فرقة الأوبريت المصري بكازينو العائلات بطنطا

فرقة الأوبريت المصري بكازينو العائلات بطنطا

العدد 781 صدر بتاريخ 15أغسطس2022

انتبهت مجلة «الصباح» الفنية عام 1926 إلى قضية التمثيل في مدينة طنطا، كونها لا تتناسب مع أهمية المدينة ومكانتها! فكتبت عن ذلك قائلة: تقول الكتب الجغرافية ويقول أصحاب الذوق السليم، وكل واحد فحص المدن المصرية بعين البصيرة، إن مدينة طنطا هي المدينة الثالثة للديار المصرية بعد مدينتي مصر [أي القاهرة] والإسكندرية. ومن الطبيعي أن النسبة في كل شيء تكون على قدر الدرجة، التي يحتلها ذلك الشيء.
فمثلاً إذا كانت مدينة مصر، هي العاصمة للبلاد المصرية، والمقر لجميع أصحاب الدرجات الرفيعة من أصحاب عرش البلاد إلى أمراء أسرته، ورجال حكومته، وأصحاب الضياع والمتاجر وإذا كانت مدينة الإسكندرية هي الثغر الأكبر للبلاد ومحط رجال الجاليات الأوروبية الوافدة علينا لمختلف الشؤون، فإن مدينة طنطا تليهما في الأهمية، إذ أنها أكبر عاصمة للدلتا يرد إليها محاصيلها الزراعية المختلفة، ويفر عليها الكبراء من أصحاب المزارع والمتعلمون من الفلاحين، وفيها غالب الهيئات القضائية والإدارية التي تنوب عن الحكومة في إدارة بلاد الدلتا يضاف إلى ذلك أن سكانها لا يقلون في الرقي عن أمثالهم من سكان العاصمتين وفيهم طبقة ذات ثقافة كبرى. وليس بخاف أن مدينتي مصر والإسكندرية فيهما من المتممات المدنيّة الحديثة، ما لا يوجد في مدينة طنطا! نريد أن نبحث في عجالة موضوعاً واحداً مما ينقص مدينة طنطا، وهو التمثيل! نعلم ويعلم معنا كل من أقام في العاصمتين ولو شهراً أن فيهما من دور التمثيل العدد الكبير، فقد يكثر أن تمثل روايات عديدة في مراسح مختلفة في ليلة واحدة ما في مدينة طنطا. فليس هناك شيء من ذلك اللهم إلا مسرح البلدية، الذي لا يفتح إلا في كل ستة أشهر مرة، ونستطيع أن نقول إجمالاً إن الفتح لا يحصل إلا من جهة خارجية عن إدارة المسرح فهل هذا ما كان منتظراً من إنشاء ذلك المسرح. وفوق ذلك أن المسرح إذا اشتغل كل ليلة لا يكفي الجمهور بل الأمر يحتاج إلى عدة مراسح حتى يرتشف الجمهور من مناهل التمثيل العذب ففائدته أصبحت من أجل الفوائد، وميل النفس إليه لا يقدر فهل يمكن للذين يريدون أن يستثمروا أموالهم من أغنياء الطنطاويين إنشاء عدة مسارح بصفة شركة. ولا شك أن نجاحهم لا يحتاج إلى الضمان في الحق أن هذا عار على الأغنياء لأنهم وهم الذين أشربوا حب النجاح المالي وفائدة التمثيل الذي يحثهم عليها ما تعلموه من العالم الغزير وفي الحق، أن من واجب البلدية أن تفتح مرسحها للجمهور في كل أسبوع ولو مرة، فهي تدرك النقص الذي يحدثه إغلاق مرسحها في أكثر الأيام.
