«حمدي» المقهور عند ميخائيل رومان

«حمدي» المقهور  عند ميخائيل رومان

العدد 617 صدر بتاريخ 24يونيو2019

ميخائيل رومان (1924 – 1973) كاتب مسرحي مصري كتب ثماني عشرة مسرحية تم عرض بعضها ونشر البعض الآخر، وقد لقيت أعماله اهتماما نقديا كبيرا وتنتمى معظم هذه الأعمال إلى فترة الستينات، ويركز في أغلبها على شخصية البطل الفرد الذي ينتمي إلى الطبقة البرجوازية الوسطى، ويهتم بإبراز جوانب من شخصية الرجل المثقف الذي يعاني أساليب القهر في ظل الأنظمة الاستبدادية التي تكاد أن تنجح بوسائلها القمعية في إلغاء هويته الفردية. ومسرحياته هي الأكثر حدة وصدامية من بين كتابات أبناء جيله من حيث معالجتها لظواهر انحراف ثورة يوليو عن أهدافها المعلنة وتحولها إلى نظام قمعي من أجل حماية السلطة، ونتيجة لذلك تعرضت مسرحياته لحملة تعسفية مستمرة بحيث لم ينجُ أي منها من المنع المباشر أو من التهجم في الصحافة إلى درجة أصبح معها ميخائيل رومان ذاته مثالا واضحا لقهر المجتمع للمثقفين.
يبحث رومان عن مسرح حر لا يخضع لقهر السلطة, يقوم بالتغيير وينهض بالمجتمع ويسير به إلى الأمام، ويبرر البعض تلك الحدة وذلك الغضب العارم في موقف رومان تجاه القهر والاستبداد بأنه ينظر إلى الحرية كمعادل للوجود الإنساني فبتحققها تتحقق كرامة الإنسان وإنسانيته، ولذلك نجده يعالج الواقع الاجتماعي والسياسي الذي ساد في فترة الستينات ويركز في مسرحه بشكل أساسي على قضية الحرية بمختلف أشكالها سواء حرية الرأي والتعبير والحرية الاجتماعية والوطنية، وظهر ذلك في مسرحياته التي ترسم كلها صورة عالم واحد يعيش فيه الكاتب مع أكثر أبطاله حميمية والتصاقا به وهم «حمدي، وجمالات، وفريدة»، وقد تختلف الأسماء أحيانا وقد تختفي لكن تبقى المواقف الحدية المتصاعدة التي يتعرضون لها دائما هي هي والأعداء الذين يواجهونهم هم أنفسهم حيث يقوم بمناقشة الواقع عن طريق شخصيات تكاد تكون ثابتة يناقش من خلالها تأثير القهر بمختلف أنواعه عليها، ويعكس مدى قدرتها على المقاومة والدفاع المستميت عن حريتها ضد من يحاول سلبها، ويعلو صوت «حمدي» وهو الشخصية الرئيسية في أعمال رومان رافضا كل أنواع القهر بداية من مسرحيته الأولى «الدخان» التي أثارت ضجة عنيفة عند عرضها وأفردت لها الأهرام ثلاث مقالات نقدية متتالية، وجندت لها الصفحة الأدبية وصفحة الرأي، فكتب ضدها أحمد بهجت ووحيد النقاش، وقال فيها لويس عوض كلمته المشهورة التي صارت مثلا (شيء اسمه الدخان في المسرح القومي).
وقام بإخراجها للمسرح كمال ياسين وقام بالبطولة الفنان عبد الله غيث وكتبها رومان وهو في سن الأربعين، وقد استقبلت بكثير من الصخب حيث إن كم الغضب الجارف الذي يتفجر على ألسنة أبطاله يرغم المشاهدين على أن يبادلوهم غضبا بغضب.. وقد تأثر رومان في أعماله تلك بعدد من المسرحيين الغربيين منهم أنتونين آرتو, برانديللو, آرثر ميللر, يونيسكو، وغيرهم، فإقباله على الترجمة جعله يتأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بهؤلاء الكتاب وأعمالهم العالمية وبالمذاهب الفنية المختلفة، ونجده يؤكد ذلك قائلا: «أنا لا أكتم إعجابي بمسرح اللامعقول ففي استطاعة هذا المسرح أن يقول وبشكل يهز الوجدان وعنف بالغ القسوة ما لا يستطيع المسرح الواقعي أن يصل إليه أبدا». وقد تنوعت أعمال ميخائيل رومان بين الواقعية فتكتسي شخصياته لحما ودما وهموما ومشاعر واقعية وتدخل في صراعات مع الذات والآخرين على أسس ومبررات ذات طابع واقعي، كما في مسرحية «الدخان».
