الاستعمار الفرنسي يحارب الفرقة المصرية

الاستعمار الفرنسي يحارب الفرقة المصرية

العدد 749 صدر بتاريخ 3يناير2022

انتهت قضية «حسيبة رشدي» وانتهت الأزمة وسافرت الفرقة المصرية إلى تونس، ونقلت لنا مجلة «الفن» - في منتصف أبريل 1951 – خبر وصول الفرقة وعلى رأسها يوسف وهبي، أما المفاجأة فكانت في وجود «جورج أبيض» الذي جاء إلى تونس بعد غياب عشرين سنة تقريباً! وقال «محمد الخزوف» مراسل المجلة في تونس: «لقد كانت تونس كلها تنتظر هذه الزيارة الفنية، التي نعتبرها خير ما يوطد روابط الصداقة والأخوة بين قطرينا الشقيقين مصر وتونس، فلا عجب إذن إذ خرجت تونس تستقبل عاهل التمثيل في الشرق، ورسل مصر الفنيين. وقد فاقت حفاوة تونس بالفرقة المصرية هذه المرة، كل حفاوة سابقة، وكان لوجود قطب الممثلين «جورج أبيض بك» مع الفرقة، رنة فرح في قلوب الكثيرين، لأن لعزته تلاميذ تونسيين، درسوا الفن على يديه، منذ زار تونس زيارته الأولى من سنوات طويلة، وهم الآن يقودون الحركة الفنية في تونس ويضعون أسس نهضتها ورقيها».
العرض الأول
تابع مراسل المجلة أخبار الفرقة، ونقل لنا تفاصيل مهمة عن العرض الأول، قائلاً: «تقاطرت جموع التونسيين على المسرح البلدي لمشاهدة أولى المسرحيات التي تقدمها الفرقة وكانت «رجل الساعة». وقد ضاق المسرح بالجماهير التي أقبلت تحيي مصر الشقيقة في أشخاص أعضاء الفرقة ومديرها يوسف وهبي بك. ومن طريف ما أرويه لكم، ما حدث في تلك الليلة، إذ يقضي أسلوب الإخراج أن ينزل بعض الممثلين إلى صالة المسرح يهتفون بسقوط «رجل الساعة»، ويرمونه بالبصل والطمام، بينما يصرخ رجل الساعة يخاطب الجماهير: «هل يرضيكم هذا .. هل توافقون على ما فعلوه .. إلخ». وما كاد المشهد يتم ويصرخ عميد الفن يوسف وهبي بك صرخاته الفنية الداوية حسب مقتضى الرواية، حتى أجابته الجماهير: «لا، لا، لا يرضينا .. نحن أبرياء منهم». وكادت الجماهير أن تنتقم من الممثلين الموجودين في الصالة، فقد اعتقدت أن المشهد حقيقة وليس تمثيلاً لولا أن أدركت الجماهير حقيقة الأمر فأفرجت عن الممثلين وهنأتهم على روعة تمثيلهم. وبعد انتهاء الرواية ألقى زعيم الفن في الشرق يوسف وهبي بك خطاباً حماسياً هاماً تعرض فيه للعلاقات الطيبة التي ترتبط الشعبين الشقيقين مصر وتونس، برباط الأخوة والصداقة الذي لا تنفصم عراه، بل تزيده الأيام والحوادث متانة وقوة. وليس أدل على هذا من الاستقبال الحافل الذي استقبل به هو وزميله الأستاذ العظيم جورج أبيض بك وأفراد الفرقة. ثم قال: لقد عدت إليكم لأحييكم وأشكركم باسم مصر وشعب مصر .. ولا أشعر بأنني غريب عن وطني بل أنا هنا في وطني وبين أخوتي وأصدقائي .. وأختتم كلمته الحماسية هاتفاً «يحيا العرب» وقد قوبلت كلمة عزته بدوي من الهتاف والتصفيق».
وفي مقالة أخرى، نشر المراسل معلومات مهمة عن رحلة الفرقة، منها: أن بلدية تونس أقامت حفلة تكريم للفرقة المصرية بنادي السيارات، كما أنعم ملك تونس على جورج أبيض بالصنف الثاني من نيشان الافتخار. وقد استبدلت الفرقة رواية «المجنون» برواية «امرأة لها ماضي» بسبب حادث وقع للممثلة نجمة إبراهيم. وقد ألقى يوسف وهبي خطبة الوداع على الجمهور التونسي، كما تبرعت الفرقة المصرية بإيراد روايتها الأخيرة إلى «الجمعية الخيرية».

