المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948(8) يوسف وهبي يكرم في القدس ويحبس في حيفا

المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948(8) يوسف وهبي يكرم في القدس ويحبس في حيفا

العدد 686 صدر بتاريخ 19أكتوبر2020

ظهرت فرقة رمسيس رسمياً في العاشر من مارس 1923 بمسرحية «المجنون» بطولة «يوسف وهبي» صاحب الفرقة، و«روز اليوسف» بطلة الفرقة. ومنذ هذا التاريخ، وفرقة رمسيس أو «فرقة يوسف وهبي» في صعود فني غير مسبوق!! وبسبب عروضها القوية – غير المألوفة – للجمهور المسرحي في هذا الوقت، ظلت فرقة رمسيس الفرقة الأقوى والأشهر عدة سنوات متتالية!! وفي مارس 1925، أعلنت الفرقة في جريدة «المقطم» أنها تنوي في الصيف القيام برحلة فنية إلى فلسطين وسورية، وكان متعهد هذه الحفلات هو المسيو «فيتا سيون». ومرّ الصيف، ومرت السنة بأكملها دون أن نسمع أي شيء عن هذه الحفلات، مما يعني عدم سفر الفرقة!!
وبعد عامين - وفي يوليو 1927 - نشرت جريدة «المقطم» إعلاناً، تحت عنوان «سياحة فنية رسمية لفرقة رمسيس»، علمنا منه أن الفرقة تنوي السفر إلى فلسطين وسورية ولبنان والعراق، لتقدم مسرحيات منها: غادة الكاميليا، البؤساء، نوتردام دي باري، توسكا، كونت دي مونت كريستو .. إلخ!! وهذا الخبر استغلته السيدة «روز اليوسف» أسوأ استغلال؛ بسبب خروجها من فرقة رمسيس؛ فأصبحت من أعداء يوسف وهبي!! وبسبب هذا العداء، أصدرت روز مجلتها الشهيرة «روز اليوسف» عام 1925، لتهاجم بها يوسف وهبي!! وهذه المجلة نشرت كلمة بعنوان «قلّة ذوق»، رداً على نيّة يوسف وهبي السفر إلى فلسطين في صيف عام 1927 - وبعد أيام قليلة من حدوث الزلزال المدمر فيها، والذي تحدثنا عنه من قبل - ونقتطف من كلمة «روز اليوسف» هذه العبارات، وفيها تقول:
“... بلد نُكب بالزلزال، وقُتل وجُرح من أبنائه مئات وألوف، وتهدمت مدنه وقراه، وحلّت الكارثة العظمى بعشرات الألوف من أبنائه، الذين أصبحوا ينامون في العراء، لا يملكون قوتاً ولا فراشاً. بلد لا تزال دموعه جارية، ولا يزال الأنين يتصاعد فيه من تحت الأنقاض، التي دفنت أبناءه أحياء؛ تزوره فرقة تمثيلية بطبلها وزمرها! إن الفلسطيني الذي لا يتبرع الآن بكل قرش، يفيض عن حاجته إلى إخوانه ومواطنيه المنكوبين، لا يكون جديراً بلقب العربي! فهل تريد أن يهرع إليك [تقصد يوسف وهبي] سكان فلسطين، ويملأوا خزانتك، ويهملوا إخوانهم المنكوبين بالزلزال؟! احترموا حداد البلد الحزين، ومروا به بسلام، ولا تتحدوا اليتامى والأرامل، وانصبوا خيامكم، ودقوا طبولكم في سوريا والعراق. أما زيارة فلسطين الآن فقلة ذوق لا تغتفر!!”.
