«ألـف عـيـــلة وعــيــــلة» خالد جلال رسول المسرح للقرن الحادى والعشرين

«ألـف عـيـــلة وعــيــــلة»   خالد جلال رسول المسرح للقرن الحادى والعشرين

العدد 780 صدر بتاريخ 8أغسطس2022

لو افترضنا جدليا أن للمسرح رسول ينشر قيمه وعاداته وقوانينه وأسس الالتزام وقواعد الإبداع فيه وعبقرية اكتشاف المواهب، ونشر رسالته ومدى تأثيرها على المجتمع بالإيجاب، فلن يكون هناك غير مخرج مسرحي واحد فقط يدعى خالد جلال، وهذا ليس نوع من الإطراء بل هي حقيقة مثبتة لكل من يتتبع تاريخ هذا الرجل منذ المرحلة الأولى من تاريخه وإدارته لمسرح الشباب بعد رجوعه من منحته الأكاديمية بروما التي درس فيها الإخراج واحتك مع كوادر أجنبية وعالمية ومدارس جديدة وجاء محملا بها إلى مصر وعلى عاتقه حلم ومسئولية تنفيذها في وطنه الذي يعشقه بل ولن أبالغ لو قلت تفوق على تلك المدارس الأوربية ذاتها منذ أن تولى بعدها رئاسة  مراكز الإبداع الفنى التابعة لصندوق التنمية الثقافية، وورشته الأولى المجانية التابعة لوزارة الثقافة والتي كان نتاجها العرض المسرحى «هبوط اضطرارى»، والتي حققت نجاح نقدى وجماهيرى لافت كتب الحياة والنجاح والاستمرارية لهذا المشروع الضخم نظرا لتفرده في تقديم مواهب شاملة تجيد كل أنواع الفنون من رقص وتمثيل وغناء، وأيضا لما يقدمه من رسالات عظيمة بطريقة ومدرسة فنية جديدة صار مبدعها خالد جلال وحده ولم يسبقه بها أحدا من الرواد الذي صار هو واحدا منهم فيما بعد، ألا وهي أن المتلقى يخرج من عروضه وهو في حالة من النشوى والضحك والبكاء في آن واحد وهذا نادرا ما يحدث،  وبداخلة طاقة لا تضاهى للتطهير والتغيير من نفسه وللآخرين من حوله سواء أكان هذا التغيير يشمل أسرته أو أصدقاءه أو فنه أو مجتمعه أو حتى درجة انتمائه وحبه لوطنه والتضحية من اجله، ومن ثم توالت بعدها الورش والعروض بدءا من «أيامنا الحلوة»، «قهوة سادة» ـ ذاك العرض الذي أحدث انقلابا كبيرا في مقاييس اكتشاف النجوم في الوسط المسرحى، حيث انه العرض الوحيد الذي صار كل أبطاله بلا استثناء نجوم في الدراما والسينما حاليا، فعلى الرغم من أن كل عروض خالد جلال يكتب لها النجاح الباهر ولم يسبق له أن قدم تجربة غير موفقة على مدار تاريخه المسرحى، إلا أن عرضه «قهوة سادة» يظل هو (العرض الاستثناء) في النجاح الجماهيرى والنقدى منقطع النظير الذي حققه والذي جال وصال به في كل الدول العربية، وشاهده كل الأطياف المجتمعية والمسرحية حتى السياسية بدءا من الرئاسة نهاية إلى الوزراء والسفراء ـ ومن ثم بعد تلك المرحلة يقرر خالد جلال أن يبدأ مرحلة ثانية جديدة جنبا إلى جنب مع الورش المجانية  ألا وهي الورش ذات المقابل المادى الرمزى والتابعة للثقافة أيضا، فقط بهدف اتساع رقعة اكتشاف المواهب من أجل رفعة الفن المصرى تحت دعم ورئاسة معالى وزيرة الثقافة الفاضلة إيناس عبد الدايم العاشقة للمسرح، والحريصة دوما على حضور كل فاعلياته وعروضه والسعى لتطويره من خلال اكتشاف المواهب واحتضانهم بالورش المسرحية مثل ورش مركز الإبداع (خالد جلال) وكذلك ورش ابدأ حلمك، وكذا إعادة تنمية قصور الثقافة في كل ربوع مصر، ووصول المسرح لمستحقيه