت من خـلالهم وسـارت الي حـيث بوجـد
              موسيقي يوجه ظهره إلينا، وجالس علي بيانو ضخم .....
             الخطوة إلي الخلف أو الي الجانب، وعزفت الموسيقى مرة
             أخرى وهي تتحرك قبلها أو بعدها . انها تتحرك فقط – ولم
             ترقص علي قدم واحدة ولم تفعـل أي من تلك الأشيــاء التي
             نتوقع أن نراها . “
     لقد كان ( كريج) مأخوذا، في هذه المناسبة، بالإمكانيات التعبيرية للحركة المطلقة، قاطعة في جوهرها وحرة في احتمالاتها . الحركة التي لغة في ذاتها، وعلي هذا النحو، تسمح لنا أن نفهم الجسم باعتباره كتابة .
     في النهاية، مفهوم الكتابة بالجسم المتحرك باعتبارها الشكل الوحيد المعتمد للكتابة للمسرح بالإضافة إلي النص، قد اقترحها فعلا (مالارميه Mallarme) عندما وصف الرقص بأنه الشكل القابل للتصديق في الأداء، مشيرا بدلا من ذلك الي خيال القارئ الجالس علي الكرسي باعتباره خشبة المسرح المثالية للدراما الشعرية، فيما كان ينبغي أن يكون الإسقاط الذهني المجرد . وهذا لأن الرقص يمكن أن يكون شكلا للكتابة لخشبة المسرح الخالية من التأملات، فضلا عن توظيفه كمرشح قليل القيمة في الانتقال من النص الي الفعل علي خشبة المسرح . وعندما يتحدث (مالارميه) عن الرقص فانه يضع في اعتباره عروض ( لوي فاولر Loie Fuller)، والتصميم الراقص للحركة، وكتابة الجسم في حالة الفعل .
     وبالتالي هناك جذور رؤى المسرح الحديثة باعتباره عملية لاعادة تأسيس الشفرات اللغوية بطرق عديدة مماثلة لما كان يحدث في تلك السنوات في الرقص المعاصر . ويمكننا أن نقول – مع تأمل أهمية (آبيا) لتعاونه مع ( جاك دالكروز ) – إن الرقص المعاصر كان مصدر الهام وحافزا للبحث عن أشكال تمثيل جديدة . ولاسيما من أجل البحث عن شكل للممثل، وفقا لمصطلحات ( باربا ) .
     ويبدو أن الأرضية المشتركة والتبادل بين الرقص والمسرح يدوران حول الجسم في الحركة، وبناء لغة تقوم علي الجدل بين الجسم البشري والإيماءة والفراغ والحركة . وبينما تستخدم هذه الجدلية في الرقص للانفصال عن تخطيطات تقليدية معينة، فإنها في المسرح توجه الصور اللغوية للتمثيل في اتجاه خشبة المسرح، وتحول الممثل – كما في حالتي (كريج) و ( أبيا)، ولو أنهما شكلين مختلفين – إلي عنصر للكتابة لخشبة المسرح .
     وحتى المجال الثالث، وهو التمثيل، فانه يقدم تناظرات ذات مغزى لمنظورنا . ففي الثلاثينيات، بدأ ( اتيان ديكرو ) ما يعرف باسم التمثيل الجسدي . وقد تضمن وضع تقنية، ودراسة للعمل التي يتم باستخدام الجسم، علاوة علي رفض التمثيل الوصفي والتمثيل الإيمائي . وقد كانت دراسة الحركة البحتة، للامكانية التعبيرية والتي سماها (باربا) “ ما قبل التعبيري “  . وقد ذهبت اهتمامات ( ديكرو)، كما يلاحظ (دي مارينيس)، الي ما وراء إصلاح الشفرات المستخدمة في التمثيل . وبتجديد شفرات التمثيل ودور الممثلين في المشهد، كان (ديكرو ) يقترح في الواقع نوعا جديدا من المسرح، تمشيا مع (كريج) وانطلاقا منه، وهو أحد مراجعه، مع (كوبوه) الذي كان معلمه . ففي جذور نظرية (ديكرو )، تكمن فكرة المسرح كلغة تتواصل من خلال الإمكانية التعبيرية للجسم في الحركة، في غياب أي إشارة نصية، وفي غياب واقعية توضيحية، وفي علاقة مع الفراغ المادي الذي يقع فيه الفعل . وتعاليم (ديكرو)، بالإضافة الي أنها نهضت بنوع معين من المسرح، فقد كانت أيضا ذات تأثير حاسم علي كثير من حركات التجديد في النصف الثاني من القرن العشرين، بداية من (باربا) .