قامت إدارة فرقة رمسيس بإرسال الرد على هذا الكلام إلى مجلة «الصباح»، التي نشرته في أغسطس قائلة: جاءنا من إدارة فرقة رمسيس ما يأتي: “حضرة الفاضل صاحب الصباح .. نشرت مجلة روز اليوسف تحت عنوان «قلة ذوق» خبراً عن رحلة رمسيس في فلسطين وسوريا، وأخذت علينا مجازفتنا وذهابنا في هذا الوقت، الذي دمرت فيه الزلازل جارتنا فلسطين. وعلق المحرر على ذلك بما شاءت أهواؤه .. وللحقيقة أعرفكم بأننا اتفقنا بعقد مع أحد متعهدي الليالي منذ شهر على إقامة هذه الحفلات لحسابه. وكان ذلك قبل الزلازل طبعاً، وما كنا لنتنبأ بهذه الكارثة. فاذا نفذ المتعهد شروطه فنحن مضطرون للسفر، مع اعتقادنا بأنه ليس هذا وقته. هذا وإن جميع ما ينشر عن الرحلة من بروباجندا هو من عمل المتعهد، وليس لنا دخل في ذلك [توقيع] أحمد عسكر بمسرح رمسيس”. وحسب ما بين أيدينا من معلومات، نقول: إن فرقة رمسيس لم تسافر إلى فلسطين عام 1927.
الرحلة الفعلية الأولى
يُعدّ عام 1929، هو أول أعوام زيارة «فرقة يوسف وهبي» أو «فرقة رمسيس» إلى فلسطين. وقد مهدت الفرقة لهذه الزيارة بإعلان نشرته في أغلب الدوريات، هذا نصه: “فرقة رمسيس أعظم فرقة فنية في الشرق .. تجمع بين بطلي الدرام والتراجيدي، الأستاذين يوسف بك وهبي وجورج أبيض، وكبار الممثلين والممثلات المعروفين .. تقوم برحلتها إلى سوريا وفلسطين، لتمثيل أعظم الروايات العالمية الخالدة. تبدأ تمثيلها على مسرح الأوبرا ببيروت بالرواية العالمية الشهيرة الذائعة الصيت «كرسي الاعتراف». وقد أعدت برنامجاً طويلاً بالروايات الشهيرة التي ستمثلها. وهذه أكبر فرصة تسنح لإخواننا السوريين لمشاهدة أرقى فرقة شرقية تضارع في تمثيلها وإخراجها أكبر الفرق الأوروبية المشهورة”.
أما في فلسطين، فنشرت جريدة «الجامعة العربية» في إبريل 1929، خبراً تحت عنوان «يوسف بك وهبي يزور سوريا وفلسطين»، جاء فيه الآتي: “ اعتزم الأستاذ الممثل النابغة يوسف بك وهبي أن يزور سورية وفلسطين، مصحوباً بفرقته التمثيلية المشهورة، لتمثيل بعض الروايات الاجتماعية والأخلاقية. وستغادر الفرقة القاهرة يوم 16 نيسان الجاري، فتتوجه إلى بيروت، وتمكث فيها إلى الخامس والعشرين من الشهر المذكور، ثم تصل إلى يافا فتمكث أيام 26 و27 و28، ثم تصل إلى القدس فتبقى أيام 29 و30 إبريل و1 مايس [مايو]، ثم ترجع إلى حيفا فتبقى أيام 2 و3 و4 مايس. فنحث أهالي فلسطين وغواة التمثيل منهم على شهود تمثيل هذا النابغة المشهور، وهذه الفرقة التي تمثل خير الروايات التي أخرجت لعالم التمثيل العربي”.