هذه الملاحظات المنشورة في مجلة الصباح، دفعت جريدة «المدفع» لتتبناها بعد عام تقريباً وتكتب كلمة في أغسطس 1927 عنوانها «التمثيل في طنطا»، قالت فيها: طنطا ثالثة عواصم القطر ومن أكبر المديريات، ورغماً من ذلك فهي محرومة من كل فن جميل يُشاهد أو يُسمع ولا تدري ما علة ذلك! مع العلم بأن تعدد الفرق من القاهرة يسمح بتعددها أيضاً في طنطا وغيرها من كبار المدن، خصوصاً وأن فن التمثيل الخالد من أهم العوامل على تقدم الأمة ورقيها، لما فيه من نكات بريئة ودروس اجتماعية تؤثر في المجموع، فتخلق منه خلقاً جديداً. كان في طنطا فرقة تمثيل كوميدي يرأسها أحمد أفندي المسيري الذي كان يشغل في حديقة النزهة حسب إرشادنا له بترك محله القديم لعدم صلاحيته للتمثيل. لم يطل أمد فرقة «المسيري» بمركزها الجديد حتى داهمتها فرقة جديدة هي «فرقة الأوبريت المصري» إدارة عباس أفندي الدالي [المولود في طنطا عام 1911، والذي أصبح فيما بعد من ممثلي السينما في الأدوار الصغيرة] وأخذت فرقة الأوبريت تعمل بمسرح كازينو العائلات بجوار مسرح المسيري. ونحن يسرنا أن نقول في حرية وصراحة إن مدينة طنطا أصبحت بها فرقة تمثيل راقٍ، لا باس بها. ولا أكون مغالياً ولا مبالغاً إذا قلت إن فرقة الأوبريت قد نالت استحسان الشعب الطنطاوي وإعجابه. فتكاثر على مشاهدتها وحضور تمثيل رواياتها، وهنا تجلى تشجيع الشعب وتعضيده للفرق الراقية، التي تخدم الفن بأمانة وإخلاص. لقد كان تقدير الشعب هنا لفرقة الأوبريت المصري دليلاً ناطقاً على أنها قد نالت رضاءه وإعجابه! ويرجع الفضل في ذلك إلى ما يبذله حضرة مديري الفرقة وممثليها الذين يقومون بأدوارهم خير قيام! وأخص بالذكر منهم «عباس أفندي الدالي» الذي نعرفه أيام أن كان مديراً لفرقة عز الدين، وتوفيق أفندي إسماعيل الذي اشتغل بعدة فرق كبيرة منها: فرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي، ومحمد أفندي يوسف كشكش بيه، والممثل الخفيف الروح عبد الحميد أفندي شريف، ومحمود أفندي عقل، وحسين أفندي لطفي، وباقي أفراد الفرقة ولا أنسى أن أذكر بفخر وإعجاب ما نالته الممثلات: السيدة مرجريت شماع، والآنسة مليكة، وشقيقاتها، والسيدات: دولت فهمي، سنية المصري «ثريا»، فقد أظهرت خفة تامة ورشاقة عجيبة، حتى نلن تصفيق الشعب وهتافه. وإنّا نرجو لفرقة الأوبريت ما هي جديرة به من التشجيع والتعضيد والإقبال عليها، حتى تظل بيننا تؤدي واجبها بين مظاهر الإعجاب والاحترام. كما وأننا سنبدأ بنقد رواياتها بنزاهة وإخلاص!
وصدقت جريدة «المدفع» في وعدها، ونشرت أول نقد لأول عرض لهذه الفرقة في أواخر أغسطس 1927، تحت عنوان «التمثيل في طنطا»، قالت فيه: شاهدنا على مسرح «الأوبريت المصري» راوية «الهلال» تأليف الأستاذ «عبد الحميد كامل» وتلحين الأستاذ «إبراهيم فوزي» وهي من الروايات الخالدة التي تستدعي الإعجاب إذ يتخللها شرف الانتساب للوطن والدفاع عنه وعن حياته، حيث قام الأستاذ عبد الحميد شريف بدور الأومباشي المصري، وتوفيق أفندي إسماعيل بدور جاسوس العدو، ومرجريت شماع بدور الجاسوسة، ودولت فهمي بدور أم أحمد. وإننا نلاحظ عدم قيام فرقة الملحنين بتأدية الألحان كاملة. كما أن الإضاءة كانت غير حسنة، وبدون مراعاة لتفاوت الأوقات، التي تقع فيها حوادث الرواية. فمثلاً كان يجب تقليل النور عند دخول الجواسيس للمعسكر، إذا كان الوقت منتصف الليل، كذلك عدم وجود مناظر كافية تساعد على إظهار مواقع الرواية، وارتفاع صوت الملقن. وهذا خطأ يجب تلافيه لتكراره. قيام عبد الحميد أفندي شريف بدوره خير قيام، مما استدعى تصفيق الجمهور وهتافه، لو أن لاحظ الجميع حركة عدائية تنبعث من نفوس بعض النظارة الذين لا يروق