مشهور مش مشهور يكشف خداع المسرح للفنانين المهمشين

مشهور مش مشهور يكشف خداع المسرح للفنانين المهمشين

العدد 679 صدر بتاريخ 31أغسطس2020

في قصة «كالخاس» للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف, يطرح التساؤل عن مفهوم الحياة؟ وجدواها من الشباب إلى الشيخوخة على مستوى الحب والعمل. حيث يجد البطل نفسه وحيدا بعد أن كبر في السن دون أن يحقق لنفسه شيئا من أحلامه كممثل, ولا أحد يهتم به؟
من خلال مباردة (اضحك اعرف فكر) التي طرحتها وزارة الثقافة على شبكة الإنترنت, توازيا مع توقف الأنشطة الثقافية لمواجهة جائحة كورونا, قدم البيت الفني للمسرح عن طريق فرقة مسرح الموجهة والتجوال مشاركة مع المسرح القومي مسرحية «مشهور مش مشهور» عن قصة «كالخاس». العرض المسرحي بطولة الفنان القدير سامي مغاوري، ومحمد طلبة، ونادين خالد، ديكور مصطفى التهامي، وإعداد موسيقى لإسلام علي، وخدع خالد عباس, من إعداد وإخراج مازن الغرباوي. وقدم وتم تصويره على خشبة المسرح القومي بدون جمهور.
 في قصة «كالخاس» يطرح لنا تشيكوف ممثلا مسرحيا يشعر بنفسه تائها في المسرح ، ويحدث نفسه ويحدث الجمهور المتخيل أمامه في الصالة الخالية نادما على ضياع عمره في المسرح  من أجل إرضاء رغبته في حب المسرح وإرضاء الجمهور، حتى يصير وحيدا في النهاية دون تحقيق أي شيء لا أحد يهتم به, في أواخر عمره متسائلا عن جدوى كينونته, وأين حب الناس؟ ويحاول الملقن المسرحي الذي ينام في المسرح عادة، التخفيف عنه، دون جدوى، فيردد شعارات وعبارات معروفة عن أهمية المسرح، ومدى جدواه، وفائدته. وكان تشيكوف قد قام بتحويل تلك القصة القصيرة إلى نص مسرحي قصير بعنوان «أنشودة البجعة» قال عنه في إحدى وثائقه «كتبت هذه المسرحية في ربع ورقة. وستمثل في 15 – 20 دقيقة. وتعد أقصر دراما في أنحاء العالم».
أعد المخرج مازن الغرباوي القصة للعرض المسرحي برؤية نفسية عميقة من خلال  ممثل مغمور (الفنان سامي مغاوري) أفني حياته على خشبة المسرح وبين كواليسه, يجذبه عشق خفي لكل تفاصيل الحياة المسرحية, فالمسرح هو عمره, أودع فيه كل أحلامه وأمنياته, وبعد أن مضى به العمر, يجلس يواجه الصالة وحده وهي خالية متخيلا وجود الجمهور ربها موجها كلامه إليهم, يفصح عن أحاسيسه ورغباته وأحلامه وانكساراته, بين كل هذا وذاك يبقى عشقه للمسرح هو المسيطر على كل جوارحه. ورغم اكتشافه أنه لم يحقق شيئا على مستوى الشهرة أو النجومية , ولعب أدوار البطولة إلا أنه يبدي مع ذلك سعادته بما يؤديه من جمل بسيطة وقليلة لكنها تشبع رغبته في تواجده داخل العرض المسرحي وبين ممثليه وفنييه وعماله المسرح والمخرج والمساعدين وكل العناصر العمل المسرحي. فيظل مندمجا في نفس دائرة الخداع والوهم الذي يخدعه له المسرح, ويبقى المسرح مخادعا وبلا ذاكرة وبلا إنسانية نحو عشاقه من الفنانين الذين عليهم العطاء فقط دون انتظار مقابل.
هذا العرض رحلة غوص داخل أعماق المهمشين والمغمورين, في محاولة لاكتشاف أفكارهم وحياتهم, فهم لا ينقصون شيئا عن المشهورين والأبطال بل إن العمل المسرحي لا يستغنى عنهم,  وهم لايقلون موهبة عنهم, هي كشف لحياتهم المنسية الاجتماعية والفنية والعاطفية, فيمكن أن يعشق كل منهم إحدى بطلات الفرقة في سره من طرف واحد, ويتألم ويتعذب ويحلم ويتمنى دون أن يشعر به أحد, ويظل يحلم بالفرصة على مستوى العاطفة وأيضا على مستوى العمل المسرحي. وهو يحفظ المسرح كله عن ظهر قلب بكل تفاصيله وكواليسه ومعداته وأجهزته وغرفه وهكذا, فهو يذوب عشقا فيه.
