الضاحكون مرثية قاسية لصناع البهجة

الضاحكون مرثية قاسية لصناع البهجة

العدد 634 صدر بتاريخ 21أكتوبر2019

عندما لا تجد النفس من يرثيها لما آلت إليه فتأسى كثيرًا على مصيرها الذي تظن أنه لا بيدها ولا بيد غيرها أن تُغيره، وتُكمل مسيرتها مكبلةً بأغلالٍ ثقيلة تفقدها بصيرتها لكنها قد تستيقظ ذات مرة أمام حقيقة عارية مفجعة أنها هي من صبرت على ما نالته من سوء الأقدار خوفًا من مصير لا تعلمه ولا تُحمد عواقبه وتكمل مسيرتها مستكينة، وإن حاولت التمرد فلا فرار لها من الظلم والقهر من السلطة الغاشمة التي كبلتها ضد العصيان والتمرد طويلاً إنها سلطة الحاكم الذي لا يفكر غير أن يمتد به الأزل على كرسيه وأن يهلك من يفكر ولو لحظةٍ في إسقاطه وفقدانه لصولجانه، هذا ما حاول عرض “الضاحكون” أن ينقله لجمهوره، مرتكزًا على ثنائية “الحاكم والمحكوم” في محاولة لسبر أغوار النفس البشرية، وماهية فعل الوجود، وراصدًا حالة قابلية أنفسنا عن النظام الذي نُولد بداخله وإن كان فاسدًا مع تحمل النتائج، وفي هذا نظل مكبلون بمصائر توارثنها جيل بعد جيل، ومن داخل هذا الحصار والاستسلام قدم عرض “الضاحكون” فلسفته التي حملت بين جنباتها الكثير من الرؤى والآيديولوجيات التي جنحت إلى رؤية مفادها مرثية للنفس البشرية المنتهكة بأبسط حقوقها، وهي التمتع بأن تشعر وتحس كما يحلو لها.
كانت الشخصيات الدرامية الممثلة بقوى الظلم ذات الأجساد الحادة واضحة في خطواتها القاسية ودهسها بأحذيتها على أجساد الشعب مُمثلا ذلك صورة الحاكم «الملك» وقد ارتدى ملابسه بألوان سوداء، وكذلك لحراسه وبصاصيه، والرمادية لوزيره تعبيرًا عن انقسام هويته بين ما كيل له من ظلم ومأساة دفينة بين جوانحه، وسلطته التنفيذية التي يطيح بها الرؤوس من الضعفاء بالقسوة وقبضة من نار امتدادًا للسلطة الغاشمة للملك ويقفون كل هؤلاء دومًا على مسافات بعيدة من الشعب المتمثل بالمهرجين الضاحكين أبطال حكايتنا، وقد كست الألوان المبهجة المتداخلة ما بين الأحمر والأخضر والأزرق أجسادهم مختلطة ببؤس الوجوه التي حكم عليها أن تضحك رغمًا عنها ولا تقدر أن تعيش المشاعر والأحاسيس الأخرى التي يعيشها البشر العاديون كالحزن أو السخرية أو الغضب والألم أو الفجيعة من فقد أحدهم، فهم مجبرون ألا تظهر على وجوههم غير الوشوش الفاغرة المقهقهة، كأنهم نُحتوا تماثيل لنحات وعلى صنيعته أن تبقى كما شكلّها.
باللغة الشعرية المكتوبة بالفصحى بنص العرض المملؤة بالصور والأخيلة من الألفاظ الجزلة، والتشكيلات الجسدية المتعددة بأداء قوي ومنضبط قدم المؤلف المخرج محمود علي قصيدة رثاء متناغمة البناء حزينة وقاسية لصناع البهجة، حملت في تطورها دعوة قوية محتدة لغضبٍ ساطع وللثورة العارمة ضد بطش امتد لسنوات كثيرة بشخصيات درامية حية تنبض بحياة أليمة من أثقالها لكن تظل كل مشاعرها حبيسة تلك الوجه الضاحك الذي أرغمت عليه لتأمن شرور حاكم ظالم يخشى أن تنبت أية مشاعر في دواخل هؤلاء الضعفاء تأخذ بهم إلى الغضب فالسخط فالثورة عليه فإسقاطه، فتنوعت