حجب الجائزة الكبرى وهزيمة المسرح المصري أيام قرطاج المسرحية

حجب الجائزة الكبرى وهزيمة المسرح المصري أيام قرطاج المسرحية

العدد 540 صدر بتاريخ 1يناير2018

 يحسب للدورة التاسعة عشرة من (أيام قرطاج المسرحية) التي أقيمت بإشراف وزارة الشؤون الثقافية التونسية، في الفترة من 8 إلى 16 ديسمبر الماضي في العاصمة التونسية، يحسب لها، كما يحسب لكل المهرجانات المسرحية، حجم الفعاليات الفكرية التي تقيمها، وتحاسب على مستوى العروض المسرحية التي تختارها لتمثل بلدانها العربية وتقدمها خلال أيام إقامتها
وقد تبلورت الفعاليات الفكرية المقامة في الندوات النقاشية التي صاغ محاورها وأدارها الباحث المتميز د. «محمد المديوني»، ومنحها عنوانا عاما هو (المسرح فكر وتفكير)، ودارت واحدة من محاورها حول موضوع (موقع النقد المسرحي من الحياة المسرحية اليوم وغدا) الذي يبدو أنه صار موضوعا ملحا اليوم، لتعدد الاهتمام به في المهرجانات العربية، ربما بسبب تهميشه في الحياة المسرحية وضعف دوره المأمول منه، وتحوله لتابع للإبداع بدلا من أن يكون محاورا له من موقع مستقل، وربما أيضا للخلط القائم حاليا بين دور الناقد ودور المحرر الفني، بل ودور المروج الإعلامي والتسويقي للعرض المسرحي.
 كما تضمنت الفعاليات الفكرية أيضا عرضا ومناقشة لكتابين مثيرين للجدل، الأول هو (الحلقة الموءودة في المسرح العربي) للدكتور «محمد المديوني»، التي كشف فيه عن أسبقية اللبناني «نجيب حبيقة» في الكتابة عن فن المسرح كتابة علمية واعية، وذلك في مقاله المنشور بجريدة (المشرق) اليسوعية بعنوان (فن التمثيل) عام 1898، والكتاب الثاني هو (جون فلوريو الملقب بشكسبير) أو حرفيا (شكسبير قناع لجون فلوريو)، الذي أكد فيه صاحبه الإيطالي «إمبرتو تاسيناري»، منذ عشر سنوات، أن اسم «شكسبير» لم يكن سوى اسم مستعار للكاتب واللغوي الإيطالي «جون فلوريو» (بالإيطالية جيوفاني فلوريو)، وذلك بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية للكتاب في مقاطعة (كيبك) الكندية الفرنسية، ترجمة الصحفي والمترجم «ميشيل فايس»، وهي الترجمة التي تم عرضها ومناقشتها مع الكاتب الإيطالي في الندوة التي أقيمت حول الكتاب.
 شارك في (الأيام) 99 عرضا مسرحيا، قدم 71 منها على تسعة مسارح وقاعات بوسط المدينة الجديدة، والباقي خارج العاصمة، أغلبها بالطبع عروض تونسية، بينما شارك منها أحد عشر عرضا فقط في المسابقة الرسمية، مثلت تونس منها بعرضين كدولة مضيفة، مع ستة عروض من الدول العربية (مصر وسوريا والأردن والعراق والجزائر والمغرب)، وثلاثة من أفريقيا غير العربية (ساحل العاج وبوركينا فاسو ومالي)، وذلك بحكم طبيعة المهرجان التونسي المهتم بالعروض العربية والأفريقية، وعكست هذه العروض المختارة للتسابق بالضرورة رؤية المهرجان وإدارته ولجنة المشاهدة والاختيار به للمسرح، كما مثلت العروض ذاتها (عينة) عمدية مما يقدم اليوم في المسرح العربي من عروض تميل في أغلبها للتعبير الجسدي، والمؤسسة على (سيناريو) يكتبه مخرج العرض نفسه، أو كاتب يكتب مباشرة لفضاء المسرح، كالسيناريست السينمائي الذي يدرك جيدا أن ما كتبه ليس نصا متكاملا في ذاته، يمكن فصله عن الفيلم المعروض أو العرض المسرحي، ومنحه الحياة المتجددة برؤى مخرجين آخرين عبر الزمن، وإنما هو بناء هيكلي يتضمن التسلسل المشهدي للمسرحية، والخطوط الأولى للحوار، وقابل للتطور والإضافة والحذف أثناء عملية (خلق) العرض المسرحي، ويخضع بالتالي لعملية (منتچة) تبلور رؤيته وتمنحه إيقاعه الخاص، بذات المفهوم الخاص بفن (المونتاچ) في حقل السينما، مما يجعل نص الكاتب (السيناريو) هذا لصيق الصلة بالعرض المسرحي، يتجلى بحضوره وينتهي بانتهائه.