مؤامرة استعمارية
وإحقاقاً للحق أقول: لولا المراسل «محمد الخزوف»، وما نشره، لكان الشك انتابني، وقلت إن الفرقة المصرية لم تسافر تونس أصلاً في هذا العام، لأنني فجأة وجدت الفرقة عادت إلى مصر في صمت تام!! وبعد عودتها نشر «سعد الكفراوي» في جريدة «البلاغ» الحقيقة التي جعلتني لا أشك في الموضوع وأقرّ بسفر الفرقة!! والحقيقة المنشورة في الجريدة بها تفصيلات لمؤامرة فرنسية استعمارية، يُستحسن ذكرها لأنها تاريخ!!
قال «سعد الكفراوي»: وصلت إلى القاهرة في أوائل هذا الأسبوع الفرقة المصرية قادمة من شمال أفريقيا بعد أن قدمت في تونس والجزائر بعض حفلاتها التمثيلية التي تعاقدت عليها مع أحد متعهدي الحفلات التونسية والمفوض من بلدية تونس لهذا الغرض. وقد أجمع أفراد الفرقة المصرية على عدم نجاح هذه الرحلة وذلك للظروف التي أحاطت بها والتي كانت خارجة عن إرادته. وهي ظروف سببتها الأحداث السياسية في شمال أفريقيا وموقف الحكومة الفرنسية من الحركة الوطنية في هذه البلاد. فعلى الرغم من أن السفارة الفرنسية في القاهرة سمحت للفرقة المصرية بالسفر إلى تونس والجزائر إلا أن الإقامة العامة في تونس وقفت منها موقفاً معادياً. وجاء هذا الموقف نتيجة لزيارة وفد نقابة الصحفيين المصريين لمراكش تلك الزيارة التي ضاق بها رجال الحكومة الفرنسية في شمال أفريقيا ذرعاً وكانت سبباً في توحيد صفوف الزعماء المجاهدين للعمل ضد الاستعمار الفرنسي. ولهذا قامت الإقامة الفرنسية في تونس على عدم إيجاد أي صلة شخصية بين أفراد الفرقة والشعب التونسي. وكان أول عمل للبلدية أو للإقامة العامة بمعنى أصح أن أخفت صوت الفرقة في الصحف التونسية، فلم تقم بالدعاية لها إلا قبل أسبوع من وصولها بعكس العام الماضي الذي قامت فيه بالدعاية للفرقة قبل وصولها بشهرين. وكذلك منعت البلدية محطة الإذاعة من ذكر أخبار الفرقة. وأشاعت أن الحكومة المصرية منعت الفرقة من السفر. حدث كل هذا، بل أكثر منه وهو أن البلدية أرادت قتل حفلات الفرقة فاشترت من المتعهد الحفلات كلها بسعر مرتفع لتتمكن من قتلها وبسعر 850 ألف فرنك للحفلة الواحدة، في حين أنها اشترتها منه في العام الماضي بمبلغ 650 ألف فرنك. ورفعت سعر تذكرة الدرجة الأولى إلى 860 فرنكاً وكانت نتيجة كل هذا أن الفرقة المصرية لمست بعد وصولها إلى تونس جواً قاتماً لا يبشر بالخير وموقفاً عدائياً منقطع النظير. وتوجه أفراد الفرقة إلى الفندق الذي اختاروه لأنفسهم فامتلأ الفندق بالجواسيس ورجال البوليس السري ورُقبت الزيارات والتليفونات وحركات الممثلين والممثلات وخروجهم في الطرقات وفي المحلات العامة. فأخذوا يتساءلون عن أسباب كل هذه الأمور الغريبة والجديدة عليهم فقيل لهم إن فرنسا لا تريد أن يجتمع المصريون بأي تونسي أو بأية هيئة تونسية في اجتماعات تثار فيها الخطب الوطنية والأقوال الحماسية كما حدث في اجتماعات أعضاء نقابة الصحفيين. وحان موعد الحفلات التمثيلية وشعر أفراد الفرقة وهم على المسرح أن عدد المتفرجين لا يزيد عن أربعين شخصاً، فسألوا المتعهد عن هذا الوضع العجيب فكان رده أنه باع الحفلات لبلدية تونس، والبلدية هي المسئولة عن هذا! وبحث يوسف وهبي الأمر، فتبين له أن الموظفين الفرنسيين في البلدية أوعزوا إلى إدارة المسرح التي ستقدم فيه الفرقة المصرية رواياتها بأن يقبل أقلّ عدد ممكن من المتفرجين وأن يقال لكل راغب في شراء تذكرة أن التذاكر نفذت. في الوقت نفسه وصل إلى كبار التونسيين بل لكل محب لمصر والمصريين خطابات يهددهم فيها مرسلوها بالقتل هم وعائلاتهم إذا حضروا لمشاهدة حفلات الفرقة. كل هذا حدث أمام مسمع الصحافة التونسية التي كبرت وهللت لبعثة الصحافة المصرية وموقف أعضائها ولكنها وقفت ساكنة أمام هذه المواقف المؤلمة التي سببتها سياسة الاحتلال في تونس.