لهم سوي التهريج. كما وأن لهذا الممثل القدير منافسين في هذا الدور الذين أرادوا إحراج مركزه خوفاً على زوال مراكزهم. ويكفي لإظهار هذه الحقيقة ما فاه به عباس الدالي أفندي مما أدى إلى صخب الجمهور وضجيجه، مما اضطره لاختصار الرواية. وعلى كلٍ فأنا أهنئ الأستاذ عبد الحميد شريف بمستقبل باهر، وقد قام كل بالدور الذي أسند إليه خير قيام وخصوصاً الممثل النابغة توفيق أفندي إسماعيل الجاسوس، وحسين أفندي الشماع الأومباشي المصري، والسيدة سنية المصري الضابط جميل، مما دعى لثناء الجمهور وإعجابهم. ولولا تلك الحركة العدائية التي قضت على الرواية في بدء نهوضها، لكانت هي خير ما أخرجته هذه الفرقة لشعب طنطا. وانتهت الرواية بعد اختصار كبير ونقص ظاهر، وختمت بفصل كوميك من الممثل البارع الأستاذ محمد أفندي يوسف. وقبل أن أنتهي من نقد هذه الرواية أرجوا حضرات القراء أن لا يؤاخذوني لعدم تحليل هذه الرواية والاختصار في نقدها، وما دعاني إلى هذا إلا لأن عدم إتمامها حال دون ذلك. وقد علمنا أن «فرقة» الكوميك العربي ستعمل في كازينو العائلات إدارة سالم أفندي السواق! ومما يجعلنا نتفاءل خيراً لهذه الفرقة قوة استعدادها الفني، وكفاءة ممثلها الأول الأستاذ «علي كامل» وحزم حضرة وكيل إدارتها «زكي أفندي علي» فنتمنى لفرقتهما النجاح.

الناقد جبر
في هذه الفترة ظهر ناقد مسرحي اسمه «جبر»، وهو الناقد الفني لجريدة «الضحوك» - ولجرائد ومجلات أخرى طنطاوية كما سنرى لاحقاً - وهي جريدة محلية! وأول مقالة له وجدناها في هذه الفترة كانت منشورة في أواخر أغسطس 1927، وتحدث فيها عن الفرقتين المتنافستين في طنطا، قائلاً تحت عنوان «على المسارح»: يتناوب التمثيل بمدينة طنطا الغراء فرقتان إحداهما فرقة الأوبريت، التي يديرها فنياً عباس أفندي محمود الدالي، ويديرها مالياً عبد الحميد أفندي شريف. وهذه هبطت طنطا قبل الفرقة الأخرى واتخذت مسرحاً لتمثيل رواياتها بقهوة العائلات. والفرقة الثانية وهي فرقة الكوميدي العربي، وهذه يديرها فنياً علي أفندي كامل. ويديرها مالياً سالم أفندي السواق، على ما يقولون. وأخذت مقرها قهوة النزهة المجاورة لقهوة العائلات. وبسبب صلة الجوار القائمة بين الفرقتين يحدث التنافس، وتحدث المضاربة رغبة في أن تنتصر إحداهما على الأخرى، وتفوز في مضمار الإقبال على منافستها. ويلوح لنا أن كل فرقة منهما تختار للمحاربة سيف الممثلات الرشيقات اللاتي يقمن بأدوارهن في الفرقة من رقص إلى غناء إلى تمثيل، وأخيراً إلى مغازلة أو محادثة أو مقابلة فترى الفرقة الأولى تعتز بثريا ومرجريت كما تزهو الثانية بسعاد حمدي. ولكن الشعب الطنطاوي وفي مقدمته غواة التمثيل. وهواة الكوميدي ليس همهم الانتصار لفرقة على الأخرى، بما حوت من فتيات وأقلت من ممثلات، وإنما فكرتهم الحقيقة متجهة بصفة عامة إلى الفن من حيث هو فن، لا يعنيهم الغزل ولا تأخذ من قلوبهم المعاكسة، اللهم إلا نفر قليل من المنزعجين وهؤلاء يعيشون لأنفسهم ويحيون لسرورهم وملذاتهم ولا يمكن أن نعتبر رضاءهم عن فرقة رضاء عاماً. بل الرضا الذي تناله الفرقة والإقبال الذي يصادفها بسببه، وعلى اختيار الروايات التي تعرض على المسرح ومعرفة مبلغ ملاءمتها لروح الشعب، الذي يهرع إلى المسرحين ليلياً. وموقوف أيضاً على أن تضبط الممثلة عواطفها وتحدد مركزها حيال المتفرجين! فلا تبذل ضحكتها وحركتها بذلاً بغير مناسبة، ولا تجعل همها منصرفاً إلى ترقب إلقاء الورود والزهور عليها، بل أن واجبها الأول اعتبار نفسها ممثلة قبل كل شيء، تخضع للدور الذي بها تمثيله في غير مداعبة أو محاورة. ولنا مع كل فرقة موقف خاص، وفي كل ممثل رأي خاص نطلعك عليه قريباً. [توقيع] «جبر».
