ظل الحكايات .. السؤال الوجودي

ظل الحكايات .. السؤال الوجودي

العدد 641 صدر بتاريخ 9ديسمبر2019

في قاعة مسرح الغد عرضت مسرحية ظل الحكايات.. القاعة مستطيلة وفي خلفيتها شاشة عرض سينمائي شفافة وبطول ضلعي المستطيل جدارية مرسوم عليها أشكال مرعبة وزواحف ووجوه مشوهة كالتي تظهر في أفلام الرعب الأمريكية، وعلى مؤثرات صوتية متوترة وموسيقى غريبة يظهر لنا الضوء شخصا نائما على مقعد ويبدو أنه في كابوس منامي أو ما يسمى بالجاسوم.. يحذره فيه حيوان كالتمساح الضخم.. لينتقل المشهد إلى شاشة العرض فنجده مهددا من تمساح على حافة جبل عالٍ ثم يسقط من الجبل العالي في حال كابوسي مرعب.. فيستفيق بعض الوقت معانيا.. وتظهر شخوص شبحية الطابع تتحرك حوله وتختفي ومن فوق الجدار المجاور له تظهر وجوه مرعبة وطيور أسطورية مرعبة لينتقل المشهد داخل الكابوس إلى ذهابه لمحطة قطار متحدثا عبر الهاتف لامرأة ما قد تكون زوجته أو أمه.. لا فرق.. فهو ذاهب في رحلة بالقطار لحضور زفاف صديقه.. وفي محطة الوصول يستقبله شخص يحذره من المحطة المليئة بالجن.. وتتوالى الصور السينمائية في تكرار لمشهد سقوطه من حافة الجبل والموت المحقق له.
ونفهم من هذه الأضغاث أنه شخص عاطل ومحبط يعيش داخل هذا الكابوس بالعقل المعيشي.. والنتيجة حالة من التوتر المستمر والاندهاش الدائم والتعجب والاستفهام أمام شخوص وأفعال تظهر وتحتفي وتبدأ وتنتهى بل كيفية ولا حيثية فينطلق السؤال الإنساني الدرامي عن حقيقته.. هل هذه حياته أم الموت.. أين الحقيقة.. هل ما يراه من حكايات تحكيها له الشخصيات العجيبة المرعبة تارة والجميلة تارة أخرى، هي الحقائق أم الظلال من عالم الظلمة والرعب.. فكان الصراع بين الواقع والحقيقة داخل نفس الشخص.. وتتعمق الأسئلة عبر الشخوص.. التي ينفيها الموت ويثبتها وجودهم على الدوام.. شخصية ليل المرأة المرعبة في آنٍ، والعروسة الأنثى الجميلة التي تزوجها بلا كيفية في مفاجأة عجيبة في آنٍ آخر.. وكذلك رجل المقابر.. الحكيم تارة والكاذب والمرعب تارة أخرى.. وهل الحقيقة ترتبط بالمعارف.. أم أنها مطلقة والمعارف نسبية..؟ وهل ما يراه يبصره يمثل البصيرة الحكيمة أم أنه متغير ومتلون ومتناقض..؟
وبين مفردات الحلم والتشبث بالواقع تنهمر هذه الأسئلة وتتكرر في بحث وجودي كوني لهذا الشخص.. من أنا... هل أعرف نفسي أم أنني مجرد ظل عابر..؟
ووسط أدوات مسرحية تجلت في استخدام شاشة السينما واستخدامات رائعة لفن العرائس والأقنعة في خلق عالم باطني خيالي في رحلة الحلم الكابوسي.. وألحان وموسيقى وكلمات بالعامية وسط الوعاء اللغوي الفصيح الأساسي للعرض.. فالبطل هو الوحيد الذي يرتدي الملابس العصرية بينما ترتدي الشخصيات ملابس خيالية وأقنعة مرعبة وشخوص عرائسية تتقابل معه وكأن هناك مرايا وهمية يرى نفسه في صور هذه الشخوص الماورائية للواقع التي تظهر وتحتفي من فراغات سوداء في محيط الصورة المسرحية، والتي غلفت في صورة بانورامية للأسطورة الإغريقية لميلاد زيوس وحياته بعد أن أكل أبوه كل إخوته.. فتجلت عناصر فكرية تجسدت في أفعال وشخوص، وهي: الخيال - الواقع - المعرفة - الحكمة - الحقيقة.. داخل الباطن الإنساني الذي تم التعبير في صور مادية سيريالة الطابع لمناقشة القضية الوجودية لإنسان يشعر بالغربة والوحدة والتناقض والتنافر الشديد بين كل ما يراه ويسمعه.. وتكرار السؤال الفلسفي الدائم وسط تحول وتغير الحكايات والشخصيات من حوله حتى ظهرت المرأة التي يرى العالم المحيط به من خلالها، ثم توجهت هذه المرأة الدائرية للجمهور للربط والتوحد بين جمهور الصالة وتلك الحالة الوجودية المؤرقة المتوترة الخائفة التي تشعر بالضياع.. وأن هذا الواقع مجرد وهم وخيال وعلى الإنسان التحرر منه لدرجة أن يحمل جثته كي يدفنها بنفسه، وينخلع عن جسمه الذي يمثل وجوده الواقعي.
العرض وجبة دسمة من الأسئلة الفلسفية في إطار سيريالي نفسي وصور باطنية كابوسية مرعبة تعكس حال اليأس والضعف الإنساني حتى ينتهي العرض بالصلب.
أرى أن هذه النوعية من العروض الفلسفية التأملية لها جمهورها الخاص.. حيث يمثل هذا العرض مغامرة إبداعية لتناول نص فلسفي ذهني جامع بين اتجاهات معاصرة سيريالية وسيكودرامية وتعبيرية ووجودية.. في نسيج سؤال فلسفي عميق بين الواقع والحقيقة.
وقدم لنا الفنان رامي الطمباري تلك الحالة المتوترة على الدوام المختنقة باستمرار.. فكل أحداث العرض كانت مجرد كابوس في النهاية، في جودة أداء عالية المستوى شاركه فيها الفنان محمود الزيات والفنانة عبير الطوخي في حرفية أداء قلما نجدها في عرض مسرحي ومعهم كل فناني العرض.
النص للكاتب المصري إبراهيم الحسيني وللمخرج الواعد عادل بركات.. وكل التحية لهم.


جلال الهجرسي