في الأرياف والحضر في إطار أحد أهم مشروعاتها ألا وهو «مشروع العدالة الثقافية»، وتمثلت عروض تلك المرحلة في الروائع التالية  «سلم نفسك» – ذاك العرض الذي حضره  فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى راعى الفن والفنانين بصحبة فخامة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان على مسرح دار الأوبرا المصرية في زيارته  للقاهرة، ومن ثم بعدها عروض «بعد الليل» وأخيرا  «سينما مصر»، ومن ثم بعدها تم تكليف المخرج خالد جلال من قبل الرئيس السيسى بتولى إدارة «مسرح شباب العالم» التابع إلى «منتدى شباب العالم»،  التي كانت أخر عروضه له على مسرح شرم الشيخ هو العرض المسرحى «كنا واحد» والذي تأثر به فخامة الرئيس بشدة لما يقدمه هذا العرض من جرعة وطنية وصمود وإيثار وتضحية  للشعب المصرى بكل أطيافه بدءا من الأطباء والممرضين والممرضات وحتى عمال النظافة  إيمانا بتساوى كل المهن في حب وخدمة الوطن في أحلك الظروف والمحن حيث أزمة وباء كورونا الشهيرة التي وحدت شعوب العالم أجمع على قلب رجل واحد .
وأخيرا تأتى المرحلة الثالثة الحالية وليست الأخيرة (موضوع المقال النقدى) في مشوار خالد جلال الإبداعي، فلا زال في جعبته الكثير من الأفكار والأحلام والطموحات وسعيه الدؤوب لنشر رسالته المسرحية التي كرس حياته لها في إرساء  قيم المجتمع المصرى الأصيلة الموجودة بالفعل، والدعوة أيضا إلى عودة القيم الغائبة وتذكير شبابنا بها، وتقوية أواصر حب الوطن بداخلهم وتعزيز انتمائهم له، ألا وهي «مرحلة ورش القطاع الخاص» واستغلال ذكائه الفنى الحاد في خطوة بالغة الأهمية في تشجيع القطاع الخاص وتوجيهه عن اقتناع وحماسة إلى دعم المسرح وتقديم فن هادف صاحب قيمة ورسالة شريطة أن تكون تلك الجهة الخاصة على قدر المسئولية والمصداقية في تبنى هذا النوع من الفن المسرحى الهادف، فتحقق حلمه هذا متمثلا في شركة كنج توت للإنتاج الفنى لمالكها المحترم الأستاذ هشام شعبان، تلك الشركة التي وافق المخرج خالد جلال علي التعاون والتعاقد معها لما تمتلكه من تاريخ مشرف في عالم الدراما والسينما والسمعة الطيبة في التعامل مع المواهب، ونظرا لسعى جلال إلى تحقيق رسالته وحلمه المسرحى المشغول به ليلا ونهارا وهو زيادة حجم الإنتاج على عروضه، وذلك فقط من اجل اتساع  آفاق ورقعة فرص اكتشاف المواهب في مصر الولادة من كل الأطياف والطبقات بدءا من الريف حتى الحضر حتى طبقة القادرين ماديا من المحبين للفن والراغبين في نيل فرصهم الفنية في ظل إنتاج كبير قادر على التسويق لهم بشكل احترافى أكبر وأشمل،  ومن ثم عرض عليهم خالد جلال شروطه ومبادئه والتي كانت اهم ما فيها هي إصراره بأن يكون هناك عرض مسرحي ضخم نتاج لتلك الورشة في النهاية من اجل استعراضه لتلك المواهب أمام الجهات المختصة أسوة بما يقوم به أيضا مع طلابه بمركز الإبداع الفنى، وأن تتبنى تلك الشركة هؤلاء المواهب في أعمالهم الفنية القادمة، فلاقى خالد جلال ترحاب وقبول على الفور من شركة كنج توت بل سخرت له كل الإمكانيات من اجل نجاح تلك الورشة نتيجة لإيمانهم القوى بها وبما ستعود به عليهم من منفعة فنية ومؤكد مادية .