وفي مايو 1929، وصلت فرقة رمسيس إلى فلسطين، وبدأت في تمثيل عروضها، وكتبت جريدة «الجامعة العربية» مقالة بعنوان «فرقة رمسيس على مسرح زيون» أبانت فيها أن فرقة يوسف وهبي مثلت في يافا أربع مسرحيات في أربعة أيام، هي: «كرسي الاعتراف، والعرش، وغادة الكاميليا، والمجنون! ثم انتقلت إلى القدس ومثلت مسرحيتين على مسرح صهيون، هما «كرسي الاعتراف وغادة الكاميليا». ثم تناولت الجريدة التمثيل، قائلة: “ كان التمثيل في رواية «كرسي الاعتراف» بالغاً حد الاتقان وخصوصاً تمثيل الأستاذ يوسف بك وهبي دور الكردينال جيوفاني، إذ ظهر فيه بمظهر كردينال حقيقي ... وقد أظهر الأستاذ وهبي كل عبقريته ونبوغه في هذه الليلة، وكذلك بقية الممثلين فقد أجادوا تمثيل أدوارهم. وكان التمثيل في الليلة التالية في رواية «غادة الكاميليا» حسناً، ولكنه لم يبلغ في نظرنا الاتقان الذي بلغه في الليلة الأولى ... والرواية مأساة مؤثرة، قد أحسنت الآنسة زينب صدقي تمثيل دور مرغريت كل الإحسان، وكذلك الأستاذ جورج أبيض في تمثيله دور والد أرمان، والأستاذ يوسف وهبي الذي كان يمثل دور أرمان .... ومع أن الرواية تشتمل على مواقف غرامية، كنا نؤثر أن لا تشهدها العائلات المحترمات الكثيرات اللائي شهدن التمثيل، إلا أننا اغتفرنا ذلك في مقابل الفن وإجادة التمثيل؛ ولكننا لم نرَ من المستحسن خروج آنسة وسط التمثيل، تكاد تكون عارية تماماً، ترقص رقصاً ماجناً خليعاً. هذه كلمة خالصة أحببنا أن نلفت إليها نظر الأستاذ الفنان الكبير يوسف بك وهبي راجين من حضرته أن يعيرها اهتمامه وعنايته في فلسطين”.
نادي الشبيبة البيتلحمية
في أوائل يونية، أشارت جريدة «فلسطين» أن الفرقة اتفقت مع مسرح قهوة «أبو شاكوش»، على تمثيل ثلاث مسرحيات منها مسرحية «الاستعباد». أما جريدة «الجامعة العربية» فتحدثت عن حفلة التكريم التي أقامها «نادي الشبيبة البيتلحمية» ليوسف وهبي وفرقته. وهذه الحفلة تحديداً، وجدت لها تفاصيل أخرى منشورة في مجلة «المستقبل» المصرية، تتمثل في أن حضرها قنصل مصر في القدس مع كبار العظماء والأدباء ورجال الصحافة، وألقى البعض فيها كلماتٍ وخطباً في مآثر الفرقة وفضلها على النهضة التمثيلية في العصر الحاضر. وقد ألقى يوسف وهبي كلمة شكر فيه المحتفلين به.
أما مجلة «الصباح» المصرية، فقد نشرت - في أغسطس 1929 - ما دوّنه أعضاء فرقة رمسيس من كلمات في «الكتاب الذهبي» الخاص بزوار «نادي الشبيبة البيتلحمية»! وأهمية هذه الكلمات، تتمثل في أمرين: الأول، معرفة أعضاء الفرقة ممن سافروا بالفعل إلى فلسطين، لأن كل كلمة مكتوبة كانت مذيلة باسم صاحبها! والأمر الآخر هو معرفة انطباع أفراد الفرقة عن هذا النادي الفلسطيني، لأن هذه الزيارة كانت مؤثرة في النشاط المسرحي للنادي، كما سنتحدث عنه مستقبلاً!!
