مرساة في محيط هستيري .. براثن الحرب لن تكترث لحياة الأبرياء

مرساة في محيط هستيري ..  براثن الحرب لن تكترث لحياة الأبرياء

العدد 742 صدر بتاريخ 15نوفمبر2021

هناك الكثير من الدمار الذي يحل بأي بلد تحيا في ظل حرب ما، فإذا تتبعنا الحروب التي حدثت على مدار التاريخ في بلدان العالم المختلفة سنجد انه مهما اختلف المكان والزمان يبقى اثر الحروب واحدا على البلدان من حيث تلف الأرض ومواردها وما إلى ذلك وكذلك الذات الإنسانية التي تتحطم تماما اثر ما يحيا به الفرد في ظل تلك الأجواء القاتمة والمعاناة، ويبقى إصلاح الأرض أمر هينا في مقابل اصلاح ما يفسد داخل النفس البشرية «أن امكن إصلاحه من الأساس»، فتلك النزاعات تتسبب في تشوه أعماق الفرد كليا وتُحدث خللا في بنيته الإنسانية ونظرته للحياة التي حتما ستتحول إلى نظرة عبثيه تشكك في جدوى وجوده، والتي ستحوله إلى جسد بلا روح، وقد يدفعه هذا التشوه النفسي إلى القيام بأفعال تتنافى تماما مع معايير الإنسانية.
وهذا ما جسده العرض المسرحي مرساة في محيط هستيري إعداد وإخراج سعيد سلمان والذي قدم في إطار فعاليات الدورة الثالثة من ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي، والمأخوذ عن نص موتى بلا قبور لجان بول سارتر ومؤلفات كارلوس زافون، تدور دراما العرض حول مجموعة من شباب المقاومة الفرنسيين الذين يرفضون التحالف الفرنسي مع الألمان، ويتم القبض عليهم من قبل القوات الفرنسية أثناء مقاومتهم لاستجوابهم والأدلاء عن مكان زعيم المقاومة لكنهم يرفضون حتى مع التعذيب القاسي التي توقعه القوات الفرنسية عليهم، ومن ثم تنطلق أحداث العرض لتجسد لنا معاناة الذات في ظل الحروب، فنحن بصدد دراما نفسية تنبش بالذات الإنسانية لتفصح عن ما تحدثه براثن الحروب الأليمة، حيث كشف سلمان من خلال أحداث العرض عن الضرر النفسي الذي يلحق بالشعوب، كما تكشف الشخصيات عن الصراع الكامن داخل كلا منهما من خلال شباب المقاومة فنحن أمام ثلاث شبان وفتاتين يختلف كلا منهما عن الآخر في نظرته للحياة وللقضية التي يدافع عنها وأيضاً في قوه تحمله لهذا التعذيب الذي يوقع عليهم، وكذلك نرى الجانب الأخر حيث الضابط الذي يمثل القوة العسكرية ونرى من خلاله الجانب المظلم الذي يقد يحمله بداخله الكثير من الضباط الرافضين للحرب رغم خضوعهم للأوامر وتعذيب أبناء بلدتهم فقط لتنفيذ أوامر القيادات ورغبة منهم في إنهاء الحرب التي أودت بحياة الكثيرين منهم حتى وان انتهت بهزيمتهم فيكفي أن تلك الهزيمة وضعا حد لبحور الدماء التي سالت بسبب الحرب، فالجميع يطمح في أن تحقيق السلام والاستقرار ولكن كلا بطريقته وبمنظوره الخاص، وصحيح أن دراما العرض حددت مكان وزمان بعينه للأحداث لكننا أمام أحداث باتت عابرة لكل زمان ومكان منذ أن اندلعت أول حرب في التاريخ وحتى الحروب الأخيرة التي تحيا بها الشعوب العربية في الآونة الأخيرة، فـ يكفي أن تنظر للشخصيات الماثلة على خشبة المسرح لتدرك جيدا ما يحيا به هؤلاء الأبرياء.
جاء المشهد الافتتاحي لعرض مرساة في محيط هستيري مخيبا لأمال المتلقي فعلى عكس المعتاد والمتوقع من أن تكون البداية جاذبة، إلا أن بداية العرض لم تكن كذلك على الإطلاق فقد بدأ العرض بإيقاع بطيء وفاتر وهو ما لم يتناسب مع طبيعة المشهد الذي من المفترض انه اللحظة التي تنطلق منها الأحداث حيث لحظة الاشتباك بين القوات العسكرية وأفراد المقاومة والقبض عليهم، ولكن سرعان ما تدارك فريق تمثيل كلية الهندسة جامعة عين شمس الأمر، وبدأوا في تصحيح مسارهم بداية من المشهد الثاني حيث اشتد إيقاع العرض وجسد كلا منهما دوره بحرفيه عالية تتفق مع طبيعة كل شخصية وأبعادها، وقد بدت أحداث العرض التي استمرت لما يقرب من ساعة وأكثر بصورة ميلودرامية قاتمة نتيجة الإسراف في مشاهد التعذيب والحوار الدرامي المحمل بطاقة كبيرة من الحزن وهو ما تسبب في أن يعكس حالة الحزن تلك على المتلقي الذي تابع أحداث العرض الحادة بحالة من التوتر والألم لما يراه من كآبة على خشبة المسرح، حيث خلت المشاهد تماما من أي مشهد يخفف من وطأة الأحداث سوى من مشهد النهاية، والذي لم تكن له ضرورة على الإطلاق، فقد افتقد العرض عنصر التكثيف رغم انه تقليص مده العرض لم يكن يؤثر أبدا على دراما العرض على عكس ذلك تماما فربما لو حدث هذا التكثيف لم يشعر المتلقي بالملل، كما كان من المفترض أن ينتهي العرض باللحظة التي يخرج فيها جان رئيس المقاومة من المعتقل ويبقى كلا من لوسي وهنري، إلا أن استخدام المخرج لتلاقي شخصيات العرض في العالم الآخر لم يكن سوى مماطلة دون جدوى فـ ما يمكن الاستغناء عنه يجب الاستغناء عنه.