 عادت مع هذه الدورة المسابقة الرسمية التي توقفت لثماني دورات، بعد إدراك القائمين على إدارة المهرجان ومديره الجديد «حاتم دربال»، أهمية وجود مسابقة تثير حمية التنافس بين الفرق، وتمنح العرض المتميز حق التجلي أمام جمهور وفرق المهرجان وأقطارها القادمة منها، وأن سجلت لجنة التحكيم برئاسة الناقد التونسي د. «عبد الحليم المسعودي»، في بيانها المعلن في حفل ختام الدورة الأخيرة إنّ «اللجنة لاحظت تفاوتا بالأعمال المقدمة خلال هذه الدورة، وهناك أعمال لا ترتقي للمستوى المطلوب»، كما أن «اللجنة وقفت على جملة من الإخلالات وأنه على مستوى الإخراج هناك ارتباك في الخيارات الجمالية، ما تسبب برخاوة بنية العمل المسرحي وتعويل الإخراج على الثرثرة البصرية بالمعالجة السينوغرافية»، فضلا عن «غياب التوازن بين عناصر العمل الواحد في أغلب الأعمال المعروضة في المهرجان»، وهو ما انعكس على نتائجها، بداية من حجب الجائزة الكبرى، وهي جائزة العمل المتكامل لغيابه، هذا دون أن تقوم ثورة صارخة في المسرح ضد لجنة التحكيم، ومرورا بخروج الفرق الأفريقية الثلاث من حلبة التنافس على الجوائز، وليس نهاية بتقسيم جوائز المسابقة القليلة، التي لا تزيد على أربع جوائز فقط، بالإضافة لجائزة العمل المتكامل، وهي جوائز النص والإخراج وأفضل تمثيل رجال وأفضل تمثيل نساء، التي ذهبت للعروض العربية الأربعة، من أصل سبعة مشاركة، وخرج العرض المصري (التجربة) مع العرض الأردني (شواهد ليل) دون أية مناصفة أو إشارة لوجوده داخل المسابقة ومهرجانها.
 حصلت سوريا على نصيب الأسد من هذه الجوائز الأربع المتناصفة، بثلاث جوائز بعرضها المختلف والعائد لمسرح الكلمة والشخصية الدرامية والأداء المجسد لها، والمعنون بـ(ستاتيكو) وهي جائزة أفضل (نص) للكاتب «شادي دويعر»، وأفضل (تمثيل رجال) للممثل «سامر عمران» وأفضل (تمثيل نساء) للممثلة «نوار يوسف»، ويتصدى العرض للوضع الراهن غير القادر على الحركة المغيرة لوضعيته المقيدة بسكونية مفروضة عليها، مقدما صورة تبدو عبثية، لواقع مجتمع غارق في حرب عبثية المظهر، أشعلتها قوى محلية وإقليمية ودولية، فتتت بنيته الداخلية، ودفعت ببعض من أفراده للانتحار، عجزا عن مواجهة هذا الواقع المضبب مستقبله، والمطارد بصخبه العنيف للإنسان السوري المتعلق حلمه بأمان مفقود، وذلك عبر شخصية السيد «حكم» (سامر عمران) المنزوي في غرفته الصغيرة المطلة على مدينة دمشق، والمزدانة بلوحة (الجرنيكا) الشهيرة عن الحرب الأهلية الإسبانية للفنان التشكيليى العالمي «بابلو بيكاسو»، ومستمعا لأغنية «محمد عبد الوهاب» (كل ده كان ليه)، مقدما على الانتحار بعد أن انتهى من كتابة تقريره عن الحياة البائسة التي يعيشها، الذي يدين فيه ما وصلت إليه من قتل الأطفال يوميا، وجمود للفكر المثقل بأوجاع التقاتل بين الأشقاء، ولكنه قبيل إطلاقه الرصاص على رأسه، يدق باب غرفته، ليفاجئ بعد فتحه بجاره الشاب يطلب (بصلة) لكي ينهي بها إعداد الطعام الذي يعده لصديقته، ومن هذا الموقف العبثي المقتحم للحظة وجودية مأسوية، يتداخل الخاص بالعام، ويتم عبره تسكين الوضع الراهن على ما هو عليه برغبة الشاب في إعادة ترتيب محتويات الغرفة بصورة تكسر من ثباتها الظاهر، ثم يخرج ليحاول الرجل معاودة عملية الانتحار، لتقتحم غرفته الفتاة «أمل» (نوار يوسف) صديقة الجار الشاب، الهاربة من شقته لوصول أهله إليها، فاقدة في جريها فردة حذائها (كندرتها) وكأنها سندريللا عصرية يقودها حظها لغرفة رجل يهم بفقدان الحياة، بدلا من قصر الأمير المانح لها الحياة الرغدة، فتثير بأعماق الرجل عشق الحياة، وتدفعه للتفكير في التصدي للصخب القادم إليه عبر النافذة من جيرانه بذات البيت أو بالبيوت المجاورة، وسرعان ما يعود الجار الشاب، ليلتقط من الرجل مسدسه حفاظا عليه، ولكنه في حالة التلاحم بينهما يضغط بدون إرادة على الزناد فيقتل الرجل لحظة عدوله عن الانتحار، تاركا إياه وحيدا بغرفته، منفلتا وصديقته من جريمة لن يعرف أحد مرتكبها، ولن يحاسب أحد على ما ارتكبت يداه ككل الجرائم التي ارتكبت في سوريا خلال السنوات الأخيرة.
