جبر .. الناقد المسرحي الطنطاوي

جبر .. الناقد المسرحي الطنطاوي

العدد 786 صدر بتاريخ 19سبتمبر2022

وجود فرقتين مسرحيتين تعرضان عروضهما في كازينوهات ومقاهي طنطا، أشعل الكتابات النقدية حولهما في الصحف المحلية طوال فترة وجودهما من عام 1927 إلى 1929! الفرقة الأولى هي «فرقة الأوبريت المصري» وتحدثنا عنها كثيراً في المقالات السابقة، وسنتحدث عنها أيضاً في هذه المقالة والتي تليها!! والفرقة الأخرى هي «فرقة الجزايرلي» التي تجنبنا الحديث عنها فيما سبق، لأننا سنخصص لها مقالتين مستقلتين. ومن الواضح أن ناقد جريدة الممتاز «جبر» يساند فرقة الأوبريت – كما هو واضح من كتاباته السابقة – رغم انقلابه عليها في بعض الأحيان، حيث وجدناه يمدحها ثم يقدحها وهكذا، ولكن المدح كان أكثر من القدح!!
في مقابل ذلك توجد جريدة «طنطا» وناقدها الفني الذي لم تنشر الجريدة اسمه حتى الآن!! وجريدة طنطا تساند فرقة «الجزايرلي»، مما يعني أنها ضد فرقة الأوبريت، وضد ناقد جريدة الممتاز!! لذلك كتبت طنطا كلمة فهم «جبر» أنه المقصود بها، فجعلها موضوعاً لإحدى مقالاته، وأخذ يسخر من جريدة طنطا ومن ناقدها، مستخدماً ألفاظاً شديدة، تكاد تكون سباً وقذفاً، ناهيك عن أسلوبه الساخر! وسأحاول نقل ما كتبه، متجنباً الألفاظ غير اللائقة قدر الإمكان!!
بدأ الناقد «جبر» مقالته المنشورة في جريدة «الممتاز» في أوائل أكتوبر 1927 باختيار عنوان مشوق «في الانتظار»، ثم قدّم لموضوعه قائلاً: تهددنا جريدة طنطا بأن لديها كاتباً مسرحياً طلبت منه أن يطلعنا على آداب النقد المسرحي، ويضع أمامنا دستوراً، نتقيد بأحكامه في كتاباتنا!! فانتظرناه وكلنا شغف وشوق للاطلاع على تلك التعاليم، فما فكرت في أن أكتب عن التمثيل، وإنما فكرت في الاطلاع على مواد القانون الكتابي، لأتبع طريقتها وأنسج على منوالها. وقعدت أذرف الدمع متحسراً على ما كتبت خارجاً على النظام الكتابي، ومخالفاً لروح النقد المسرحي، وأستعد لتقديم اعتذاراتي، والاستغفار عن مساوئ التمثيلية التي ارتكبتها عفواً، واندفعت فيها رغم إرادتي. وكم كانت الصدمة شديدة عندما طلعت علينا جريدة طنطا في العدد الموعود خالية من الإشارة إلى المسرح بكلمة، أو التعرض للفن بأية عبارة! فدهشت ومن حقي أن اُدهش لأن الجريدة التي تتطوع لخدمة عامة كهذه، يجب عليها الوفاء بوعدها. فإن كان لديها كتابة بهذا المعنى، تبادر بنشرها ولو أحرجتنا! وخير لي أن أعرف الخطأ فأتجنبه من أن أسير في تيار معتقداً صوابه!! والرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل! وإن كانت تريد بتلك الإشارة وقف تيار الانتقاد المسرحي، فهذا ما لا يحدث! وإن كان المُكاتب الذي نوهت عنه قد بخل عليها بتلك الكلمة، فإننا نتوسل إليه بما بيننا من صلة الكتابة، ولُحمة الأدب أن يتفضل علينا ببيانه المسرحي لنكون على هدى في كتاباتنا المقبلة، ولنعلم إلى أي مدى بلغ جهلنا فيما مضى بآداب الكتابة! ذلك رجاؤنا نوجهه أولاً إلى جريدة طنطا، وثانياً إلى حضرة زميلنا الكاتب المسرحي، الذي لم تتفضل علينا طنطا بذكر اسمه حتى كُنا نتقدم إليه مباشرة، لاطلاعنا على حقيقة الأمر من نقدنا، وكم نكون شاكرين لو صادف هذا الرجاء قبولاً في الموضعين! والله ما قصدنا بهذا الرجاء إلا محض التعلم ومحض الوقوف على الحقيقة! ولهذا فإنا نأمل الإجابة، وها نحن لا نزال في الانتظار!