وعن المعادل الموضوعي البصري للعرض فقد تمكن صناع العرض من تطويع عناصر السينوغرافيا وتوظيف دلالتها لخدمة دراما العرض، بداية من ديكور سعيد سلمان وأحمد محمد علي الذي جاء ليسهم في خلق حالة متكاملة تتفق مع طبيعة العرض، فإذا كان الحوار الدرامي جاء ليجسد المعاناة النفسية من الحروب فقد جاء ديكور العرض ليتضافر مع الحوار ويجسد حالة الخراب الذي يحل بالأرض اثر الحروب من خلال الجدران المتهالكة كدلالة لدمار المنازل وتهجير سكانها والدمى الممزقة المتشحة بالدماء وما إلى ذلك مما يعكس طبيعة الحياة التي يحيا بها الشعب في ظل الحروب، كما جاءت إضاءة د. باسل ممدوح لتتفق أيضاً مع طبيعة العرض كـ استخدام الإضاءة الصفراء الباهتة في أغلب مشاهد العرض والتي يمكن اعتبارها الإضاءة الرئيسية للعرض لتوافقها مع الحالة التي يدور في فلكها الأحداث وكذلك استخدام الإضاءة الحمراء الممتزجة مع إضاءة العرض الرئيسية في مشاهد التعذيب واستخدام اللون الأزرق المتحرك سريعا كدلالة على المطر وهكذا نجح ممدوح في خلق تكوينات إضاءة تسهم في تكوين رمزية كل مشهد، أما عن ملابس هاجر كمال فقد تمكنت من تنفيذ ملابس أشبه بطبيعة ملابس الحقبة التي تدور فيها أحداث العرض وكذلك مكياج أشرقت مدكور التي برعت في تنفيذ مكياج يعكس اثر التعذيب الواقع على الشخصيات، أما موسيقى عمرو عفيفي وساندرا أشرف فقد بدا حضورها ضعيف لكنها كانت ملائمة لطبيعة الأحداث التي تشتبك معها وبالإضافة إلى استخدام موسيقى تلائم زمن ومكان الحدث.
اعتمد سعيد سلمان على الثنائيات المتباينة للكشف عن طبيعة كل شخصية وأهدافها من الدفاع عن القضية، فقد كانت كل شخصية مرآة للشخصية الأخرى التي تكشف عن ما يكمن بباطنها، كـ شخصية كلارا والتي جسدتها بمهارة وحرفية تعكس قدرتها الابداعية في تجسيد الشخصية والوعي بأبعادها وباطنها وانفعالاتها ريم حسن حيث تمكنت من أن تلعب دور الفتاة التي تخشى ما يحدث ولا تتحمل فكرة تعذيبها وقيدها من خلال حركتها الجسدية التي تدل على خوفها وتوترها وتعبيرات وجهها البريئة الممتزجة بالرهبة مما يحدث حولها، وفي مقابلها شخصية لوسي والتي جسدتها عائشة بسيوني تلك الفتاة الحادة التي تتصدى بكامل طاقتها للقوات العسكرية بل وتربط على يدي شقيقتها لتبقى قوية وقد تمكنت أيضاً من أداء دورها بما يتفق مع طبيعة الشخصية التي تجسدها، وهناك الثنائيات الذكورية أيضاً فنجد محمد علاء في دور جان قائد المقاومة المؤمن بالدفاع عن القضية على عكس فادي رأفت في دور هنري الذي يجد في القضية ملاذه الوحيد لتحقيق ذاته التي لطالما بحث عنها، أما محمد إسماعيل في دور سوربيه ومصطفى خطاب في دور المحقق فيليب فقد بدا هذا الثنائي متشابه إلى حد كبير فكل منهما اختار أن يودي بحياته بنفسه حينما وجدوا انه لا جدوى من الاستمرار لطالما ستسمر الحرب فقد كان لكل منهما دافع قوي في الإيمان بالقضية والرغبة في السلام ووقف نزيف الدماء حتى مع اختلاف طريقة كلا منهما، وهو ما بدا واضحا بالمشهد الذي يقوم فيه المحقق فيليب الواقف في عمق المسرح بتعذيب سوربيه الذي يجلس في منتصف خشبة المسرح وبحركات إيمائية منضبطة تجلت أمام المتلقي تعذيب سوربيه بمهارة ونضج في الأداء، فعلينا أن نشيد ببراعة أداء الشباب الأربعة لأدوارهم بحرفية تنم عن وعيهم بأبعاد كل شخصية وانفعالاتها وحركتها المناسبة حسب طبيعتها فقد أدى جميعهم أدوارهم بمهارة تعكس قدراتهم التمثيلية الفائقة بالإضافة إلى وعيهم بالعمل الجماعي الذي يقوم عليه المسرح.


رنا أبو العلا