بدأت أول صعوبات تلك الورشة التي واجهها خالد جلال في عدم إجراء اختبارات للمتقدمين وتم قبولهم جميعا، ولكن بما أن خالد جلال صاحب مدرسة خاصة ومتفرده في صناعة المواهب والنجوم مع خبرات كبيرة في التدريب والتهيئة تعلمها كما اشرنا سابقا في دراسته بالخارج، والتي يكون عمودها الفقرى قائم على الالتزام الشديد والبروفات المضنية لساعات طويلة، استطاع خالد جلال اكتشاف 54 موهبة أغلبهم لم يسبق لهم التمثيل نهائيا ولا حتى الوقوف على خشبة المسرح أبو الفنون واحد أصعبها على الإطلاق.
وبدأت رحلته معهم بعد إعدادهم وتدريبهم في تجهيزهم لمرحلة الارتجال احد اهم مراحل الورشة حيث تنمى موهبة الخيال والتركيز والذاكرة الانفعالية والصدق الفنى لدى طلابه، وهي كلها من وحى منهج «قسطنطين ستانسلافسكى» أحد رواد المسرح الروسى في العالم اجمع من اجل تقديم نص مسرحي للجمهور من أفكار وتجارب طلابه، ومن ثم يبدأ هو في صياغتها في شكل مسرحي ملائم لمنهجه هو الشخصى القائم على طريقة متفردة في استعراض مواهبهم مهما أن كانت ضخامة أعدداهم، فكان نتاج تلك الورشة بعد مشقة وعناء العرض المسرحى «ألف عيلة وعيلة» الذي عرض لمدة ليلتين على مسرح «جراند حياة» أحد أضخم المسارح الخاصة، ومن ثم عرض بالأمس بنفس المدة أيضا على مسرح الجمهورية ضمن فاعليات المهرجان القومى للمسرح المصرى الذي أتوقع له حصد إحدى الجوائز الهامة به عن جدارة واستحقاق نظرا لقيمة العرض المقدم، كما انه العرض الوحيد الذي يمثل القطاع الخاص بالمهرجان مما يعد تشجيعا غاية في الأهمية لدفع ذاك القطاع المسرحى المهم لتكرار خوض تجربة إنتاج العروض المسرحية  والمشاركة في المنافسات لمهرجان يمثل الدولة .
 استوحى خالد جلال اسم ذاك العرض المسرحى من احد اهم كتب الأساطير في العالم «ألف ليلة وليلة»، حيث تدور فكرة العرض من خلال مكان عريق ألا وهو «محكمة الأسرة»  نشهد فيه كل الخلافات الأسرية من خلاف على الإرث بين الأبناء والآباء أو خلافات طلاق أو خلع أو دفع نفقات وحضانة  أبناء وغيرها من المشاكل الأسرية العديدة والمعقدة والتي انتشرت بشكل كبير في هذه الحقبة لذاك الجيل، ومن ثم يظهر لنا فجأة رجل أسطوري بشكل فانتازى من عالم آخر موازى بملابس غريبة ليست من زماننا ولا حتى من كوكبنا ممسكا بكتاب يشع منه النور يدعى كتاب «ألف عيلة وعيلة»، لتكون مهمته هي تذكير ذاك الجيل بزمن الأسرة الجميلة حيث الدفء وصلة الرحم والأواصر القوية والعادات والتقاليد بعدما فرقت  المادة والتكنولوجيا المتمثلة في السوشيال ميديا بين الأسرة الواحدة ومزقت تلك الأواصر النبيلة، ومحاولته التي ينجح فيها بالنهاية في عودة تلك المودة والرحمة بين الأزواج والآباء والأبناء وروح الأسرة المترابطة أسوة بذاك الزمن الذي غاب عنا وأخذ معه كل تلك العادات والقيم السامية.