فعلى سبيل المثال، كتب يوسف وهبي: “يا ناديا جمع الشبيبة الراقية، تذكروا دائماً أن التمثيل عنوان رقي الأمم، والمسرح مدرسة الشعب، والممثل مهذب الروح”. وكتب جورج أبيض: “المسرح مرآة الحياة، تنعكس فيه الطبيعة على اختلاف أشكالها وأنواعها! إلى الأمام! .. صبراً وثباتاً! .. إلى الأمام! أتمنى لهذا النادي نمواً ورقياً”. وكتبت إحسان كامل، وفردوس حسن، وزينب صدقي، وأمينة رزق، وعلوية جميل، ودولت أبيض عبارة واحدة، هي: “لقد تشرفنا بزيارة هذا النادي الأدبي، وشعرنا بأن لنا إخوة في هذه الأراضي المقدسة”. وكتب حسن البارودي: “ليدم الفن طويلاً حيث أتاح لنا الحضور إلى هنا في القدس للتمثيل، لنرى شبيبة وثابة لإحياء النهضة القومية تحت لواء نادي بيت لحم”. وكتب مختار عثمان: “أتمنى لكم ولناديكم نجاحاً وفلاحاً ورقياً مطرداً، ونشكر غيرتكم على الفن، الذي نعمل جميعاً على إعلاء شأنه”. وكتب أحمد علام: “من واجب الشباب أن يتواصلوا بالخير، ووصيتي إلى شباب بيت لحم كلمة المرحوم قاسم بك أمين «اللذة التي تجعل للحياة قيمة، ليست حيازة الذهب، ولا رفعة النسب، ولا علو المنصب، ولا شيئاً مما يجري وراءه الناس عادة، وإنما اللذة الحقيقية، هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم»”. وكتب فتوح نشاطي: “أن أنسى فلا أنسى أورشليم مدينة الذكرى والعظمة الدينية، التي أثارت في أعماق قلبي ذكريات عجيبة رائعة. إن كان هناك ما اهتز له كياني، وتحمست له نفسي، أن أرى شباباً جديداً وثاباً طموحاً، يحاول أن يبني مجداً جديداً إلى جانب المجد التالد القديم”. وكتب قاسم وجدي: “إن يوماً تتجه فيه جهود شباب الشرق إلى ما اتجهت إليه جهود شباب بيت لحم، لهو اليوم الذي يسمو فيه الشرق، ويستعيد مجده الخالد .. فلتكن إرادتكم من صلب لا يلين .. فالإرادة هي السبيل الوحيد إلى تحقيق مبادئكم، وهي كما قال فيها زعيم مصر الخالدة المرحوم سعد باشا زغلول «الإرادة متى تمكنت في النفوس وامتزجت بالدم ذالت كل صعب ومحت كل عقبة ووصلت عاجلاً أم آجلاً إلى الغاية المطلوبة»”. وكتب أدمون تويما: “كفلسطيني الأصل، ومصري الجنسية، أحيي من كل قلبي وطنيّ العزيزين، متمنياً لهما الثبات في خدمة الفن الجميل”.
أقوال الصحف الفلسطينية
بالعودة إلى الصحف الفلسطينية، سنجد جريدة «فلسطين» تتحدث عن قيام الفرقة بتمثيل مسرحية «الذبائح» لصالح نادي الشبيبة الأرثوذكسية، وبعد يومين أعادت الفرقة عرضها على «مسرح بستان الانشراح» في حيفا، وتم تخصيص ريعها لصالح مدرسة النجاح الوطنية للإناث، التي تديرها «أمينة شوفاني». أما جريدة «مرآة الشرق»، فنشرت خبراً، عن قيام الفرقة بتوزيع إعلانات عن تمثيل مسرحية «راسبوتين»، وعندما حضر المشاهدون العرض، وجدوا الحكومة منعت عرض المسرحية! أما جريدة «الجامعة العربية» فقد نشرت في يوليو 1929، كلمة شكر من يوسف وهبي إلى أهالي فلسطين، قال فيها: “... لا يسعني إزاء ما أبديتموه نحوي من الكرم والحفاوة أثناء زيارتي للقطر الفلسطيني إلا أن أعبر لكم عن عظيم ممنونيتي وشكري للطفكم الجم. ولن أنسى أبداً تلك الحفاوة المتناهية التي صادفتها وفرقتي من كرام الفلسطينيين، فربحت صداقتهم ومودتهم وعطفهم. وأشكر الله الذي ألهمني زيارة بلادكم العزيزة، فوجدت فيها رجالاً كراماً يؤازرون الفنون الجميلة، ويعطفون أشد العطف عليها. فللفلسطينيين مني ومن أفراد فرقتي. فائق الاحترام مقروناً بالشكر العظيم”.
وقبل أن نختتم الكلام عن أول زيارة لفرقة يوسف وهبي إلى فلسطين، يجب أن نتوقف عند أمرين مهمين: الأول ما حدث في حيفا بين يوسف وهبي وبين صاحب المسرح! والأخرى موقف يوسف من منكوبي ثورة البراق!! ولنبدأ بالحادثة الأولى!
