الحقيقة والوهم في المسرح الأيطالي المعاصر

الحقيقة والوهم في المسرح الأيطالي المعاصر

العدد 805 صدر بتاريخ 30يناير2023

نحاول أن نلقي الضوء علي المسرح الايطالي المعاصر وعلي ما طرأ عليه من تطور فالحاضر جزء لا يتجزء من الماضي فكما تأثر «بيرانديلو ( 1867 – 1936)»1 بالاوضاع المحيطة به إجتماعيا وسياسيا وإقتصاديا وجعلته يبدع في المجال المسرحي محاول عرض فكرة الذات من خلال طرح تساؤل ما الواقع؟ ما الحقيقة؟ النابع من تفشي الأستبداد والظلم في المجتمع الأيطالي جراء حكم «موسوليني  حاكم إيطاليا ما بين (1922 – 1943)» مروا خلال فترة حياته بالحرب العالمية الأولي (1914 – 1918) الثانية (1939 – 1945 )»2، وعلي الرغم من الحرب العالمية الثانية إندلعت بعد وفاة بيرانديللو إلا أنه حضر المناوشات السياسية التي أدت إلي إندلاع الحرب العالمية فمع بداية الثلاثينات كانت الاضطرابات السياسية فى أوروبا قد ارتفعت مرة أخرى، على خلفية الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التى عرفت آنذاك باسم الكساد الكبير وانهيار سوق الأسهم، وحينها كانت هتلر قد وصل إلى السلطة فى عام 1933، وأخذ يطالب بإلغاء معاهدة فرساى ( وهى المعاهدة التى أسدلت الستار بصورة رسمية على الحرب العالمية الأولى، وتم التوقيع عليها بعد مفاوضات استمرت 6 أشهر عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919.
 نجد أن الخوف الناتج عن أحداث تلك الفترة المليئة بالصراعات السياسية المؤثرة بطبعها علي الأوضاع الأقتصادية والتي هي العامل المؤثر الأول في إستقرار الأوضاع السياسية من عدمها في أي مجتمع كان سببا في الهروب المجتمعي من مواجهة الحقيقة وسيطرت أصحاب رؤس الأموال علي المشهد الأجتماعي مما خلق فجوة كبيرة بين الطبقات ومن هنا نجد أن التساؤل الذي فرضه بيرانديللو ما الواقع؟ ما الحقيقة؟ نابع من الخوف الذي منع الأفراد داخل المجتمع من الطموح ومحاولة إثبات انفسهم داخل المجتمع، ولذلك تميزت مسرحيات بيرانديللو بصفة عامة بحس ساخر في عرض مآسي الحياة، وكثيراً ما ذكر اسمه في مؤلفاته ساخرا من نفسه ، فتلك الرغبة لدى البشر في الاختباء خلف مختلف الأقنعة، الشخصية الإنسانية وصراعها بين حقيقتها الداخلية، والقناع الذي تواجه به الآخرين، شغلت فكر بيراندللو بشكل كبير فقد كان يرى أن مأساة الإنسان تكمن في التناقض والتمزق بين الحقيقة الخارجية وما يظهره للآخرين، وأن الحقيقة المطلقة شيء لا وجود له، لأنها نسبية ولكل امرئ حقيقته. وفي محاول لحث الانسان علي مواجهة ذاته باحث عن مبتغاه نجد أن بيرانديلو خلال نص ست شخصيات تبحث عن مؤلف قد عرض فكرة البحث الذات في محاولة لتخليد الاسم عبر التاريخ من شخصيات مؤلفة غير حقيقية تواجه شخصيات مستسلمة أنهزامية تحيا علي أرض الواقع في سكون تؤدي عملها الروتيني دون السعي وراء الابداع أو التميز مجسد ذلك من خلال تقنية المسرح داخل المسرح التي إستخدمها أكثر من مرة في أعماله ، وتميز ذلك في ثلاث مسرحيات معروفة: مسرحية -ست شخصيات تبحث عن مؤلف- (1921) وتدور أحاثها عن ستة أشخاص يزعمون أنهم شخصيات في مسرحية، ليس لها مؤلف يوجه أفعالهم، ويبحثون عن مؤلف، وعمن يمثلهم على خشبة المسرح، وأيضا -الليلة سنرتجل- (1928) التي تتناول عرضاً مسرحياً، فيه ينتظر المتفرجون في الصالة، بينما