من أجل الجنة- إيكاروس.. الخروج من المتاهة

من أجل الجنة- إيكاروس.. الخروج من المتاهة

العدد 629 صدر بتاريخ 16سبتمبر2019

من منا لم يشعر يوما بأنه بداخل متاهة كبيرة تدعى الحياة، يحاول مرارا وتكرارا الخروج ويبحث عن المَخرج ولا يجده، يسأل نفسه على الدوام هل يجب أن أتجه “يمين ولا شمال”، وهي العبارة التي يبدأ بها عرض “من أجل الجنة، إيكاروس”، الذي عُرض بقاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة ضمن فعاليات الدورة الثانية عشرة من المهرجان القومي للمسرح المصري.
العرض مستوحى من الأسطورة الإغريقية “إيكاروس”، كما يتضح وضوح الشمس من عنوان العرض، وهو تعاون مشترك بين فرقة هانوفر الألمانية وفرقة المخرج أحمد عزت الألفي، حيث قام بتأليف النص بينديكت نويشتاين، كلاوس أوفركامب، كريستيان شايدولوفسكي، وترجم النص وأعده للعرض محمد الهجرسي الذي هو نفسه قام بدور ديدالوس (الأب)، في حين قام بدور إيكاروس (الابن) مصطفى البنا، الإشارة هنا إلى أن إيكاروس وديدالوس يمثلان أبا وابنه ليس اعتباطيا أو بناء على أن هذا ما تقوله الأسطورة لنا، ففي الأساطير يختلف الهدف ورؤية الأسطورة باختلاف زاوية الحكي، وفي عرض “من أجل الجنة، إيكاروس” كان التركيز على العلاقة بين الأب والابن، بل على الكيان الأسري حيث يأتي ذِكر الأم والمنزل رغم عدم وجودهما في الفضاء المسرحي، وهو ما لم يرد في الأسطورة أساسا حيث توضح الأسطورة أن ديدالوس وهو عالم ومخترع عبقري ذاع صيته، لديه ابن يدعى إيكاروس كلاهما سجنا في المتاهة التي كان قد اخترعها ديدالوس بنفسه تلبيةَ لطلب الملك مينوس وهي كانت لأجل سجن المينوتور(وهو ابن الملك مينوس ولكن كان على هيئة ثور نتيجة تزاوج الملكة بثور لذا كان يشبه الوحش)، وقد كان مينوس يقدم خيرة الجنود كقربان للمينوتور إلى أن وقعت أريانا (ابنة مينوس) في حب أحد هؤلاء الجنود المُقدمين وأرادت إنقاذه لذا لجأت لديدالوس كي يخبرها بحيلة للخروج من المتاهة، وكانت الحيلة أن تمسك أريانا عند المخرج بكرة خيط يمسك طرفها هذا الجندي وبعد قتله للمينوتور سيستطيع الخروج من المتاهة عبر تتبع الخيط، لذا عاقب مينوس ديدالوس بوضعه في نفس المتاهة ومعه ابنه كي لا يستطيع الخروج.
 ولكن على المستوى الفلسفي يمكن تأويل وجود الأب والابن بالمتاهة معا إلى أن الآباء والأجيال السابقة عموما هم معنا بنفس متاهة الحياة على الأرض، ولكن الفارق أنهم يأخذون وضع المسيطر وقائد رحلة البحث عن المخرج وهو ما كان واضح على مدار العرض، فسواء في أسطورة أو عرض أو الواقع دوما نجد الصراع متجليا بين السلطة الأبوية والأبناء ولكن يتخلل هذا الصراع لحظات حميمية بين الأب والابن تعبر عن الحب بينهما وإن كان لا يستطيع الأب التعبير جيدا، فهو حين يخاف ويظن أنه فقده بالمتاهة يصفعه ويكون رد الفعل القاسي من الأب هو دلالة الحب، كما لو كان على الأبناء في كل مرة أن يُقدروا سوء تعبير الآباء، لذا كانت الإضاءة منحازة إلى اللونين الأزرق والأحمر للتعبير على مشاعر الدفء والحميمية والصراع بين الأب والابن وقد قام بالإضاءة مخرج العرض نفسه.