تغلب المخرج مازن الغرباوي بالاشتراك مع مصمم الديكور مصطفى التهامي على اتساع الفراغ المسرحي مع ضعف الميزانية باستغلال الفراغ بشكل دلالي للتناص مع الحالة الداخلية والانكسار الذي يعيشه الممثل, وقد تناثرت قطع الديكور والأثاث ترمز في دلالاتها إلى كل الحالات الانفعالية للبطل وهي كلها تحمل مفردات تستخدم وتوظف في المسرح, وهو في نفس الوقت ديكور عرض مسرحي (بعد نهاية العرض) الذي هو إحساس الممثل بنهاية حياته الخالية, ففي عمق منتصف المسرح تبدو شرفة منزل باللون الأبيض معبرة عن إحساس الممثل بأن هذا المسرح بيته الذي عاش فيه عمره كله ويشعر فيه بالأمان والدفء والتشبع. لكن في الجانب الأيمن نلحظ انكسارا مائلا في زجاج الشرفة معبرا عن الانكسار الداخلي له والهزائم التي قابلها في حياته. على يمين الشرفة سلم يستخدم في المسرح للصعود أعلى السوفيتا لضبط الأجهزة, لكنه هنا يرمز إلى إحساس البطل بالرغبة في الصعود إلى سلم الشهرة الذي لم يتحقق. وتقع إلى يمينه مرآة (وهي تلك التي تستخدم أيضا في المسرح في غرف الفنانين) هي مرآة نفسه التي يحاول اكتشافها بعد فوات العمر. أما في يسار الشرفة نجد كرسي هزازا دلالة على تأرجح الحياة ومحاولة الاسترخاء بعد العناء, ثم بجوارها تمثالين نصفيين يرمزان لعصور الأولى لبدايات المسرح, كإشارة لعمق عشقه للمسرح وتغلل جذوره بداخله.
كما عمد المخرج إلى توظيف بعض الأدوات الفنية لإحداث التنوع والتغلب على أحادية التمثيل, (لأنها رغم دخول ممثلين أخرين إلا أنها أقرب إلى المونودراما). حيث نوع في استخدام زوايا كاميرات التصوير بعدة أحجام وعدة زوايا مختلفة, كما أنه قام بتوظيف بعض لحظات خاصة للإضاءة لإحداث التأثير النفسي المراد على المتفرج لتوصيل الحالة المزاجية والنفسية للممثل. إضافة إلى تصميم الحركة المتلاحقة من مكان إلى آخر بكل دلالاتها ومبرراتها الدرامية. كما أنه في نهاية العرض استغل صالة الجمهور بالمسرح القومي كجزء من الحدث ومن درامية المكان الذي تدور فيه الأحداث, وذلك بدخول الممثل في النهاية من الصالة في المونولوج الأخير, مما كان له تأثير جيدا على التلقي والاندماج معه في حالته النفسية.
هي حالة نفسية عميقة تمكن الفنان القدير سامي مغاوري بخبرته من توصيلها بكل أحاسيسها وانفعالاتها باقتدار, حيث احتوى فراغ المسرح باقتدار من خلال الحركة المسرحية الديناميكية النشطة التي رسمها المخرج, ومعه كلا من محمد طلبة بموهبته وخفة ظله، وإجادة نادين خالد لدورها المرسوم لها.
عرض متوازن يحدث تماسا داخليا مع أحاسيس المتلقي الذي يشعر وكأنه هو الشخصية بطل العرض حتى لو كان المتلقي صاحب مهنة أخرى غير التمثيل, لأن الفكرة الأساسية المجردة تنطبق على كل الفئات وأصحاب كل الوظائف التي دائما لابد فيها من وجود أغلبية من المهمشين الذين تبخل عليهم الحياة بتحقيق بعض أحلامهم البسيطة.
 وأخيرا رغم عدم قناعة البعض بفكرة التلقي والمشاهدة والنقد والتحليل عبر الشاشات وشبكة الإنترنت لانتفاء التفاعل الحي والعلاقة المباشرة بين الخشبة والصالة وعدم اكتمال الرؤية عبر الشاشة, وعدم وضوع العديد من عناصر العرض كما هي بطبيعتها الفنية على خشبة المسرح من خلال شاشة عرض, إلا أنها أصبحت سمة لهذا العصر ولابد من المواكبة وإيجاد آليات نقدية جديدة يمكن معها النقد والتحليل والتفسير- حتى لو انتقصت بعض عناصر العرض المسرحي- ويجب عدم لفظ هذا الوليد التكنولوجي الذي يبدو أنه سيكتب له الاستمرار ومسايرة أحوال العصر الحديث.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