البحث عن الفضيلة..في المدينة اللعينة

البحث عن الفضيلة..في المدينة اللعينة

العدد 631 صدر بتاريخ 30سبتمبر2019

«شن تي: أهلا بكم.. اسمي شن تي، سأكون سعيدة جدا لو وافقتم على المبيت في منزلي.
أحد العلماء: شكرا لك أيتها الفتاة، أنت الوحيدة في هذه المدينة التي قبلت أن نبيت عندها... أنتِ فتاة طيبة جدا».
هكذا قال أحد العلماء؛ أبطال عرض «الإنسان الطيب في ستشوان»، من تأليف برتولد بريخت، وإخراج السعيد منسي، لفرقة كفر الشيخ المسرحية، على مسرح ميامي، ضمن مشاركات المهرجان القومي للمسرح في دورته الثانية عشرة.
يبدأ العرض بزيارة ثلاثة علماء من أعماق التاريخ، يبحثون بين سكان قرية صينية فقيرة، عن إنسانٍ طيب. يقول أحد العلماء أنه لا طيبة في هذه المدينة اللعينة، فقد دفعتهم الحاجة إلى الاحتيال للحصول على المال، كي يتمكنوا من العيش، لكنهم لم يفقدوا الأمل في إيجاد ولو إنسان طيب واحد بين سكان هذه القرية الغارقة في الانحلال الأخلاقي.
يرى «بريخت» أنه لا يوجد إنسان طيب على السواء، ولا شريرٌ في المطلق، ويطرح العرض سؤالا رئيسًا: كيف يمكن للمرء أن يكون طيبا دمث الأخلاق رقيقا، وهو يتعرض دائمًا إلى ضغط عالم مملوء بالفساد والمفسدين؟
يقصدُ العلماء في رحلتهم بيت الفتاة «شن تي» والتي تُعرف في القرية على أنها فتاة سيئة السلوك، لكنها تفاجئهم بقبولها استضافتهم في منزلها دون أي مقابل، ونتيجة لإقرارهم بطيبتها، منحوها مبلغًا من المال كي تترك مهنتها المذلة، وتبدأ في عمل شريف تعتاش منه، شريطة ألا تخبر أحدا بهذه الاتفاق.
تقبل «شن تي» المال وتشتري دكانا لصناعة وبيع النسيج، لكنها ما تلبث أن تجد نفسها محاصرة بالطامعين من أهل القرية، وسرعان ما تتعثر في دفع إيجار دكانها، فيقترح الشرطي أن تتزوج من شخص قادر أن ينقذا مما هي فيه. ولكي تتمكن من مجابهة هؤلاء تظهر في صورة ابن عمها واضعة قناعا على وجهها، وتبدل نبرات صوتها الرقيقة، بأخرى قاسية، وتبدي طباعًا حادة وصلفة، مما يضعنا في قلب التغريب الذي يبدأ بمجرد ما يفرج الستار عن الديكور الصامت الذي عجز عن أن يشرح لنا مكانية الحدث المسرحي إجمالا أو تفصيلا، ولوبإشارة هامشية في إيجاز بسيط، فلقد انقسم المسرح إلى مستويين، مستوى أعلى وهو منزل «شن تي» تحيطه عصي الغاب، وستارة مضيئة تعكس ضوء القمر ليلا، والمستوى الثاني كان على شكل ستائر خشبية شبيهة «بالبرفان «يوهمنا أنه الدكان الذي استأجرته الفتاة لبيع السجاد وتصنيعه.
إن غياب واقعية الظروف المحيطة جعل المتفرجين يتجنبون الاندماج في مكونات الصورة المرئية للعرض، وفي الحوادث المصاحبة، ذلك أن المتفرج يبحث دائما عن هدف ومعنى من خلال صور العرض المسرحي محاولا استنطاق مكونات العرض جميعها اكتمالا، وإن فقدها المشاهد في الديكور، فإن حوار الشخصيات جاهد لمعالجة ذلك، لكن ظل المكان رمزا مجردًا بلا ماهية، مما ترتب عليه انتفاء صفة الخصوصية الزمانية التي تربط العرض بزمن بعينه، ولكن «رب ضرة نافعة» لعل هذا الأمر يطلق العنان لذهن المتفرج كي يذهب مسرعا إلى التفكير في المبادئ المطلقة التي تحكم قيما بعينها مرفوضة، وتقر بما يجب أن يتوافر في المجتمع من قيم في المستقبل.