شخصيات العرض ما بين صوت العقل والحكمة المحاصر بالخوف الشديد على مصائر أشقائه مقدمًا من خلال شخصية الجد الكبير للمهرجين، الذي أشار به المؤلف بدلالةٍ واضحة إلى التقاليد والأعراف المتوارثة التي تخنقنا وتودي بنا إلى السير غصبًا للقدر والنهاية واستسلامنا في دائرة الحياة، كما نسج المؤلف المخرج من خيوطه الدرامية نموذجًا قويًا، وواضحًا لشخصية البطل المضاد “ملقي النكات” الذي يحارب رغم ضعفه وقلة حيلته بقسوة مصيره بنكات هزلية وعابثة ثم يبث فيها فلسفة سامة وهو يعلم أنه بالرمق الأخير، وهذي كانت مقاومته الوحيدة ضد ذاك الظلم من قبل حاكمه وقوانينه، كما قدم العرض شخصية الحالم المعانق والمحتضن لأمل نحو عالم أجمل وأفضل وشدة تعلقه بطير وليد، والكاتب صوت العقل والمحرك بإيمان ضد كل التخاذل والاستسلام لقدر فرضه حاكم كأنه إله يقسو باسم العقيدة عليه وعلى أقرانه.
قدم العرض صورة واضحة في تقديمه للسلطة والقوة ممثلا في السلطة الذكورية التي تمثلت في تقديمه للحاكم الملك وحاشيته والوزير من الرجال، كما استخدم الحاكم ابنته كأنثى مُستخدمة من قِبله بخطة محكمة البناء ودسها مجهولة الهوية خرساء بين الشعب والمهرجين لتساعده كأحد البصاصين، واستطاعت أن تلعب دور الجاسوس بينهم بمهارة غابت عن إدراكهم لهذه المخادعة لدرجة أن عشقها أحد المهرجين، ففجاءتنا بالنهاية كونها وجه آخر لثنائية القاهر والمقهور لنعي أن أحذر من آمنت إليهم، وإن قادتك مشاعرك أن تغلق عينيك عن البحث وراء حقيقة من أحببت، في مقابل ذلك قُدم نموذج واضح لقوة الحب والإخلاص اتضحت بصورة نسائية قادتها أمومتها لرعايتها لطفليها من صغار المهرجين كقوة مناهضة للظلم بالحب والعطاء لأبنائها وبذل كل الجهد لهما حتى موتها.
بإسقاط إضاءة متمازجة مميزة متناثرة على خشبة المسرح كلها بين الأزرق والأحمر طيلة العرض استطاعت أن تولد تلك الفوضى العارمة التي تنقل للمتلقي بدلاً من البهجة أوجاعًا للذين ألصقت بهم مهنة ألا ينطلقوا غير مهرجين ضاحكين دائمًا وفق عملهم وحرفتهم التي قدرت لهم ألا تنبس شفاههم بتعبير آخر حقيقي ومشاعر صادقة، فأظهرت الإضاءة مع الماكياج بألوانهم الزاهية ملامهحم شاحبة، وقواهم منهكة من أرواح خاوية تدور في طاحون وظيفة شاقة وهي إضحاك الحاكم.
كما شكل الديكور كتلة كبيرة ثابتة في أعلى المسرح وجانبيه يحيط بالممثلين جميعًا خانق لشخصيات وأبطال العرض خاصة “الضاحكون”، كما قَسم المسرح إلى مستوى عالٍ استخدم دائمًا للحاكم يفصل بينه، وبين عامة الشعب الذين تقيدت حركاتهم دومًا بأسفل هذا المستوى دون الصعود لأعلى أبدًا.
“الضاحكون” عرض قام على تقديمه أداء جماعي مميز متناغم للممثلين كصوت واحد مقهور عابس من دواخله كثيرًا لفرقة منتخب المسرح بجامعة المنوفية وقدم ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري بدورته الثانية عشرة دورة الفنان «كرم مطاوع»، والفائز بجائزة أفضل نص مسرحي بمسابقة الشباب ورشح لجائزة أفضل عرض تأليف وإخراج محمود علي السبروت.


همت مصطفى