تُسمع أصوات من خلف الستار، وبينما يطالب المتفرجون بالهدوء، يبدأ العرض بالممثلين وهم يتناقشون مع المخرج، ونكتشف أن منهم من يجلس بالفعل في الصالة وسط الجمهور، وهناك مسرحية -كل امرئ على طريقته- (1925) وتدور أحداثها في مكانين مختلفين، المسرح من جهة، ومن الجهة الأخرى الأماكن التي عادة ما يستخدمها الجمهور، مثل الصالة والمدخل، وتبعاً لأحد النقاد، فإن المسرحية تتناول التناقض الداخلي لدى كل إنسان بين تصرفاته الظاهرة ودوافعها.
لذلك فإن رحلة المسرح الايطالي مع البحث عن الذات بداية من بيرانديللو قائد حركة التطوير في المسرح الأيطالي في أواخر القرن العشرين والذي جعل من المشكلات الاجتماعية وسيلة لعرض فكرة البحث عن الذات خالقاً إجابة علي عدد من الأسئلة ألا وهي: ما الفرد؟ ، ما المغزى من الوجود الإنساني في ظل عالم فوضوي منهار؟. مرورا بكتاب القرن الحادي والعشرين والمعاصرين لنا وما طرأ عليهم من مخاوف ومشكلات مجتمعية جعلت البحث عن الذات هو أحد المحاور الرئيسية في كتاباتهم.
ومن هذا المنطلق أعطي بيرانديللو الحرية للشخصية الدرامية جاعلاً إياها المسؤل الاول والاخير عن تصرفاتها محاولاً أن يترك المتلقي في حيرة ليحاول أن يجيب علي ما طرح سابقا من أسئلة، وعلي هذا المنوال إستمر تطور الشخصية الدرامية في المسرح الأيطالي ، حيث أصبح البحث عن الذات والهوية الفردية هو الشغل الشاغل لكتاب المسرح الايطالي المعاصرين في القرن الحادي والعشرين بالاضافة إلي الحفاظ علي نفس نمط الشخصية عند بيرانديللو وهو الاستقلال التام و إن إختلف بعضهم في أهمية الهوية التي يسعي إلي خلقها أو الحفاظ عليها، فبيرانديللو خلق الفكرة دون التصنيف الجنسي وهذا كان واضحا في نص ست شخصيات تبحث عن مؤلف والذي كان عرض الشخصيات فيه وحريتهم الكاملة يشمل النساء والرجال وكلاً له دوره في تنمية الفكرة التي سعي بيرانديللو أن يثير المتلقين تجاهها، فكسر الأيهام والذي كان أحد سمات مسرح بيرانديللو جعل المتلقي يتماهى مع الشخصيات والأحداث بشكل كبير محاولا إيجاد إجابة علي ما الحقيقة؟ ما الواقع؟، ومع أن أبطال مسرحيات بيرانديللو في الأغلب من الرجال إلا انه عرض فكرة حرية الرأي للمرأه وحقها في الهوية المطلقة والتجربة  بشكل او بأخر في عدد من نصوصه، ومن خلال عرض الشخصيات بكامل حريتها نجد أن ناتاليا جينزبورج وهي أحد عظام الكتاب الأيطالين في اواخر القرن العشرين كان شغلها الشاغل هو هوية المرأة ومحاربة تهميش المرأة و إن كان يجمع بين بيرانديللو وناتاليا مشكلات متقاربه فكلاهما عاصر الحرب العالمية، فأن عاصر بيرانديللو الحرب العالمية الأولي وهو شاب في الثامنة والعشرين من العمر تقريبا وتأثر بكل الأشكال في بما رأه أثناء الحرب “بدأ بيراندللو يكتب للمسرح وهو قد تجاوز الاربعين من عمره”3، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعله يقدم لجمهوره فنا متميزا عميقا رغم شفافيته الادبية فقد كان يعرض المشكله الأجتماعية دون وجود أهداف سياسية إن كان في بعض نصوص بيرانديللو تلميحاً للأشتراكية إلا أن هذا بعيد عن الهدف الأساسي لهدف بيرانديللو فحين عرض في نص الجرة صراع رأس المال المتمثل في دون لولو وطبقة العمال المتمثل في زي ديما جعل النصر لزي ديما وإن بدأ للأمر ملمحاً سياسيا إلا أن الباحث يرى أنه فقط يسعي