كيف أسهمت ثورة يوليو في إنشاء السامر والدعوة إلى مسرح مصري

كيف أسهمت ثورة يوليو في إنشاء السامر   والدعوة إلى مسرح مصري

العدد 832 صدر بتاريخ 7أغسطس2023

إن ثورة 23 يوليو عام 1952 بما قدمته منذ قيامها للمسرح المصري من تشجيع وأفكار واستلهام وتلاحم مع الواقع وتنمية في فكر المسرحيين من كتاب ومخرجين وفكر الجمهور المتلقي، بكل ما صنعته بالتغييرات القيادية والقرارات التي اتخذت لإعادة ترتيب الهيكل التنظيمي، ثم اتجاه المبدعين نحو الواقعية الجديدة والواقعية الرمزية وانتشار المسرح الملحمي والتوسع في توظيف التراث، كل ذلك أدى بالتدريج إلى طرح أفكار أكثر تلاحما واقترابا من التربة المصرية وأكثر نضجا لاستكشاف مسرح مصري أصيل ينبع من الناس بعيدا عن الأشكال الغربية والمضامين المستوردة، ويتم طرحه للناس مرة أخرى في إطار مسرحي مصري خالص.
 وقد نما ذلك التفكير بعد أن ظهرت دعوة الرئيس  عبد الناصر للمطالبة بالتحرر من قبضة المسرح الغربي، وبتأسيس ما يسمى بـ (مسرح السامر) وهو عبارة عن حفل مسرحي يقام في المناسبات الخاصة سواء أكانت أفراحاً أم موالد. وهدفت هذه الدعوة إلى إيجاد مسرح مصري، وإلى إيجاد الشكل المسرحي النابع منه والملائم له والذي يستطيع إبرازه وتقديمه إلى أبعد وأوسع مدى. 
وقد وافق ذلك فكر يوسف إدريس حينما دعا إلى مسرح السامر المصري كمسرح شعبي يعبر عن البيئة والهوية المصرية والعربية والتي وضحت جلية في مسرحيته الفرافير. وكذلك دعوة توفيق الحكيم إلى مسرح الفرجة والدكتور علي الراعي إلى المسرح المرتجل وعبد الكريم برشيد إلى المسرح الاحتفالي وغيرها من الدعوات المشابهة. وقد ظهرت تلك الدعوات كضرورة ملحة لتأصيل المسرح العربي اتساقا مع طبيعة المرحلة سياسيا واجتماعيا، وبات ذلك ممكنا خصوصا بعد تناول الكتاب للتراث العربي في بعض مسرحياتهم وتوظيفهم له مضمونا وشكلا في كتابة النص المسرحي. كما أن المسرح صار بحاجة إلى التواصل الفعلي والجاد مع الجمهور من حيث البناء المسرحي ومن حيث التناول الفكري. وبالفعل شهدت هذه الدعوات جدية في التعامل مع الشكل المسرحي والخروج به من النمط الغربي إلى شكل عربي ومصري خالص أو مدمج، مع طرح بناء درامي جديد مناسب إضافة إلى المضمون الفكري والاستلهام من التراث.
فكان لابد من الموائمة مع المجتمع والمتغيرات السياسية والمناخ الثوري السائد، وتناول الموضوعات الواقعية الجديدة التي ولدتها ثورة يوليو التي أعطت الأولويات لقضايا الفلاحين والاهتمام بالإنتاج الزراعي إضافة إلى انتشار الفكر العمالي وزيادة الإنتاج الصناعي وتزايد أعداد العمال في كل شبر في مصر. فكانت بالتالي الحاجة إلى أسلوب جديد ومختلف لمخاطبة هؤلاء الجماهير بما يناسب فكرهم وظروفهم المعيشية وحياتهم البسيطة. وبالطبع لم يكن المسرح الغربي باتجاهاته الحديثة التي انتشرت في مصر بعد عودة المبعوثين من الخارج وافيا لتلك المتطلبات.
ولعل أبرز المحاولات في هذا المضمار هو مسرحية «الفرافير» ليوسف إدريس، حيث استمد شخصية الفرفور من أعماق التراث الشعبي من السامر في القرية المصرية، وحاول أن يرسم من خلال ذلك ملامح المسرح المصري الذي يمكن ولادته من أغوار هوية القرية المصرية. حيث يرى يوسف إدريس أن المسرح يمثل مجموعة من الناس تجمعوا في مكان ما ليفضي كل منهم بما في نفسه عله يجد حلا لقضيته. وبينهم يبدو الفرفور هو أكثر ذكاء ولماحا ولديه فصاحة وذو ذهن متوقد ووعي لإدراك المفارقات وتصويرها وبالتالي يصعد هذا الفرفور إلى المسرح دون الباقين محتفظا بعلاقته الاجتماعية بهم. وعلى هذا تم إلغاء الحائط الرابع تمام وأصبحت الخشبة والصالة وحدة واحدة لا تتجزأ.  ورغم أن تحطيم الجدار الوهمي الرابع ليس جديدا على المسرح الغربي بعد أن ظهر في أعمال بريخت وبرانديللو وغيرهما، إلا أن الفوارق هنا كلها قد انصهرت تماما  منتجة روح جديدة وشكل جديد للمسرح يبدو مصريا خالصا.
ففي تلك المسرحية «الفرافير» التي عرضت في عام 1964 تأليف/ يوسف إدريس وإخراج/ كرم مطاوع وتدور عن الصراع بين الأسياد والعبيد، السيد ويمثله الفنان/ توفيق الدقن والعبد أو الفرفور ويمثله الفنان/ عبد السلام محمد وأنه لابد من وجود سيد وعبد لتنتظم أمور الحياة ولكن دون استعباد وكذلك جعل الله الناس طبقات ليسخر بعضهم بعضا ولكن المشكلة من يكون السيد ومن يكون الفرفور وأخرجها للتليفزيون نور الدمرداش وشارك في العرض الفنانون/ سهير البابلي وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد ورجاء حسين وعبدالرحمن أبو زهرة وعلية الجزيرى.