بعد هذه المقدمة الساخرة، شرع الناقد في توجيه بعض النصائح، التي لا تخلو من الغمز واللمز، بل وإلى السب والقذف!! وأول نصيحة وجهها إلى ممثلة، قائلاً: ننصح إحدى الممثلات بأنها لو شاءت أن تكون كما يسمونها «الممثلة الأولى» حقاً، فلتحز من الأخلاق قسطاً يساعدها على هذه الأولوية! لا أن تتبرج في الشوارع والطرقات والبارات والقهوات، لأن هذا كله «مُحرم» على الممثلة التي تعطي الجمهور دروساً في الأخلاق! وعار عليها وهي «...» أن تنصرف إلى المسرح تعاقر بنت الحان، وتفاوض في نفسها الشيوخ والشبان! فذلك يجرها إلى القيل والقال! وليست «الجدعنة» في ضرب الشبشب والقبقاب، إنما «الجدعنة» في أن تكون السيدة ضنينة بعفافها، حفيظة على كرامتها، أمينة على شرفها. ونحن نؤمن معها بأنها جميلة نوعاً، ولكن الجمال لا قيمة له إلا بالكمال. أما الخروج على حد اللياقة والحشمة، والتسكع في الطرقات «فمحرم» في شريعة الآداب وفي قانون الأخلاق، والله إن لم ترتدع تلك المُهرجة عن غيها هذا، وتثوب إلى رشدها، ليكونن لنا معها موقف، أقصى من موقفها أمام المحقق المدقق الذي يريد اكتشاف خبايا جريمة وقعت في اللوكاندة!! مفهوم يا حضرة الممثلة أو نتكلم على المكشوف!!
أما النصيحة الثانية، فوجهها الناقد إلى أحد الممثلين، قائلاً: نلفت نظر ذلك الممثل الخليع إلى أن الوقار والاحتشام من الصفات التي تنهض بالفرقة، وتبعث القلوب على الاطمئنان لارتياد المسرح. وليس من الوقار في شيء أن يهجر الرجل حليلته الشرعية ويأوى إلى لوكاندة يحظى فيها بغيرها من خليعات التمثيل، فتفتش عنه زوجته حتى تعثر عليه «...» ولا تستلمه إلا على يد «...»! كما أنه ليس من الاحتشام أن يُترك حبل الممثلات على غاربه! يغازلن هذا ويواعدن ذاك، والأحسن أن يفهم أن الشهرة والصيت لا تنال عن طريق الاتجار في الممثلات، بل عن طريق إجادة التمثيل في حدود الأدب!!
أما النصيحة الثالثة فوجهها الناقد إلى الممثل «شبورة» بأن يستعمل الرأفة مع نفسه، ويهجر «المكيفات»، ولو أثناء التمثيل لأننا لا نزال متألمين جد الألم من الحادثة التي حصلت له! وللأسف تلفظ الناقد بألفاظ غير لائقة، ووصف أشياء وتصرفات مقززة، لا أستطيع نقلها!! لذلك سأنتقل إلى النصيحة الرابعة، التي وجهها إلى ممثلة سماها البعض باسم «عفريتة»، قائلاً لها: من فضلك يا حضرة العفريتة لا تعملي على تقليل أهمية الفرقة وإضعاف مركزها - من وراء الستار - برفضك القيام بالأدوار التي تُعهد إليك، والتي سبق لك تمثيلها!! فإن إسنادها إلى غيرك ممن لم يمثلونها! 
بعد ذلك وجدنا الناقد يتحدث عن أدوار بعض الممثلات، مثل «ثريا» الشخصية الغريبة رغم جودة رقصها، وأنها خفيفة الروح كما ترغب في الكتابة عنها في الإعلانات! أما الممثلة «مرجريت» فتحدث عن دورها في مسرحية «ناظر المحطة»! وأنهى الناقد مقالته بكلام مضطرب غير مفهوم إلا لمن كُتب لهم!! والغريب أن الناقد توعد الفرقتين – الأوبريت والجزايرلي – بمزيد من النقد المقارن بينهما!