ويختتم «سعد الكفراوي» موضوعه بسؤال، قال فيه: «والآن ما هو موقف لجنة ترقية التمثيل العربي التي يرأسها معالي وزير الخارجية المصرية مما وقع لهذه الفرقة في رحلتها في تونس، وعلى يد رجال الحكومة الفرنسية، الذين لم يراعوا أبسط قواعد المجاملة والتقدير الفني لأفراد فرقة تمثل وتتحدث باسم مصر؟! وهل سترد مصر على هذا إذا ما وفدت إلى مصر فرقة فرنسية؟ أخشى أن أقول إننا سنرحب بكل فرقة فرنسية كما يحدث كل عام!».

توثيق المؤامرة
بعد عودة الفرقة من رحلتها، نشر مديرها «يوسف وهبي» مقالة في مجلة «الفن»، وثق بها بعض المعلومات السابقة، مع الإشارة إلى عراقيل الاستعمار الفرنسي – دون التصريح بالتفاصيل وبصورة دبلوماسية - قائلاً: «تقوم الفرق التمثيلية الكبرى بمختلف الدول برحلات فنية تقدم فيها ألواناً من مسرحياتها كي يقف أهل البلاد التي تزورها على الجهود الفنية والتطورات المسرحية، وتعلق الأمم الكبرى أعظم أهمية على نجاح هذه الرحلات في البلاد التي تزورها وتهيئ لها كل ما يضمن نجاحها الفني والأدبي، ولا شك أن الجمهور المصري يعرف كيف نقابل نحن في مصر الفرق الأجنبية التي تقدم لنا روائع فنها على مسرح دار الأوبرا الملكية ويعرف قيمة الإعانات المالية السخية التي تهبها الحكومة المصرية لتلك الفرق تشجيعاً لها على الحضور إلى حد أن موسم الأوبرا الملكية عندنا هو الموسم الرسمي لنشاط هيئات اجتماعية وأهل الطبقة الراقية، وقد تختلف الطريقة في تقديم الإعانات، فإن الحكومة المصرية مبالغة منها في تكريم هذه الفرق لا تحدد مع متعهديها سعر تذاكر الدخول ولا تسأله عن إيراداته وما إذا كان قد استفاد أو لم يستفد، فالإعانة تغطي كل الخسائر، ولكن هذه الطريقة لا تجبر المتعهد على تخفيض سعر تذاكر الدخول بحيث تهيئ للنظارة فرصة الاستمتاع بحضور مسرحيات بسعر مناسب، فالمفروض عادة في منح الإعانات التي تؤخذ من الضرائب التي يدفعها الجمهور أن هدفها الأول هو جعل أسعار التذاكر في متناول الطبقات غير القادرة، وهذا ما تتبعه حكومات شمال أفريقيا، بل وتذهب إلى أبعد من هذا، فإن بلديتها تشتري الحفلات من المتعهد وتدفع ثمنها على أن تخفض سعر التذاكر تخفيضاً كبيراً بحيث أن المسرح إذا كان ممتلئاً إلى آخره، فإيراد الليلة لا يزيد عن نصف ما تدفعه البلدية ثمناً لكل حفلة، أي أنها تخسر في كل حفلة حوالي 400 جنيه إذا كان إيراد الحفلة 800 جنيه، فهي تجعل سعر التذكرة في الدرجة الأولى 50 قرشاً فقط، ولو تركت الأمر للمتعهد لاستغل الظروف ورفع السعر كما يحلو له، وعلى هذا الأساس سافرنا في العام الماضي وسافرنا هذا العام أيضاً في رحلة قصيرة إلى تونس بعد مخابرات عديدة اشترطت فيها البلدية أن أتولى شرف رئاسة الفرقة. ويفهم من هذا إننا قد سافرنا ونحن على يقين من أن حكومات تلك البلاد ستهيئ لنا الجو