وبرزت أيضاً، دعوة توفيق الحكيم لاقتراح شكل مسرحي عربي، يمكن للغرب استعماله في صب مواضيعهم ومضامينهم فيه، مما سيؤدي إلى نوع من التبادل الثقافي باتجاهين كبديل للتفاعل وحيد الاتجاه الذي كان قائماً. فدعا الحكيم في كتابه «قالبنا المسرحي» إلى استخدام طريقة  المسرح الشعبي القائمة على التقليد، وليس التمثيل، والذي يقدم الفرجة المسرحية فيها راوية، ومقلد، ويعتمد الاثنان على أسلوب التمثيل على  المكشوف  أي الأداء الذي لا يرمي إلى اندماج الممثل في دوره، ولا يسعى إلى إقناع المتفرج بأن ما يشاهده إنما هو حوادث تحدث في الواقع وليس تمثيلا. فالممثل هنا يقول للناس: اسمعوا، أنا فلان الفلاني، الذي عرفتموه في الحقيقة وهأنذا سأقلد لكم شخصية فلان. وطوال التمثيل ، يقدم الفنان نفسه ودوره معا. يقول للناس دوما أنا أحاكي. أنا أقلد، ولا يخفي هذه «الأنا» أبدا وراء قناع الدور.
ثم دعا الكاتب د. علي الراعي في كتابه «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» إلى الإفادة من صيغة  المسرح المرتجل  التي أدخلها إلى مصر الفنان السوري/ جورج دخول في الحقبة الأخيرة من القرن الماضي، وظل يقدمها على مسارح المقاه ، والمسارح الشعبية المرتجلة حتى عشرينيات القرن. هذه الصيغة تسمح للممثل بأن يكون فنانا خالقا إلى جوار كونه فنانا مؤديا  تعفيه من مجرد النقل الآلي  وتجعل منه شريكا فعالا في العرض المسرحي  الذي يصبح أقطابه في هذه الحالة:  المؤلف والممثل والمخرج والجمهور.
وقد كان لهذه المطالب الثلاثة، وغيرها  ردود أفعال واسعة في مصر وخارجها  فانتشرت التجارب المسرحية التي تستمد التراث في العراق وتونس والجزائر.
وقد ماثلها في الدول العربية الأخرى دعوة الكاتب المسرحي السوري/ سعدالله ونوس إلى تأسيس المسرح المفتوح أو مسرح التسييس، ودعوة الكاتب المسرحي التونسي/ عزالدين المدني إلى تأسيس المسرح التراثي، وفرقة الحكواتي إلى مسرح الحكواتي الشعبي.
أما في مصر فقد كانت التجارب العملية أسبق إلى الظهور من الدعوات النظرية كما يوضح د. علي الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي»: فتقدمت  مثلا  تجربة «يا ليل يا عين» لعرض وتجسيد الأدب الشعبي على شكل مسرح ورقص شعبي (1956) ومسرحية «حلاق بغداد» 1963 / 1964، وفرقة رضا للرقص الشعبي، والفرقة القومية للفنون الشعبية ابتداء من 1963  جميع الدعوات النظرية التي دعت إلى خلق مسرح شعبي في المضمون والصيغة معا. كما صاحب هذه الدعوات النظرية  زمنيا  عروض أكثر إيغالا في البحث عن التراث واستمداده مسرحا حيا، مثل «يا طالع الشجرة” لتوفيق الحكيم، و»شفيقة ومتولي»، «المستخبي» لشوقي عبدالحكيم، وهذه العروض قدمت على مسرح الجيب في موسم 1963 / 1964 .
كما قام كتاب آخرون باستغلال مضمون الحكايات الشعبية في الدعوة إلى آرائهم والتعبير عن وجهات نظرهم في العصر الحاضر.
وعلى رأس هؤلاء، يقف الكاتب الكثير التجريب، ألفريد فرج، الذي قدم مسرحيتيه المهمتين في هذا الصدد «حلاق بغداد» و «علي جناح الدين التبريزي وتابعه قفه»، مستغلا في كليهما حكايات ألف ليلة  في الأساس  إلى جوار بعض كتب التراث الأخرى مثل «المحاسن والأضداد» للجاحظ.
كما قدم ألفريد فرج في اللون نفسه، مسرحية «الزير سالم» واستغل شوقي عبد الحكيم حكاية فولكلورية اسمها «شفيقة ومتولي « ليعرض المفهوم الشعبي للقدر أو «المقسوم “ ويعبر تعبيرا دراميا أخاذا عن بعض معتقدات الشعب، مثل القتل دفاعا عن الشرف، وتقبل القتل تكفيرا عن الخطيئة. وصب نجيب سرور قصة شعبية أخرى هي «ياسين وبهية» في قالب الراوي والمقلد، كتبها مسرحية في شعر عذب بسيط، كبساطة موضوعه، مزج فيه الشعر الفصيح بالشعر العامي، واستعان بأغنيات شعبية شائعة، فأضفى على قصة المسرحية جو الريف الأخاذ، وصور في بساطة آسرة، قصة كفاح قرية اسمها «بهوت “واقعة في براثن الإقطاع. 
وكان من ضمن حصاد هذا التوجه والزخم الفكري والتوجه نحو مسرح مصري، أنشئت في عام 1971 فرقة السامر وكانت وقت ذاك تحمل اسم الفرقة النموذجية. وشيد مسرح السامر بقرار من السيد الرئيس الراحل أنور السادات. وبعد أن قدمت الفرقة ما يقرب من العشرين عملا مسرحيا احترق مسرح السامر بعد تأسيسه  بأربع سنوات، لكن تم إعادة بنائه وقد بذل الراحل سعد الدين وهبه  مجهودا كبيرا جدا  في إعادة ترميمه وبناءه بعد عدة شهور من حريقه. وبعد إعادة افتتاح السامر بعرض «عاشق المداحين” عن الشاعر بيرم التونسي وكان أول عرض يحضره الرئيس السادات وينقله التليفزيون المصري على الهواء مباشرة، قدم المخرج عبد الرحمن الشافعي من خلال الفرقة أهم عروض المسرح الشعبي المأخوذة عن السير الشعبية لشوقي عبد الحكيم ويسري الجندي. كما قدم مسرح السامر كبار الكتاب مثل محمود دياب ميخائيل رومان، عبد الرحمن الشرقاوي، وأبو العلا السلاموني وغيرهم. وقدمت فرقة السامر العديد من العروض المسرحية المصرية المؤثرة في المجتمع المصري وأقامت مهرجانات كبيرة لهيئة الثقافة الجماهيرية وكان أشهرها مهرجان المائة ليلة. وصارت فرقة السامر صاحبة تاريخ كبير في تقديم أعمال التراث الشعبي والكوميديا الشعبية.