مشكلة في حيفا
حادثة غريبة حدثت في حيفا، لم تهتم بها الصحف الفلسطينية، بقدر اهتمام الصحف المصرية بها، مثل جريدة «أبو الهول»، التي قالت تحت عنوان «هنا وهناك»: تلقينا من حيفا عدة رسائل، وقرأنا في بعض صحف فلسطين كلمات، خلاصتها أن الأستاذ يوسف بك وهبي ترك أثراً سيئاً في حيفا؛ حيث لَكَمَ صاحب المسرح الذي كان يُمثل فيه، وصفعه وسبّه، وأصاب عينه، وتداخل البوليس .. إلخ! بحثت عن هذا الموضع، فوجدت تفاصيله منشورة! ولأهميتها فنياً وقانونياً وسياسياً ودينياً، ناهيك عن أهميتها التاريخية والتوثيقية لمسيرة فرقة رمسيس، سأذكرها، كما نشرتها مجلة «المستقبل»، تحت عنوان «حادث خطير في حيفا»، قائلة:
“ ... وصلت فرقة رمسيس إلى حيفا لتمثيل حفلتين في مسرح «بستان الانشراح». وصل الأستاذ وهبي إلى فندق «أرزيليا» على قمة جبل الكرمل بعد رحلة شاقة. وما كاد يستقر به الحال، حتى جاء أحد المُحضرين وسلمه إعلان توقيع حجز تحفظي، عن الحصة التي تؤول إلى صاحب المسرح! ونبّه عليه بعدم الدفع إلا في خزينة المحكمة. استلم يوسف بك الإعلان، وذهب المُحضر إلى عمله. وفي الساعة الثامنة والنصف ذهب الأستاذ وهبي إلى المسرح، فوجد أن المناظر لم تُركب بعد! وأن الحالة غير عادية، والناس تتساءل إن كان هناك تمثيل أم لا؟ فسأل عن السبب فعلم أن الدائنين حجزوا على كل شيء في المسرح والحديقة، فخاف العمال على إدخال أدوات رمسيس خشية الحجز عليها أيضاً! وقف الأستاذ بنفسه، وأخذ يحث العمال على العمل بسرعة لرفع الستار، وسأل عن صاحب المسرح، فأجابوه بأنه «طفش» إلى بيروت قبل توقيع الحجز، وترك أخاه .. وبعد عناء شديد رفع الستار الساعة العاشرة والربع، وبدأت الرواية غير أن النور - ويُدار بمحرك خاص بمعرفة عمال المسرح - أخذ يلعب! فتارة يُطفأ تماماً، وتارة أخرى تكون الإضاءة أكثر من اللازم، وأخذ صوت المحرك الكهربائي يرتفع على صوت الممثلين! وهكذا بدأت المعاكسة من كل صوب. ومما زاد الطين بلة! أن لهذا المسرح أبواباً، فتحها عمال المسرح خفية مقابل دريهمات، كانوا يتقاضونها من المتفرجين «التفليتة»! انتهت الحفلة، وارتدى يوسف ملابسه. وعند خروجه اعترضه شقيق صاحب المسرح، وطلب إليه أن يدفع حصة مسرحه المتفق عليها، فأجابه بأنه يأسف لعدم إمكانه دفعها في هذه الليلة بمناسبة الحجز. وطلب إليه أن يتفاهم مع دائنيه، وفي هذه الحالة يدفع له بطيب خاطر. لم تعجب هذه الأقوال القائم بأعمال صاحب المسرح، فبدرت منه أقوال عدّها الأستاذ إهانة، وطلب إليه أن يفسح الطريق، فأبى مُهدداً بقبضة يده. فما كان من يوسف بك إلا أن صفعه، وأراد الخروج. وعندما أدار الأستاذ ظهره، تحفز الجبار للهجوم، فرآه في هذه اللحظة أحد حضرات الممثلين، فناوله ما أوقفه في مكانه وخرج يوسف! وفي صباح اليوم التالي طُلب الأستاذ يوسف وهبي للذهاب الى دائرة البوليس! فذهب .. وعلم هناك أن شقيق صاحب المسرح يتهمه بإحداث