والواضح أن الناقد «جبر» ناقد جريدة الضحوك هو نفسه ناقد جريدة «الممتاز»، حيث إنني وجدته يستكمل نقده لعروض الفرقة في جريدة الممتاز، وكأنها هي جريدة الضحوك!! وأهم مثال على نقده في جريدة «الممتاز»، نشره لمقالة كبيرة يوم 24 أغسطس 1927، سأكتفي بجزء من بدايتها، وسأستكملها في المقالة القادمة!!
يقول الناقد تحت عنوان «التمثيل في طنطا .. فرقة الأوبريت»: تواصل هذه الفرقة التمثيل بمدينة طنطا بقهوة العائلات، ويواصل الشعب الطنطاوي على اختلاف طبقاته التردد على ذلك المسرح لمشاهدة الروايات، التي تقوم الفرقة بتمثيلها، وليس فوق التشجيع الذي قوبلت به الفرقة من تشجيع، وليس بعد الرواج الذي نالته من رواج. فهي رغم وجود فرقة أخرى تناهضها الفن في قهوة النزهة، فلم يؤثر عليها التنافس، ولم تخفف من حديثها وحرصها على الفن، تلك المناورات الدنيئة التي تعمل منافستها على بثها في الوسط المسرحي بقهوة العائلات. هذا الانتصار التي تمتعت به فرقة الأوبريت، وهذا الفوز الذي حالفها يرجع إلى أسباب وعوامل منها، ما هو ظاهر جلي، ومنها ما هو غامض خفي! ولسنا كناقدين بريئين بعيدين عن التحيز والممالاة، أن نضع بين يدي القارئ الكريم صوراً نفسية بارزة لتلك العوامل، وتذهب في النقد إلى أبعد توسع ممكن، لتكون في ذهن القارئ فكرة عامة عن فرقة الأوبريت، ويقطع معنا أنها جديرة بالإقبال الذي يحفها، وخليقة بأن تنتصر على الفرقة الأخرى، وتفوز من دونها في مضمار المنافسة. وسنكون في نقدنا - وبقدر الإمكان - باحثين عن السر في الانتصار، مقدرين مجهود كل فنان ومبلغ تأثيره على الفرقة وعلى نفوس الجمهور، وعلى السواء غير سالكين ما ينتهجه غيرنا في النقد من طرق التعريض أو الحط من الكرامة!
وتحت عنوان «الإدارة بصفة عامة»، قال الناقد جبر: أول ما أحدثك عنه هو إدارة الفرقة بصفة عامة، فمن قائل إن المدير هو عباس أفندي الدالي، لما يختص به في كل رواية من دور هام أو أدوار هامة، ولما هو ملحوظ عليه من بشر وطلاقة وجه، وجميل مقابلة، وحسن تأدب. ومن قائل إن المدير هو عبد الحميد أفندي شريف، لأنه كان أول مفكر في اختيار طنطا للتمثيل باعتباره أحد أبنائها، وهو الذي يساعدها بماله، ويمدها بنفوذه. وعلى هذين القولين يمكننا أن نقول بأن الأول مدير الفرقة الفني [أي المخرج]، والثاني مديرها المالي. ولكنك لا تلبث أن تجد معترضاً على هذا الرأي الأخير!! أما سبب الاعتراض مع رأي الناقد «جبر» في بقية الممثلين والممثلات، فسنعرفه في المقالة القادمة!!


سيد علي إسماعيل