مراجع:
د. توفيق مرسي،» اتجاهات المسرح السياسي المعاصر”، دار مصر العربية للنشر والتوزيع، 2010م.
د. جودة عبد النبي جودة، «المسرح السياسي المعاصر في مصر»، الهيئة العامة للكتاب. 2015م.
- د. حورية محمد حمو ، تأصيل المسرح العربي بين التنظير والتطبيق، اتحاد الكتاب العرب، 1999م. 
د. علي الراعي، «المسرح في الوطن العربي»، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب، الكويت،  عدد 25، 1980م.
د. عمرو دوارة- «المسرح المصري مائة وخمسون عاما من الإبداع»، مطبوعات المهرجان القومي للمسرح، 2019م.
د. غادة عبد التواب، «الإعلام التقليدي والإعلام البديل» ، مؤسسة حورس الدولية ،الإسكندرية، 2020م.
 فاطمة يوسف ، «المسرح والسلطة في مصر» من 1970 – 1952
 د. محمد عبد المنعم، “المسرح السياسي”، دار المعارف، 2015م.
منى صادق، أهم اتجاهات الإخراج المسرحي في الستينيات، دفاتر الأكاديمية، مسرح 15، القاهرة، أكاديمية الفنون.2005م.
د. حسن عطية- ثورة يوليو.. البدايات.. كيف تراها عين ناقد مسرحي: جريدة مسرحنا، العدد 569 بتاريخ 23يوليو2018م.
د. عمرو دوارة-  الثورة المصرية وعيون المسرح-  جريدة مسرحنا.
فؤاد دوارة، الثورة في المسرح العربي، مجلة الآداب، العدد رقم5، مايو 1970م.
وطفاء حمدي ، تمثلات ثورة يوليو المسرحية في المرحلة الناصرية، الشراع اللبنانية، بتاريخ 21 يونيو 2018م .


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