يبدأ بعدها كل ممثل من أبطال العرض المسرحى في الخروج إلى المنصة حيث كتاب ألف عيلة وعيلة وطرح قضيته للجمهور متمثلة في كلمة واحدة يلخص بها معنى معاناته وما يفتقده، ثم يذهب لنرى قصته حية أمامنا صوت وصورة، وأتذكر بعض هذه العناوين لقضايا هؤلاء الشباب على سبيل المثال لا الحصر من وسط عشرين لوحة مسرحية  ـ جيرانا، أخو صاحبتى، ابنى الكبير، ناهد، بابا، عيلتى، مصيف شركة الحديد والصلب، حماتى، أمى الله يرحمها ـ ألخ .. وتبدأ جميع تلك القصص بصلب المشكلة التي يعانى منها بطلها ومن اجلها قادته إلى محكمة الأسرة، لتنتهى تلك الأزمة بنهاية سعيدة غير متوقعة، وقد نجح جميع الممثلين بلا استثناء في تجسيد أدوارهم ببراعة فائقة وخفة ظل تتسم بها مدرسة خالد جلال الفنية تحت مسمى «الكوميديا السوداء»، ليعبروا عن نفسهم بكل قوة وثقة انهم نجوم المستقبل تحت قيادة وتعليم مدربهم والأب الروحى لهم خالد جلال  الشهير بـ«جواهراجى النجوم».
الديكور لعمرو عبد الله هو أول ما تقع عينا المتلقى عليه، وهو ديكور موفق للغاية لفكر المخرج حيث نجد لوحه ضخمة في خلفية المسرح ممتلئة بصور حقيقية بالأبيض والأسود من وحى هذه العائلات القديمة بمجرد إبصارها حتما ولابد أن تشعر بالحنين وبجزء مفقود منك في هذا العصر الذي تحيا فيه يدفعك رغما عنك لذرف الدموع والحسرة عليه وتمنى عودته، وكما اعتدنا بمسرح خالد جلال الذي يعتمد في ديكوره على الموتيفات فقط وبعض الأزياء والأكسسوارت ويكون اهتمامه الكلى منصب على الممثل بشكل أكبر إيمانا منه بأن الآلة البشرية هي من تدخل قلب الجمهور بسرعة لو صدقت الإحساس والتعبير عن الآلة المادية الجامدة الخالية من تلك الملكة .
الإضاءة لأحمد عبد التواب بالمعاونة مع وليد فوزى جاءت مثيرة وموائمة لفكرة العرض وخليطا ما بين الإضاءة الناعمة بكل درجات ألوانها الموحية بذاك الزمن القديم الجميل، وبين الإضاءة الساخنة بكل درجات ألوانها  الموحية بجيل هذه الأيام بكل ما يواجهه من صخب للحياة ورعب من لعنة السوشيال ميديا وتطور العالم الافتراضي لها يوما بعد يوما وجيلا بعد جيل، والذي يقترب أن يصل إلى الميتافيرس ذاك العالم الذي سيحجبنا تماما عن الواقع . 
الإعداد الموسيقى لكريم شهدى جاء ذكيا ورومانسيا حالما به لمحة من الحزن والفقد والغياب، وهادئ غير مزعج أو صاخب لينجح في خطف مشاعر المتلقى إلى الحنين لذاك الزمن الجميل حيث ألفة الأسرة بعضها لبعض، ولمة العيلة والجيران وإخلاص الأصدقاء وغيرها من كل معانى الحب والرحمة بينهم .
دوما التفاهم الفنى بين علا فهمى المخرج المنفذ مع خالد جلال المخرج المبتكر ينم عن عروض ناجحة وبدون أية أخطاء فنية حيث ينحصر الدور الأكبر للمخرج المنفذ الناجح في تلافى أية أخطاء بالعرض المسرحى خاصة ذات الأعداد الضخمة منها، وهذا دوما ما تنجح فيه علا فهمى باستمرار ليكون هذا هو التفسير القوى لسر نجاح التفاهم والتعاون الأبدى بين كلاهما حيث يكمل كل منهما الآخر فنيا . 
من هنا أعود مرة أخرى إلى بداية ونهاية مقالتى النقدية في آن واحد ـ وسبب اطلاقى لقب «رسول المسرح» على المخرج الكبير خالد جلال، فلو تأملت جليا رحلته الفنية والتي سبق وأشرت اليها في المقدمة ستجدها رحلة نجاح لم تأتى من فراغ بل تخللها كفاح مرير وإصرار وطموح لا حد له والأهم من كل ذلك حرصه وشغله الشاغل الذي افنى فيه نصف عمره في أن يكون صاحب رسالة  فنية هادفة ومؤثرة، وأصحاب الرسالات يعيشون ويخلدون . 


أشرف فؤاد