وعلى الرغم من إعصار المشاعر الذي قدمه العرض فإنه تخللته كوميديا، والجدير أنها لم تكن كوميديا سوداء بل نابعة من عنصرين، أولهما: أسلوب العرض الذي اتبع طريقة الحكي وهي طريقة تتناسب مع الأصل الأسطوري الذي اعتمد في تأريخه في البداية على النقل الشفاهي، فنجد ديدالوس وإيكاروس يتناوبون في حكي قصتهم للجمهور، وثم يصر إيكاروس في طفولية أن يحكي له والده قصة، وتكون القصة هي قصتهم ولكن من البداية وبأدق التفاصيل مع وجود أغانٍ تخفف حدة القصة الوحشية كقول إيكاروس، وفيها يأتي سؤال سبب سجنهم في المتاهة ولكن إجابة الأب لم تكن واضحة وجازمة رغم حكيه للأسباب.
أما عن ثاني الأسباب التي عززت الكوميديا هي الفضاء المسرحي وهو تصميم مسرح مارابو بألمانيا، حيث كانت المتاهة التي سُجنت بها الشخصيتان عبارة عن الكراسي التي يجلس عليها الجمهور، على شكل حلقات دائرية، فإذا كانت المتاهة عبارة عن حوائط وممرات كما طلب الملك مينوس، فالعرض يكسر حوائط المسرح التقليدي (مسرح العلبة الإيطالية) ويجعل الجمهور نفسه هو حوائط المتاهة، وهذه الصورة المسرحية سمحت للممثل أن يتفاعل مع الجمهور في بعض اللحظات.
اللافت للانتباه أنه لم توجد قطعة إكسسوار واحدة لم يكن لها علاقة بأسطورة إيكاروس أو شخصية ديدالوس، فعلى سبيل المثال الشنطة التي كانت بأيديهما ومثلا بها الثور الخشبي التي دخلت به الملكة، هي من اختراع ديدالوس وكانت من الجلد وتشبه الثور الحقيقي، والبرجل وجوده دلالة على أن ديدالوس هو مخترع هذه الأداة الهندسية، أما عن بكرة الخيط فهي الأداة والحيلة التي استخدمت لخروج أحد الجنود من المتاهة، ومن ثم استخدمها الأب كقيد لإيكاروس كي لا يبتعد عنه، وهو ما يفعله الآباء عادة بزراعة بعض القيم والمفاهيم الخاطئة بداخل الأبناء كي يخافوا من الحياة ولا يطلبوا الطيران أو الأحلام، وبمناسبة الأحلام فعلى مدار العرض نجد تباينا حول فكرة وجود الأمل وزواله، حيث على مدار العرض يبث الأب أمل الخروج من المتاهة، وحين تأتيه لوثة الموت يهلوس قائلا كيف أمت قبل أن أخرجه من المتاهة.
لذا فالعرض ثري بمناقشته لعدة مفاهيم منها مفهوم الأسرة والمنزل، ومفهوم الحرية، ومفهوم السلطة، ومفهوم الموت من بعيد، إلى جانب اقترابه من الواقع المعيش واتصاله بجميع الأجيال دون تفرقة، حيث تجد نفسك محاطا بالأسئلة منها المرتبط بالأسطورة ومنها المرتبط بدلالتها التي تمس حياتك، فمن ضمن الدلالات على سبيل المثال كما قلت سابقا أن المتاهة عبرت بشدة عن ساقية الروتين والحياة عموما التي يسير بها الإنسان، لذا فذكر فكرة اكتشاف اتجاه الريح كي يبدآ الطيران، تُعبر عن حلول الأزمة، فالرياح تعبر عن الأزمات لذا يقولها المثل الشعبي صريحة «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، فبالفعل يموت إيكاروس نتيجة نسيانه لنصائح ووالده وانجرافه وراء مشاعر الغرور والعظمة.
لذا يأتي أهم سؤال للعرض وهو يمين ولا شمال، حيث ما هو اختيارك أمام دروب حياتك، والمتاهة التي تعيش بداخلها، فكما قالت شخصية ديدالوس كي تستطيع الخروج من المتاهة يجب أن تجد المخرج بنفسك حتى وإن كان شاقا، تيقن أن الجنة المقصودة هي التي ستنعم بها بعد إجاباتك على نفسك وتصالحك مع ذاتك، فلذا من أجل الجنة - يا إيكاروس أو أي شخص كان - يجب المرور بمتاهة الحياة.
وفي نهاية مقالي أود أن أحثك على عدم تفويت فرصة الاستمتاع بالعرض، إذا عرض في أي وقت، صحيح أنه ديودراما بمعنى أنك لن تجد البهرجة التي تراها في عروض كثيرة تسعدك، ولكن كن على ثقة أنك ستشاهد طاقة هائلة.


سارة أشرف