     ويسمح لنا المسح السريع في مجالي الرقص والتمثيل الصامت، برغم ايجازها، أن نفهم مركزية الحركة باعتبارها صورة لغوية أساسية في التمثيل . وتستتبع هذه المركزية تبادلا في إطار كل من التقنيات ( كما في حالة ديكرو) وشفرات اللغة الفعلية بين المسرح والرقص والتمثيل الصامت، والتي كانت حاضرة غالبا في النصف الثاني من القرن العشرين في نفس العروض . وقد كان هذا التبادل كثيفا ولاسيما بين المسرح والرقص، من حيث تبني سجلا مسرحيا في الرقص – كما في مسرح الرقص وفي تضمين الرقص في العروض المسرحية باعتباره مادة لغوية معينة . ويقوم هذا الشمول عموما إما علي المشاركة الفعلية للراقصين في العرض أو تبني شفرات لها علاقة بفن الرقص . و(ويلسون) هو النموذج المثالي للمنهج الأول . ففي عرضه ( اينشتاين علي الشاطئ ) مثلا، فقد كلف فرقة (أندي دي جروت) الراقصة بالقيام بجانب كبير من العرض . والأكثر اثارة، رغم ذلك، هو حضور ( لوشيندا شيلدز) في المسرحية، وهي أحد أبرز الممثلين للرقص الحديث في أمريكا الشمالية، والتي تعاون معها ( ويلسون) لفترة طويلة . فالجسم الذي يرقص بإتباع خطوط رقص، يوضحها الجسم، حتى في ايماءاتها الأولية، بمنهج وتقنية شكلية، هذا الجسم هو الوسيلة التي يحتاجها (ويلسون) لوضع النموذج الإنساني في أنماط مكانية وكتابة مضيئة تميز إخراجه . فالرقص في عروض ( ويلسون)  يعبر عن تشكيل الجسم طبقا لشفرة معينة . وما لدينا هو بالتالي استيعاب في الشفرة المسرحية ( ولاسيما في الكتابة لخشبة المسرح) للعرض واقتباسا لكل الأنواع .  
     والحالة المختلفة هي أن تضمين تقنيات الرقص فيما يظل عملا تمثيليا بالأساس، بمعنى آخر، عمل لا يمزج العلامات اللغوية ولو كانت من شكل فني مقارب . وفي هذه الحالة، لا يوجد استخدام للراقصين، وأجزاء الرقص، أو كل تتابعات الرقص، ولكن بدلا من ذلك، تميل إلي ترتيب التمثيل نفسه بشكل راقص . ويمكن أن نتحدث في هذه الحالة عن نوع من الرقص/ اللا رقص، بمعنى، نوع الحركة التي يجب علي جسم الممثل أن يعبر عن نفسه في فعل بحت، فعل راقص. وهذه هي مثلا حالة المخرج الايطالي ( باربريو كورسيتي) . فمند حركة ما بعد الطليعة، كان (كورسيتي) يستكشف امكانية افساد أداء الممثل بعناصر مأخوذة من الرقص بعد الحداثي، ولاسيما، من ارتباط ( ستيف باكستون) بالارتجال . وإذا كانت الثورة في الرقص الحديث تنشأ من افتراض الحركة البحتة كأساس لغوي، فان هذا الميل، في الرقص بعد الحداثي، يتم تناوله الي أقصى حدوده، وتم التنظير للرقص باعتباره حدث نقي للجسم والحركة . فهو عمل يتم علي الإيماءة وعلي مادية الجسم نفسه . وهذه هي الصور التي يهتم بها ( باربريو كورسيتي) : لا يهتم بالإمكانية التعبيرية للجسم المدرب جيدا والقادر علي الحركة المرنة، ولكنه يهتم بحساسية جسم الممثل الذي يكتب