إلي حلق هوية لدي الطبقه العاملة دعماً لمنطلق الهوية المجتمعية الإيطالية، ليساهم في خروج المجتمع الإيطالي من معاناة الأقتصادية والاجتماعية والتي أثرت بشكل واضح علي الهوية الفردية، وهذا الرأي الذي يتبناه الكاتب بأن مسرح بيرانديللو هدف فقط للبحث عن الذات الإيطالية ليس أكثر يقودنا إلي تصنيف « الكاتب محمد عبد المنعم في كتابة المسرح السياسي في فصله الأول: إلا أن كل مسرح يمكن تصنيفه علي أنه مسرح سياسي حتي وإن كان النص يعرض فكرة مجتمعية قد يصنف سياسيا إن كان تطرقة هذه المشكلة المجتمعية إلي ما يدخل في إختصاصات الدولة ومسؤلية.» وقد تطور شكل البنية الدرامية في المسرح الأيطالي الحديث خلال الفترة الحالية فالمسرح الأيطالي المعاصر تتسم نصوصه بالقصر فأطول النصوص يتكون من ثلاث فصول، والأكثر إنتشارا نصوص الفصل الواحد إما قصيرة أو مقسمه إلي عدد من المشاهد تصل إلي عشرة مشاهد، موضوعات النصوص مستوحاه من الواقع الاجتماعي مستندة علي فكرة الهوية كموضوع محوري للأحداث إما بعرض مدي تأثير المشكله علي المجتمع كأن يتمع معالجة موضوع الأرهاب وهو أكثر الموضوعات التي أثارت الرعب في نفس كتاب المسرح الأيطالي المعاصرين أو مشكلات التكنولوجيا ومدي تأثيرها السلبي علي الهوية الفردية وما تنتجه من هوايا زائفة لأشخاص لا يملكون المقدرة علي التعايش مع المجتمع لضعف شخصياتهم أو لعدم قدرتهم علي التعامل مع الأشخاص وبختلاف الأسباب تكون النتيجة واحدة وهي الأنعزال خلف التكونولجيا مصورين أنفسهم يملكون صفات لا يملكونها في الواقع، الشخصيات مستقله بذاتها فلا تنم أي شخصية عن فكر أو طباع مؤلفيها فلكل شخصيه طباعها واهدافها التي التي تستوحي أحداثها نتيجة لمشكلة ما تشغل المجتمع ويعرضها الكاتب بشفافية تامه دون الاشارة إلي أي غرض داخل نصه، فالنصوص مكتوبه لا تحمل فيطياتها اي إشارات سياسية، فقط تعرض المشكلات بهدف حلها وحث المتلقين علي زيادة الوعي تجه المشكلة ليتمكنوا من تكوين هويتهم، وفي بعض النصوص تكون الشخصيات مجردة لا تحمل أسمائاً فقط يشار إليها بالصفات تاكيد علي الهوية في النص وكيفية تطور الشخصية خلال الأحداث إلي أن تدرك هويتها وهذا جاء واضحا في نص فراشات لإيمانويلي الدروفاندي والذي جسد الهوية التي تصل إليها الشخصيات في النص نتائجاً للتجربه التي تمر بها وتصبح علي درايه بما تتخذه من قرارت، وتتسم المسرحيات المعاصرة بعدد الشخصيات القليل في النصوص،  ويمكن ملاحظة أن الحبكة الدراميه بسيطة وغير معقدة فكل نص يحتوي علي حبكة واحدة ينتهي النص بفك عقدتها ، ويري الباحث أن هذا البناء الدرامي البسيط في عرض المشكلات يناسب كثير طبيعة المجتمعات الحديثة والتي أصبحت السرعة أحد أبرز ملاح تلك المجتمعات.

الهوامش
1- عوض شعبان، بيراندللو، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سلسلة أعلام الفكر العالمي،  1979,ص5 – ص16
2- https://www.marefa.org/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9/simplified
3- https://mawdoo3.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D8%A8%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1
4- عوض شعبان، بيراندللو، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سلسلة أعلام الفكر العالمي،  1979,ص61


محمد أحمد كامل