لا شك أن الإضاءة عامل مهم ومساعد في التأثير في نفوس المتفرجين، والتشابك مع لغة النص المرئي، لكن غلبة الإضاءة الحمراء على معظم مشاهد العرض لم تكن مبررة بالشكل الكافي، ما ترتب عليه تشتت ذهن المُشاهد في متابعة الأحداث، وربما أراد المخرج من ذلك تسليط التركيز على منزل الفتاة، والعمل المخل الذي تقوم به للحصول على المال، لكن هذا الاستخدام فقير جدا، وينتمي لرمزية عفا عليها الزمن.
وللموسيقي المصاحبة للعرض دور هام في إحداث التناغم، والتمازج الشجي، الذي يساعد في تفريغ العواطف التي تحملها أحداث العرض فلقد منحتنا موسيقي العرض وأغنياته فرصة التفكير والتأمل في مضمون الأحداث، فأضحت عنصرا مكملا ومعمقا للأحداث، وجاءت معظم كلمات الأغاني ناقدة لبعض الأفعال والتصرفات التي قام بها أهالي القرية، فلم تأتي مستقلة بذاتها عن العرض بل ادت وظيفتها في إكمال صورة ميكانيزم العرض النهائية، وإعمال عنصر الفكر لدي المتفرج، ودلت على ذلك أغنية «لا فائدة في قرية بائسة» وأغنية «الفينال».
أجاد المخرج اختيار بعض الأدوار بدقة متناهية، فقد لعب ممثلو العرض أدوارهم ببراعة، مثل «ياسمين حمدي السيد» صاحبة الملامح الطيبة بالفعل والتي جسدت دور «شن تي»، ما ساعدها على إقناع المشاهد بالحالة الدرامية، لكن ربما أعاقتها هذه الملامح في إشباع دور «ابن العم»، والذي كان يتطلب مهارات خاصة كي تتماشى مع طبيعته الحادة ونبرات صوته الصارخة دائما.
يتسم أغلب العرض خصوصًا في الثلث الأول بقربه من أدوات «فن الديلارتي»، حيث اعتمدت الكوميديا اعتمادا كليا على عناصر الإضحاك، وينطوي بشكل كبير على إمكانات واسعة ومتعددة، من الممكن أن يحسن البعض استخدامها، ومن الممكن أن يسيء استغلاله، فيضفي نوعا من الرتابة والملل على أجواء العرض.
أتى هذا الرافد المسرحي إلى مصر، وتغلغل في الأقاليم المختلفة، كما وصل إلى الريف وامتزج امتزاجا كبيرا بعادات الناس وتقاليدها، وأصبح مزاجا فولكلوريا يقصده من يفضله من كتاب المسرح ومخرجيه.
تميز هذا الطابع الديلارتي عبر العرض بشخصياته الكاريكاتيرية الثابتة، والتي تقوم بالنقد الاجتماعي في أغلب الأحيان، وبالتلفظ المقفى بالشتائم، وحيل شبيهة بمهرجي السيرك أحيانًا، وعلى سبيل المثال فقد اعتمد «أحمد السيد» في دور السقا طيلة العرض استخدام مثل هذه الحيل، بانحناءات جسده المختلفة، والتلفظ بألفاظ فيها من السباب لأهل القرية بسبب أفعالهم، ربما نجح بعض الشيء، وأخفق في البعض الآخر.
ولقد لجأ مخرج العرض إلى هذا النوع كذلك، حينما عرض المواقف والمآزق على لسان ممثلي العرض ورواته، متبادلين أطراف الحديث، بنغمات فيها من التهكم والسخرية بشكل ملحوظ، وصاحب ذلك استخدام ضحكات تشين بشئ من افتقار صفة الأدب في الحديث المتبادل، فلم يكن لها أية ضرورة تذكر، كما قاموا بالتعليق على الحوادث، موجهين خطابهم إلى الجمهور خلال النهاية التي جاءت شبه مفتوحة، فكانت على هيئة تساؤلات خطابية موجهة للمتفرجين ومنها: كيف سيعيش الطيب في هذه المدينة؟ وما هو مصيره؟ ولعل أراد السعيد منسي بهذه الطريقة المباشِرة الفجة أن يثير لدى المتفرج موقفا انتقاديا تجاه من يمتلك الطيبة في هذا الزمان.


داليا الدسوقي