حركات تقوم علي قوتها، وضعفها، وعدم فعاليتها التقنية . وبهذه الطريقة فقط تتجنب الإيماءات خطر فن الرقص الآلي وتحول نفسها الي كتابة أصيلة . ويقول ( كورسيتي) “ الرقص، ولاسيما الرقص الأنجلوسكسوني، يسعى الي جسم سليم مطلق، جسم بحتا قدر الإمكان، فأنا مهتم الجسم المسرحي المكسور، جسم يتخلل كل عناصر خشبة المسرح، جسم يمكن أن يتكامل في الكتابة لخشبة المسرح “ . يتحدث (كورسيتي) عن الممثلين باعتبارهم بهلوانات عاقلة، أشخاص لديهم القدرة علي تحويل أنفسهم مع أجسامهم وعقولهم وحساسيتهم إلي بناء للمخرج . فالدقة الهندسية في بناء الحركة ضرورية لانجاز هذا، ولكن من الناحية الأخرى، يجب أن تأتي هذه الدقة من سجل مرن غير محدد، سجل مصنوع إيماءات وحركات خشنة يمليها الحضور البدني للممثلين أكثر من قدراتهم التقنية، وبقدرتهم علي تحويل الإيماءات العادية إلي شكل دون تعديل بنيتها، ولكن عن طريق إثارتهم، وبتناولهم الي الحد الأقصى، وبوضوح بحرمانهم من أي مغزى تمثيلي .
     ويعد التداخل بين أدوار الراقص والممثل والتمثيل الصامت أحد استجابات المسرح الحديث المحتملة لمشكلة دمج جسم الإنسان في الكتابة المسرحية . وقد أدت هذه المشكلة المعقدة الي تأمل دور وتقنية الممثل بشكل جذري . فالجسم البشري بما هو كذلك والممثل، بخبرته ومعرفته، لا يبدو أنهما قادران للوهلة الأولى علي الوفاء بالمتطلبات الشكلية الجديدة . فالجسم يجب أن يصبح أولا شكلا بين أشكال أخرى . ولتحقيق هذا يجب عليه أن يخون ماديته ويطور أساليب تعبير جديدة . بمعنى أنه يجب عليه أن يخرج من جلده . وقد كان هذا، في بداية القرن العشرين، وضع (كريج) و (شليمر)، اللذان أكدا علي الحاجة إلي استبدال النموذج البشري بنظير غير عضوي . وهذا هو أيضا المنطلق من وراء البحث عن تعبيرية شاملة للجسم ( ما قبل التعبيرية)، التي قادت الممثلين إلى تبني التمثيل الصامت والرقص كتقنيتين لتشكيل الجسم . فكلا الفنان يقدمان إجابة علي مشكلة جعل الممثلين من أنفسهم مصدرا للكتابة لخشبة المسرح، وهي كتابة قادرة علي أن تتمم نفسها في سجل المسرحية وتعبر عنهم من خلال شكل التمثيل الذي يقوم في أغلب الأحوال علي الشفرات البصرية والمشهدية . وهذا المفهوم للكائن البشري باعتباره جسما علي خشبة المسرح يمكن أن يتطابق مع ثلاثة وظائف للممثل يمكن استدعائها للأداء : وهي الوظيفة الأدائية، ووظيفة الرقص، والوظيفة الأيقونية .
.......................................................................................
• لورينزو مونجو يعمل استاذا للمسرح الحديث في جامعة نابلس بايطاليا
ومن أبرز مؤلفاته : (مخطوطات كتاب فن المسرح لجوردون كريج)
• نشرت هذه المقالة في مجلة (ِActing Archives Supplement ) في العدد الصادر في 6 أبريل 2011 .


ترجمة أحمد عبد الفتاح