وهناك مسرحيات تنتمي للتعبيرية والرمزية أو التجريدية وفيها يفقد الأبطال أسماءهم وملامحهم الواقعية وتتداخل الحقيقة والوهم. ويختلف الكثير من النقاد حول تصنيف أعمال ميخائيل رومان ووضعها داخل إطار أحد الأساليب التي تتناسب وهذه الأعمال، ولكن ميخائيل رومان لم يلزم نفسه بشكل أو مذهب مسرحي بعينه وإنما يتضح تأثره بكل المذاهب المسرحية في اختياره لرؤية خاصة تتناسب مع أعماله وتمكنه من نقل فكرته للمتلقي بأكبر قدر من الحدة والنفاذ والإثارة، فليس هناك  ما يجمع بين مسرحياته سوى موضوع الحرية بمختلف معانيها وتجلياتها فرديا واجتماعيا ووطنيا. وأخذ رومان من تلك المذاهب القالب فقط ليضع به أفكاره، فنجد المسرحيات الواقعية – الطبيعية مثل الدخان 1962 والزجاج 1968 وإيزيس حبيبتي 1971 التي بنى رومان شخصياتها نابضة بالحياة وبسمات خارجية محددة وعمق نفسي مع تطلعات ورؤى وأحلام ووعي فكري بما يحيط بهم. أما في مسرحية الوافد 1966 والخطاب 1967 فتظهر ملامح التعبيرية والتجريدية على صعيد المضمون والشكل معا وهما يمثلان محاكاة تهكمية ساخرة لموضوع مأساوي وهو ما كان يفعله كتاب العبث في أعمالهم.. وفي مسرحيتي الليلة نضحك 1966 وليلة مصرع جيفارا العظيم 1972 استخدم رومان تقنية المسرح داخل مسرح التي عرفت منذ القرن السادس عشر في إنجلترا، ولكنه تأثر في هذا بالكاتب الإيطالي برانديللو.
أما عن البطل عند رومان، فلم يقدر لشخصية فنية في أدبنا المعاصر كله أن تعيش حياة بالحجم الذي عاشته شخصية «حمدي» ميخائيل رومان، إنها الشخصية الوحيدة التي ظلت تلح على وجدان خالقها ثمانية أعوام حيث كانت الشخصية المحورية لعدد من أعماله، منها الدخان 1962 – الوافد 1965 – المزاد 1966 – المعار والمأجور 1966 - الزجاج 1967 – كوم الضبع 1969 وغيرها، وقد أتيح لحمدي أن يتحدث ويعيش في غالبية قضايا وجودنا الإنساني والاجتماعي وأن يختلف حولها وأن ينفعل بها في صورة مباشرة أو غير مباشرة مثل الحرية والطغيان، والنزعة الفردية وسيطرة الجماعة، المسئولية والالتزام، الأخلاق والجنس، والعمل والحب، النظام والفوضى والحق المطلق في الوجود والحق السياسي في التعبير، الرجولة والعلاقات الزوجية ومواجهة المجهول والاغتراب الاجتماعي، التمرد الفردي والثورة الجماعية، وغيرها من القضايا التي يتحدث عنها بصفته فردا داخل مجتمع يؤثر فيه ويتأثر به. والبطل عند رومان يدفع حياته ثمنا لتأكيد وجوده والدفاع عن حريته المطلقة فهل يعد بذلك بطلا ثوريا؟ البطل الثوري هو «إفراز لطبقة كادحة تعاني من الاضطهاد يعبر عن مشاعر طبقته وإرادتها ومطالبها متلاشيا في مجتمعه يسعى نحو الحرية ولا يكفي أن يكون مضطهدا كي يختار أن يكون ثوريا لكنه لا يبغي الثورة التي تحطم المجتمع ولا يعمل بمفرده بل بالتضامن مع مصالح طبقته. فالبطل الثوري قائد لجماعة يسعى لتحقيق أهدافها وليس أهدافه الشخصية، فالبطل عند رومان يثور وينفجر في وجه الأنماط المتشيئة التي تحاول سلب حريته ولكنه لا يتمسك بموقفه للنهاية، وبذلك لا يعد بطلا ثوريا وإنما هو بطل متمرد على نظام يسلبه حريته فيسعى إلى الدفاع عن ذاته ضد هذا النظام, لذا فالبطل المتمرد عند رومان يسعى لتغيير الواقع ولكنه لا يملك تصورا عن التغيير الذي يريده، ولذلك تكون الفوضى هي النتيجة المنطقية في حالة انتصار هذا المتمرد، وقد يبرر ذلك النهايات الدموية التي يلجأ إليها رومان لأن البطل الفرد لا يمكنه الانتصار وهو يقف وحده ضد مجتمع بأكمله.


سيادة نايل