نجح العرض في بناء شخصيات درامية متكاملة الأبعاد سمحت لكل من مجسد شخصية الرجل «حكيم» (سامر عمران)، ومجسدة شخصية الفتاة «أمل» (نوار يوسف)، سمحت لهما انتزاع إعجاب الجماهير بأدائهما الواعي بطبيعة الشخصية التي يؤدونها، وذلك قبل استحقاقهما جائزتي الأداء التمثيلي معا، داخل نص كتبه صاحبه «شادي دويعر» عام 2002، ومنحه المخرج «جمال شقير» ملمحا آنيا، بإضافات بسيطة، دون أن يقع في المباشرة، وصاغ منه وجودا جماليا تتفاعل فيه الكلمة بالحركة بالموسيقى بالإضاءة لتقدم عالما كابوسيا لواقع شديد المأساوية.
 نظرا لعدم وجود جائزة خاصة للنص المعد أو للدراماتورجيا، شارك نص الكاتب الجزائري «الرزقي ملال» والمعنون بـ(بهيجة) في الحصول مناصفة على جائزة (النص)، والمعد عن رواية (دون نقاب. دون ندم) للروائية والوزيرة السابقة «ليلى عسلاوي»، حيث يرتد بنا العرض الذي أخرجه «زياني شريف عياد» للعشرية السوداء التي مرت بها الجزائر في تسعينات القرن الماضي، حيث صراع الشعب والجيش والحكومة ضد الجماعات الإرهابية التي نشرت الذعر في البلاد، متعرضة للمظاهر المجتمعية التي صاحبت هذا الصراع الدموي، ومتوقفة بصورة خاصة عند وضعية المرأة، التي دائما ما تكون هدفا للصراع بين الأفكار المتخلفة وتفسيراتها المستندة للدين من جهة والأفكار المستنيرة وتأكيدها على إنسانية الأنثى من جهة أخرى، التي تمثلها الأم «بهيجة» التي أجبرت على ارتداء السواد مذ كانت صبية، والزواج برجل لا تحبه، ووجدت نفسها في لحظة بحث عن أختها التي اختفت أثناء حرب التحرير الجزائرية، وعن ابنها الذي انضم للجماعات الإرهابية، وعبر بنية روائية حكائية تكتشف المرأة أن مدينتها التي كانت تعرفها لم تعد تعرفها، فقد تسيد الأثرياء الجدد المجتمع، وحل الدم محل الأخوة والصداقة، وتمزقت الهوية الوطنية، ولم يعد كشاف الضوء الذي حملته في دخولها للمسرح بقادر على الكشف عن الحقائق الأليمة التي تعيشها.
 تناصف جائزة الإخراج كل من التونسية «وفاء الطبوبي» عن عرض (الأرامل) التونسي، و«علي دعيم» عن عرض (صفر سالب) العراقي، يتأسس العرض الأول الذي كتبته مخرجته على حوار متقاطع ومتداخل بين ثلاث نساء، خرج أزواجهن للبحر الظالم، في سفرة هجرة غير شرعية لشواطئ أوروبا وفردوسها المبتغى من شباب غير قادر على تحقيق ذاته وحياته على أرض بلاده، شباب أحبطه الواقع، وتلقفته رصاصات قناصة مجهولة وهو وحيد وسط البحر المتلاطم لتغتاله، وتعيده بقايا جسد ممزق، تتلقفه النسوة ليصرخن في وجه العالم ضد من اغتال البراءة والحياة، وذلك في بكائية غنائية غير درامية تقترب من فن الرقص الحديث، وتعوض بالتعبير الحركي المفقود من بنيته الدرامية وشخصياته النمطية، التي تجعل أي قول تقوله أية واحدة منهن يمكن أن تقوله الأخرى دون أن يحدث خلل في تلقي اللوحات المتحركة بفضاء المسرح.