سفينة الأخبار
 كل ما سبق كتبه الناقد «جبر» في جريدة الممتاز! والواضح أنه كان الناقد المسرحي شبه الوحيد في طنطا! حيث وجدناه يكتب أيضاً – وفي الفترة نفسها – في مجلة «سفينة الأخبار» الأسبوعية المحلية، التي تصدر في طنطا! وفي أكتوبر 1927 كتب «جبر» موضوعاً بعنوان «التمثيل في طنطا»، أبان عن موقفه النقدي، قائلاً: 
منذ عولنا على التجوال في المسارح، والتردد على دور التمثيل، ونحن نشعر في دخيلة نفوسنا بميل غريزي، يدفعنا إلى النقد لذاته، إعلاءً لشأن التمثيل وتقديراً لرجال الفن، وتوطيداً لمراكزهم. ومهما جرنا النقد إلى الحد الذي يتورط فيه القلم بالتشنيع على الممثل، أو على الفرقة أو على الرواية، فإن غرضنا يبقى شريفاً، وغايتنا تستمر طاهرة لا غرض لنا فيها، ولا مصلحة شخصية نبتغيها، ولكنه الفن. والمصلحة العامة هي التي تدفعنا لما نذهب إليه من شدة في النقد، وقسوة في التعبير. هذا رأينا بل هذا اعتقادنا، لا نحيد عنه قيد أنملة، ولا نتزحزح عنه طرفة عين. وطبيعي أن كلماتنا في هذا الموضع ستكون موضع عناية، وستطرح لا محالة على بساط البحث، يحللها كل ممثل على انفراد ليتحاشى هذا القلم، الذي عودنا الحدة والشدة فلا هوادة ولا ملاينة. وإذا كان التمثيل في مصر لم يبلغ بعد الدرجة التي يهتم به كبار الكتاب وفطاحل رجال القلم، فلا أقل من أن تناله عناية بسطاء المشتغلين بحرفة الكتابة أمثالنا لنتخذ من ذلك في المستقبل أساساً نبني عليه شامخات المقالات، وشاهقات الكتب! وها هي الأمم الغربية قد اهتمت بشأن التمثيل في سبيل ترقيته، واشتغل بأمره كبار رجال الأقلام هناك. وتناولته بالبحث كبريات الصحف والمجلات، لأنهم نظروا إليه بعين غير التي نتطلع له بها، ورأوه درساً نافعاً في الأخلاق، ومرآة مصقولة للتاريخ فقدسوه! أما نحن فلم نعره في معظم الأحيان ما يستحق من عناية وما يستأهل من اعتبار! حتى لقد كان الكثيرون منا – وإلى عهد غير بعيد – ينظرون بعين الازدراء لمن يقف على المسرح غير مكترثين لما يلقيه الممثل على الجمهور من مواعظ و«حكم»! ولا آبهين بما يعيده على أنظارهم من وقائع التاريخ، وماضيات الحوادث. وكانت هذه نظرة خاطئة كادت تقضي على حياة الفن وكرامة التمثيل، لولا جهود المفكرين وقادة الرأي بتشجيعهم الفن، وبعث البعثات إلى الخارج لتلقي أصوله، وتعلم قواعده فأخذت تلك النظرية في التضاؤل شيئاً فشيئاً حتى تلاشت من الأذهان وآمن الجميع بأن التمثيل فن، وأنه من الفنون الجميلة، بل وفي مقدمتها، وإلى هنا هرعوا إلى مشاهدته، وتناولوه بالنقد والتقريظ. وها هو لا يزال آخذاً طريقه الطبيعي في التقدم. وإلى هنا أيضاً أطمأن الكثيرين من المتعلمين إلى الاندماج في سلك رجاله، وبدأت الأمة المصرية تعمل على محاكاة غيرها من الأمم حيال هذا الفن، وإن كانت لا تزال متوجسة خيفة من النوع «الكوميدي» لما هو مصبوغ به من مسحة الهزل والتنكيت، ولما يتخلله في بعض الأحايين من عبارات يعدها الذوق الشرقي خارجة على قانون العرف، وعدم اللياقة، سيما والمسرح يضم بين جوانبه الكثيرات من السيدات والفتيات الشرقيات المصريات. والمرأة لم تبلغ في مصر بعد شأن الرجل، ولم تحاكه في مضمار الحياة. نحن لا ننكر أن الوسط المسرحي في الخارج ملوث السمعة في بعض الأحيان، وكثيراً ما أوخذت بعض الممثلات هناك على خروجها عن حدود الكرامة والعفة كما تقول السيدة «روز اليوسف» في مجلتها. ولكننا كشرقيين أولاً، وكمصريين ثانياً، وكمسلمين ثالثاً، يهمنا أن يكون مسرحنا طاهراً شريفاً لم يلوث، ولم تلطخه الأدران الأخلاقية سيما في الساعة التي يحتك الممثل فيها بالجمهور بصفته ممثلاً. وفيما عدا ذلك فلكل أخلاقه وعيوبه الخاصة! وإن أبحنا التمثيل في عرفنا الحاضر فإنما نبيحه لتكون داره مدرسة يؤمها الذين لم يعطيهم الوقت فرصة الاطلاع أو الدرس، لا لتكون داره ماخوراً، أو نقطة ملحقة بدور العهر، وبؤر الفساد. وليس في النظم الأخلاقية ما يساعد على هذا!
