لا تمت حيا ONE LIFE

لا تمت حيا ONE LIFE

العدد 634 صدر بتاريخ 21أكتوبر2019

ضنينة هي الحياة. شحيحة البذل، تقسو أحيانا بلا سبب محدد، بلا منطق، وبلا رحمة.. تثقل كاهلنا حتى لتغدو جبلا نود التخلص منه.. أنفاسك ثقيلة لا تنتمي إليك.. خطواتك مقيدة.. والوقت يمر.
من منا لم يلعن حياته ويعبد مأساته الخاصة؟ من منا لم يفتنه الألم؟ من منا لو طرق الموت بابه في التو واللحظة سيقابله بصدر رحب؟ لا أحد.
حياة واحدة! لأنها حياة واحدة على كل ما فيها من عذابات، فهي كل ما تملك، لا خيار لك سواها. فهل تقبل به؟
تدور الحكاية في حانة، حيث الجميع يهرب من آلامه بحثا عن السعادة التي ضلت طريقها إليهم، فنجد «ستون» السباك الساخر الذي هجره أبناؤه فغدا وحيدا يبحث عن أنسه في أخبار الحوادث، كأنما يطمئن أن الجميع يعانون مثله!.. نجده في مواجهة بيرسي! الساخط على الحياة، الرافض لإنجاب الأطفال حتى لا يعانون مثله، يفكر فتهبط معنوياته، يفكر فيتألم.. كل له مأساته الخاصة، من أنجب ومن اعتزل الحياة والحب والإنجاب.. كلاهما تعيس.
و”ريد” الثرثارة التي لا تمل الحديث عن آلام معدتها، لا لشيء إلا لتجد أحدا تشاركه الحوار، ريد التي ماتت فعليا حينما توقفت عن الغناء. والعجوز «مابك» التي تقصد الحانة لتسلي وحدتها وتشرب كأسا وتترحم على أيام سعادتها وأولادها الثلاثة، مابك التي تومن أنها على حافة القبر، ثم ديفيد الساقي الأصم الذي لا يمل صب البيرة ويحب هاري أكثر من أي شيء في الدنيا، صديقه، صديقهم جميعا، الحي الوحيد من بينهم.. هاري الذي يقدس السعادة، أكثرهم تعاسة وأكثرهم وحدة بمقاييسهم، هاري الذي يضفي الرقص على المشهد في ليلة عرس حبيبته، ذلك الذي لا يكفيه راتبه ويدفع ثمن مشاريبه بالآجل ورغم ذلك يقدس السعادة وينشرها، حتى يأتي الزائر.
هل هو الموت؟ الأسماء لا تهم.. يأتي من يقلب موازين المشهد رأسا على عقب، في مهمة محددة، أن يرحل وأحدهم معه، وعليهم أن يختاروا تطوعا وإلا فسيأخذ من جاء لأجله، يضطرب المشهد وكل من كان يتمنى الموت يصبح مولعا بالحياة متمسكا بأحقيته في البقاء، الخوف سيد المشهد. والأنانية هنا غريزة.
الوحيدة التي عرضت أن تموت هي إيفي، زوجة بيرسي المحبة، التي تحاول جاهدة أن تنتشله من اكتئابه بلا جدوى، ترحب بالموت إن كانا سيموتان سويا.
وبين شد وجذب وارتباك وعويل وإصرار الزائر على إتمام مهمته؛ يعلن هاري في اللحظة الأخيرة أنه متطوع للرحيل، يموت باختياره، يموت حرا قبل أن يقبضه الزائر المبتسم، هاري.. السعيد التعيس، بقلبه المتعب الجريح القادر على إيجاد السعادة في أحلك المواقف، في أغنية، في رقصة، في لمسة عجوز تعتبره أحد أبنائها، يختار أن يمنحهم حياتهم علهم يجدوا السعادة كما وجدها.
حكاية هي بين الموت والحياة إذا، في أنماط مختلفة من الأعمار والشخصيات، في مزج متضافر من الكوميديا والمأساة وضعت الممثلين في تحد لإظهار قدراتهم التمثيلية والحركية والصوتية، فنجد إياد أمين في دور «ستون» مبعث كوميديته هو صوته المستعار الذي ارتكز عليه طوال العرض ليرسم مشهد الساخر الساخط على الحياة، وجنى صلاح في حلة العجوز برقصتها وجلستها وصوتها، حتى التبس إحساسها المشهد فغدت عجوزا بحق، ونغم طارق، طاقة الثرثرة التي لا تنفد، وطاقة الغناء التي تنشي الآذان.
وفي إدراكها لأبعاد كل شخصية أجادت منة جلال رسم الصورة، فإيفي بفستانها القصير المقبل على الحياة، وبيرسي في حلته التقليدية، فريدا في فستانها الصارخ، وهاري في زيه الحيوي على العكس تماما من بيرسي، واكتملت واقعية المشهد بالديكور، فصنع عبد الرحمن خالد بارا مكتملا، بابا وأريكة وكراسي وأكواب تتكسر بشكل حي على المسرح!.. بقايا ملصقات على الجدران هنا وهناك، مصباح مرتعش، ومنصة للغناء، الديكور بعناصره وتنفيذه ساهم مع الإضاءة بظلالها الحمراء والزرقاء في صنع خوف مكتمل لحضور الموت.
فلولا تكسر الأكواب وسقوط الكراسي لما ارتعشت أنا في مجلسي.
ولأن البار يعج بالحياة، ولأن حكايتنا حول الحياة والموت، أضافت الموسيقىى الحية لواقعية الحدث بداية من أغنية المفتتح مرورا بالاستعراض الراقص نهاية بالتفاعل الحي مع حضور الموت والحزن والخوف والتهديد ثم الرحيل.
فعلى أنغام حية قدم لنا إبراهيم أشرف قطعته، في مزج بين عناصر الديكور الحي والإضاءة ليضفي واقعية على ممثليه، في سيمفونية موسيقية صنعها يوسف وليد يوسف ليغدو عرض «حياة واحدة» مثالا لتضافر العمل الجماعي تمثيلا وديكورا وإضاءة وموسيقى، الجميع يصارع الموت والحياة بداخله، ليخرج المعنى حيا أو لتنتصر الحياة فينا، نحن الجمهور.
انتصر الموت وأخذ غنيمته؟ ربما!
ولكن هاري لم يمت حيا، عاش حياة كاملة، رغم فقدانه لكل مسببات السعادة، صنع سعادته بنفسه، صنعها بسعادة الآخرين وأبى إلا أن يموت حرا، ويسلم نفسه للموت، الموت الذي يرجو المعذرة، الزائر القادم من وسطنا نحن، الجمهور، قد يكون حولنا، من بيننا، عابر في طريق، وجه لصديق قديم، قد يكون أي شخص وفي أي زمان، فهل ستعذره إن أتاك يرجو المعذرة؟ أم سترجوه تمهلا حتى تصنع يوما سعيدا؟
اصنع يومك! ومت حرا..

 


إسراء محبوب