عاهة مستديمة في إحدى عينيه، واستند على أقواله هذه بشهادة طبية لأحد أطباء البلدة، حيث جاء فيها أن الإصابة شديدة، ولا يمكن معرفة نتائجها إلا بعد خمسة أيام. فَهم عند ذلك يوسف «الفُولة»، وأن الغرض فقط تعطيله عن حفلاته في القدس. وهمس بعضهم في أذنه، وأفهمه بأن المسألة خرجت من كونها مسألة شخصية بحتة إلى مسألة طائفية، يُشعل سعيرها أحد القساوسة، والغرض منها الاستيلاء على بعض النقود. دافع يوسف عن نفسه فطُلب إليه دفع خمسين جنيهاً كفالة فدفعها وذهب. وفي المساء ذهب إلى المسرح للعمل، فوجد الصالة خالية من الكراسي، والمحرك الكهربائي معطلاً، والعمال وبعض رجال الطائفة، التي ينتمي إليها الشاب متحفزين! ووجد أيضاً عدداً كبيراً من المسلمين متأهبين لحدوث أي طارئ للدفاع عن أخيهم يوسف! وفطن الأستاذ بحروجة الحالة، فأخذ يهدئ من هؤلاء وهؤلاء، ويلاطف أصحاب المسرح، وأقنع الشاب المضروب بأنه على استعداد لدفع ما يطلب. وكل ذلك ليمنع يوسف وقوع تصادم شنيع .. كل ذلك حدث ولم يترك في نفس الأستاذ أي أثر سيء؛ لأنه يحفظ لأهالي حيفا كل محبة. وبعد أن أحيى الأستاذ حفلتين بثغر حيفا، ذهب إلى القدس، ولما علم صاحب العزة قنصل مصر بالقدس بهذا الحادث، تأسف كثيراً لأنه لم يُخطر به في وقته، وطلب إلى الأستاذ أن يكتب تقريراً وافياً عن الحادثة، فكتب يوسف بك وهبي كل التفصيلات وسلمها إلى حضرة القنصل، الذي اهتم بالأمر وبلغ السلطات الفلسطينية عن الحادثة، وطلب تحقيقاً سريعاً.
ثورة البُراق
هي الثورة التي اندلعت بين المسلمين واليهود في فلسطين بسبب التنازع على حائط البراق بوصفه جزءاً من المسجد الأقصى ووقفاً إسلامياً، وبين كونه في نظر اليهود جزءاً من هيكل سليمان، المعروف – الآن - بحائط المبكى!! والصراع الذي حدث أدى إلى موت وجرح عدد كبير من الجانبين. ومن هنا بدأت التبرعات لصالح المنكوبين، لذلك تبرع يوسف وهبي بتمثيل مسرحية «كرسي الاعتراف» وتخصيص ريعها لصالح المنكوبين. وكتبت الصحف كثيراً عن هذا الموقف الوطني ليوسف وهبي، مثل جريدة «الشورى» المصرية، التي نشرت كلمة تحت عنوان «تبرع يوسف وهبي لمنكوبي فلسطين»، جاء فيها الآتي: إن حضرة الأستاذ يوسف بك وهبي قد تبرع بليلة لمنكوبي فلسطين، فكتب صاحب هذه الجريدة كلمة إلى يوسف وهبي، قال فيها: “ أسمح لي أيها السيد الفاضل أن أشكرك على ما قدمت لوطني فلسطين من فضل بتخصيص دخل ليلة من ليالي مسرحك، وفرقتك النشيطة المجتهدة لإعانة المنكوبين من أهل فلسطين. لقد قرأت في مقطم الأمس [أي جريدة المقطم المصرية] إعلاناً صغيراً في ظاهره جليلاً في حقيقته، ينص على أن فرقة رمسيس ستقوم يوم الجمعة 13 ديسمبر بتمثيل رواية «كرسي الاعتراف»، وان الأستاذ يوسف بك وهبي قد تبرع بها لإعانة منكوبي فلسطين، فأكبرت هذه الحمية، وتمنيت أن يكون الأستاذ أمامي في تلك اللحظة فأقبله قبلة الشكر والتقدير”.


سيد علي إسماعيل