انتبه الناقد «جبر» أنه أطال في مقدمته، التي تُعدّ تمهيداً لموضوعه الرئيسي!! فقال: تلك هي كلمتنا العامة عن التمثيل، ولعلنا أطلنا على القراء فكادوا يملون فلندخل بهم في رفق إلى الكلمة الخاصة التي هي موضوع بحثنا، والتي نحن بصددها الآن: وفد على مدينة طنطا - صيف هذا العام - فرقتان من فرق التمثيل إحداهما فرقة «الأوبريت»، والأخرى فرقة «الجزايرلي» وكلتاهما تناهض الأخرى التربع على دست الشهرة وحيازة ثقة الجمهور الطنطاوي! فهما يتبادلان جميع العوامل المؤدية إلى ذلك بمختلف الطرق ومتنوع الأساليب، حتى لقد تناول التنافس أقلام الكُتّاب وحريات الأفكار. فقَلَّ إن تطلع على صحيفة من الصحف الصادرة من طنطا بغير أن تقرأ فيها فصلاً أو فصولاً عن التمثيل بين مدح وقدح، وتقريظ وتعريض، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان الخطب وخفت الوطأة، ولكنه تجاوز ذلك إلى أمور تمس بالآداب وتؤثر على الأخلاق! فمن ذلك مثلاً: أن إحدى الفرق قد يدفعها الأمر إلى عرض ممثلاتها على الجمهور عرضاً في القهوات والمنتديات، تغريه على العبث وعلى الفساد، حتى لنرى إحداهن وقد قضت إلى ما بعد الساعة الواحدة صباحاً في معاقرة بنت الحان، ومغازلة فريق من الشيوخ والشبان على قارعة الطريق، في «لا جران بار» أو في «إسفنكس بار» الذي يعتبر كلاهما في طنطا أظهر مكان!! وتلك طريقة ليست من طرق المنافسة المحمودة التي يقرها الأدب، أو تجيزها شريعة الأخلاق، وهي إن صحت كانت وسيلة لقضاء على «الفرقة»، التي تنتسب إليها تلك المجاهرة بالرذيلة! والأحرى لمن كانت هذه صفتها من أن تهجر المسرح!!
واستمر الناقد في كلامه، حتى وصل في هجومه على ممثلة معينة أن ألصق بها صفات مشينة، وحدد أفعالها بصورة فجة، من الصعب نقلها، ثم علق على ذلك بقوله: ولسنا نقصد بهذه العبارة ممثلة بعينها أو مخلوقة بذاتها، وإنما نرمي بها إلى جميع اللائي يتخذن هذه الطريقة إعلاناً عن أنفسهن وإظهاراً لشخصيتهن. ومن الوسائل التي تتنافس فيها الفرقتان أن تسعى إحداهما في الخفاء لتحل محل الأخرى في المكان الذي اختارته لعرض رواياتها على الجمهور. وكلنا نعلم أن السر في السكان لا في المكان، وكما يُقال «ليس يضر السيف أخلاق غمده»! وهذه أيضاً ليست من طرق التنافس، ولا من الوسائل المناهضة. ونحن ندل الفرقتين في رفق وإخلاص إلى أن الظهور لا يكون في المغازلات الدنيئة، ولا في المناورات المنحطة التي من هذا النوع. وإنما يكون في إجادة تمثيل الأدوار وإتقان الشخصيات وانتقاء الروايات، فتبذل كل فرقة همتهما في تنظيم حفلاتها، وتطهير أوساطها وعندئذ تحل من النفوس المكانة الرفيعة التي تبتغيها من الانتقال إلى طنطا، وتحملها في سبيلها عناء السفر والغياب عن موطنها الأساسي. ولئن مد الله في عمر هاتين الفرقتين بيننا فسيكون لنا مع كل واحدة منها مجال للكتابة عنها، نبين لها فيه موضع الضعف في تمثيلها وموضع الاستحسان في فنها .. في مصارحة ومكاشفة، لا في مواربة ومداهنة [توقيع] «جبر»


سيد علي إسماعيل