المناسب، ولكن – وهنا يجب أن أكون حريصاً كل الحرص، بحيث لا يفهم كلامي على غير معناه – أقول ولكن حدث هذا العام أن انقسمت اللجنة التي تستحضر الفرق في تونس إلى قسمين. القسم الأول اختص بإحضار الفرق الفرنسية ولها النصيب الأكبر من الإعانة، والقسم الثاني اختص بإحضار الفرق المصرية وهذا القسم ينال القسط الأصغر من الإعانات، ولكن برغم هذا الانقسام فلا تزال الإدارة مشتركة في هذه الليالي بحيث يطغى القسم الأول على اختصاصات القسم الثاني، ولم يرق هذا الانقسام لذوي الأمر هناك إذ نظروا إليه نظرة أسف، فقد شاءوا أن تكون هذه اللجنة لجنة واحدة فلم يقوموا بدعاية للفرقة المصرية كما حدث في العام الماضي، فلما وصلنا إلى تونس علمنا أن إخواننا التونسيين لا يعرفون حتى موعد حضورنا، ولما كانت الإذاعة خاضعة للإدارة العامة، فلم تقم كما قامت في العام الماضي بإذاعة أنباء الفرقة ولا الدعاية لها مع ملاحظة أن أهم وسائل الدعاية في تلك البلاد هي الدعاية عن طريق الإذاعة، كما أن البلدية وقد أرادت أن تجمع مبلغاً من هذه الحفلات لتهيئ فرصة استحضار فرق أخرى نظراً لضآلة الإعانة المقررة للفرق العربية، فقد رفعت سعر التذكرة إلى 85 قرشاً بدلاً من 50 قرشاً وكان هذا الارتفاع فاحشاً في نظر الجميع، خصوصاً لأن قطر تونس الحبيب يجتاز أزمة وضائقة مالية شديدة لعدم هطول الأمطار هذا العام وهي بلد تعتمد على الزراعة كل الاعتماد، فكانت النتيجة المنطقية لهذا هي عدم امتلاء المسرح في كل ليلة كما حدث في العام الماضي بالرغم من تقدير أعضاء البلدية الكرام لجهودنا وروعة برنامجنا الذي قدمناه في رحلتنا وقد يكون هذا البرنامج بدون مبالغة هو أقوى برنامج قدمته في حياتي المسرحية، وأستطيع أن أدلي بأشياء أخرى أو أشرح بعض العراقيل التي قد يكون لموقف مصر المؤازر لمراكش الدافع الأول لهما، وفي إمكاني أن أشرح أموراً أخرى حدثت خلال هذه الرحلة، وأريد أن أفسرها بأنها خلاف في الرأي بين اللجنتين في تونس وخلاف في الرأي مرة أخرى بين بلدية تونس وأهلها، ولكن الواقع أن هذا قد يساء فهمه، واحتفظ به لأقدمه لرئيس اللجنة العليا الذي يهيمن على شئوننا وقد يكون له رأي آخر ولكن ما أريد أن أقرره هنا هو أن عشرات العراقيل وضعت في طريق الفرقة المصرية هذا العام، أما إذا أردت أن أتحدث عن جماهير تونس فسأظل دائماً أبداً معترفاً بفضلهم وحبهم لنا ولمصر وترحيبهم بكل عربي وكرم أخلاقهم وقوة تلك الرابطة التي تربطنا بهم وقد كنا خلال الرحلة تحت رعاية وعطف مليكهم العظيم الذي صرح لي بتصريحات هامة عن الأفلام المصرية. ويجب أن أقرر أن بلدية تونس رغم خسارتها في هذه الحفلات فقد قررت شراء خمس حفلات أخرى وفي هذا الدليل القاطع على نبيل مقصد أعضاء البلدية وتكريمهم لنا وتقديرهم المشكور لفننا جزاهم الله كل خير.


سيد علي إسماعيل