 يكتب العرض العراقي (صفر سالب) أيضا مخرجه «علي دعيم» الذي صاغ عرضه بصورة كيريوجرافيه رمزية في سياق التعبير الحركي، الذي يعمم الواقع، فيجعل الصفر رمزا للعرب، والسالب إشارة لسلبيته، رغم أن العرض ذاته يدين هذه الصفرية والسلبية بالصورة التي تنفي عنه عموميته، ويجعل من الإنسان العربي فاعلا باحثا عن الحقيقة، فيواجه بالأبواب المغلقة، ومتسائلا دوما دون العثور على الإجابة الشافية، ومتحركا طوال الوقت تأكيدا لإيجابيته لا سلبيته التي يدينه بها العرض الراقص.
 عن العرض المغربي (صولو) حصلت الممثلة «آمال بن حدو» على جائزة أفضل تمثيل نسائي مناصفة مع ممثلة العرض السوري، كما حصل عن نفس العرض على جائزة أفضل أداء رجالي الممثل «سعيد الهراسي» مناصفة أيضا مع ممثل العرض السوري، والعرض معد عن رواية (ليلة القدر) للروائي المغربي الفرانكفوني «الطاهر بنجلون»، والحائزة على جائزة الجونكور الأدبية الفرنسية الشهيرة، وتقدم لنا دراما فتاة، لا ينجب والدها غير البنات، وكانت هي أخيرتهن، فقرر أن يحولها بالثياب والحركة لفتى عاشت في إيهابه مفتقدة أنوثتها حتى لحظة موت أبيها، الذي يعترف لها بما ارتكبه من جرم في حقها، فتبدأ رحلتها في الحياة كأنثى جوهرا ومظهرا، لكن المجتمع ينهش جسدها، فتنتقل عبر أجواء أسطورية وواقعية، تكشف لها في النهاية مرارة التقاليد المجتمعية التي تعيشها، ومدى مصادرتها لحريتها الذاتية، وقد صاغ المخرج «محمد الحر» العرض بصورة مرئية شديدة الكثافة، معتمدا على بطلته المتمسكة بذاتيتها (الصولو) وسط مجتمع مهدر لكرامتها وحرية جسدها.
 لا تتمثل عندي هزيمة المسرح المصري في خروج العرض السكندري غير الاحترافي (التجربة) من التسابق صفر اليدين، مهزوما مكسور الوجدان، غير فائز بأية جائزة أو ذكر، وهو عرض من إنتاج مكتبة الإسكندرية وإخراج «أحمد عزت الألفي». ويحسب على لجنة اختيار العروض في (الأيام) اختيارها المجافي للصواب للعرض المصري غير الاحترافي، الذي عرض في ختام مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الأخيرة، دون أن يحقق أي صدى نقدي أو جماهيري، رغم أن لجنة المشاهدة تضم الكثير من رموز المسرح التونسي الكبار مثل «توفيق الجبالي» و«رءوف بن عمر» و«محمد مؤمن»، ويبدو أن الاعتماد على الأقراص المدمجة المصورة المقدمة عادة لا تكون معبرة تعبيرا سليما عن قوة العرض المقدم.
وإنما تستكمل صورة الهزيمة بتكريم الفنان «محمد صبحي» خارج حفلي الافتتاح والختام اللذين تتركز الأضواء عليهما دوما، فعلى حين تم تكريم الفنانة السورية «سلاف فواخرجي» والباحث المصري «د.أبو الحسن سلام» والمخرج العراقي د. «صلاح قصب» في حفل الختام بالمسرح البلدي حيث الإعلام والضيوف وكل الفرق منتظرة نتائج التسابق، وسلم وزير الشؤون الثقافية مع المسئولين عن المهرجان (تانيت) التكريم لكل منهم، بينما قذف بتكريم «صبحي» في منتصف أيام المهرجان صباحا، بقصر الموسيقى بضاحية (بوسعيد) السياحية في شمال شرقي تونس العاصمة، وبحضور بعض الضيوف وثلة من الإعلاميين، وبإعداد قاصر وكلمات مرتجلة، وبغياب وزير الثقافة. صحيح أنه تم مع «صبحي» تكريم كل من التونسية «أنيسة لطفي»، والكينية «مومبي كايجوا»، التي تم تكريمها في مهرجان القاهرة التجريبي الدورة قبل الأخيرة، إلا أنه في النهاية تكريم (على الضيق) كان من الأفضل أن يكون مع من تم تكريمهم في حفل الختام.

 


د.حسن عطية

hassan_attia@hotmail.com‏