أول مشروع للترجمة المسرحية في مصر

أول مشروع للترجمة المسرحية في مصر

العدد 573 صدر بتاريخ 20أغسطس2018

المسرح فن غربي وافد إلينا، مما يعني أن ارتباطه بالترجمة، كان ارتباطاً قوياً. وهذه الحقيقة التاريخية لا تحتاج منّا إلى تأكيد أو إثبات، وهذا ليس هدفي من هذه المقالة، بل هدفي هو اكتشاف أول اهتمام حكومي في مصر بترجمة المسرحيات!! وكانت لي تجربة سابقة في هذا الأمر، عندما حددت هذا الاهتمام في السلاسل المسرحية المترجمة في مصر، عندما شاركت ببحث تحت عنوان (الإصدارات المسرحية العربية والمترجمة – نظرة نقدية) في الندوة الدولية الثالثة ضمن مشروع الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية، تحت عنوان (نقد المسرح العربي – رؤية مستقبلية)، التي أقامتها الهيئة العربية للمسرح بالشارقة عام 2011.

وفي هذا البحث، تحدثت عن سلسلة (من أدب المسرح)، التي أصدرتها مكتبة الأنجلو؛ بوصفها أول سلسلة متخصصة في إصدار المسرحيات المُترجمة من عام 1957، إلى عام 1967. ثم تحدثت عن سلسلة (مكتبة الفنون الدرامية)، التي أصدرتها مكتبة مصر بالفجالة - بإشراف عبد الحليم البشلاوي - من عام 1958 إلى 1964. ثم تحدثت عن سلسلة (روائع المسرح العالمي)، التي أصدرتها وزارة الثقافة والإرشاد القومي في ثمانين كتاباً من عام 1959 وحتى 1966. وأخيراً تحدثت عن سلسلة (مسرحيات عالمية)، التي استمرت في الظهور من عام 1965 إلى عام 1972، وصدرت في أربعة وستين كتاباً.
هذه هي سلاسل المسرحيات المترجمة، التي لاقت اهتماماً حكومياً – مباشراً أو غير مباشر – منذ عام 1957، مما يعني أن ترجمة المسرحيات منذ ظهور المسرح في مصر وحتى عام 1957، كانت جهوداً فردية .. هكذا كنت أظن!! ولكن مع البحث والتنقيب، وجدت في عام 1930، اهتماماً حكومياً – غير مسبوق – بترجمة النصوص المسرحية، وهذا الاهتمام (ربما) لم تفكر فيه الحكومات المتعاقبة حتى الآن!! وربما عندما نقرأ ما دار حول هذا الاهتمام الحكومي، نتحمس ونطبقه في أيامنا هذا مع تطويره بالصورة المناسبة، لدفع المسرح في مصر إلى الأمام!!
قصة هذا الاهتمام، بدأت عام 1929، عندما قررت الحكومة المصرية الاهتمام بالمسرح، في محاولة لإيجاد مسرح مصري شكلاً ومضموناً من خلال تأليف مسرحيات مصرية من صميم المجتمع المصري؛ بحيث لا تكون مترجمة أو معربة أو مقتبسة من أي نص مسرحي أجنبي. وأقامت مسابقة ذات جوائز كبرى من أجل تحقيق هذا الغرض. وبكل أسف فشلت التجربة فشلاً ذريعاً – وسأكتب عنها مقالة مستقبلاً – مما أدى إلى إعادة التفكير مرة أخرى؛ فقدمت إدارة الفنون الجميلة بالحكومة مذكرة، نشرتها جريدة (الاتحاد) في الشهور الأولى من عام 1930، تحت عنوان (مذكرة عن المسرح المصري والعناية به مرفوعة من إدارة الفنون الجميلة بوزارة المعارف إلى اللجنة العامة للفنون الجميلة)، جاء فيها الآتي:
“ إن الأدب والبلاغة والتأليف ضروب من الثقافة، لا توجد حيث تنشد، ولا يظفر بها بمباراة أو مكافأة، وإنما هي وليدة الثقافة العامة، ونتاج التعليم الراقي. ولهذا نرى المسرح المصري لا تزال تعوزه الروايات المسرحية الأهلية، رغم المباراة التي أقيمت في العام الماضي. ورغم المكافآت التي وزعتها وزارة المعارف من المبالغ المخصصة لهذا الشأن. ونحن نرقب بالأمل العظيم أن يكثر مؤلفونا المسرحيون، وأن تصبح الروايات المصرية، التي تمثل على مسارح القاهرة من أحسن ما يمكن أن يخرجه الأدب العربي. ولكن يجدر بنا ونحن في انتظار هذه الغاية المرجوة، أن تمهد المسارح وهواة التمثيل طرائق الاطلاع على مجموعات الروايات الأجنبية، بتشكيل لجنة من أدباء مختصين في الآداب الغربية الألمانية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية والإسكندنافية والروسية، يفوض إليها وضع جدول بأسماء نفائس الروايات، التي تراها جديرة بأن تترجم، أو أن يُقتبس منها، مراعية في اختيار الحياة المصرية، والذوق المصري فارقة، بين ما يمكن تمثيله في المدارس، أو في الحفلات الإدارية، وبين الروايات التي تعرض على الجمهور. وكذلك تترك لهذه اللجنة أن تضع في كل عام بياناً عن الروايات ذوات الروعة الأدبية، التي ظهرت على المسارح الأجنبية في العام الذي سبقه. ثم تبذل الوزارة منحتها التي تُعين بها التمثيل للفرق، التي تمثل الروايات المبينة في هذه الجداول، وتتولى إمدادها بالإرشادات اللازمة لإخراج الروايات وإبراز مناظرها”.
هذه المذكرة الرسمية، لاقت استحسان وزير المعارف العمومية بهي الدين بركات، فأصدر قراراً بشأنها، نشرته جريدة (كوكب الشرق) في مايو 1930، وعلمنا منها أن القرار اشتمل على تأليف لجنة للتمثيل العربي، تكونت من: “ أحمد شوقي بك عضو مجلس الشيوخ رئيساً، والمسيو كاريه، والمستر سترلنج الأستاذين بكلية الآداب بالجامعة المصرية، وعباس العقاد أفندي، ومحمد توفيق دياب أفندي عضوي مجلس النواب، وخليل مطران بك، وجورج أبيض أفندي، وزكي طليمات أفندي أعضاء .... ومهمة اللجنة: أولاً، وضع بيان بأسماء الروايات الأجنبية التي يُحسن تعريبها أو اقتباسها للتمثيل في المسارح المصرية. ثانياً، بحث الروايات التي تقدم للوزارة لغرض تمثيلها في المسارح سواء أكانت معربة أم مقتبسة أم موضوعة”.
هذه اللجنة بزخم أسماء أعضائها، لاقت ترحيباً كبيراً، وتفاءل الجميع بها وبنتائج أعمالها. وسأتوقف عند جريدة (الوادي)، التي نشرت مقالة مهمة للغاية حول هذا الأمر، أبانت فيها أهمية موضوع الترجمة المسرحية، وشرحت الهدف منه، وحذرت من عيوبه، وحددت للقائمين عليه إيجابياته وسلبياته. ومن يقرأ هذه المقالة، يشعر إنها مكتوبة الآن من قبل المتخصصين في الترجمة؛ حيث شملت كل ما يُمكن أن يُقال حول الترجمة وأهميتها!! لذلك سأنشر أغلبها هنا من أجل إفادة الباحثين والمتخصصين في مجال الترجمة.
قالت جريدة (الوادي) في نوفمبر 1930، تحت عنوان (حسنة محمودة لوزارة المعارف لتشجيع المعربين المسرحيين): “ أذاعت وزارة المعارف العمومية فيما أذاعته من أنباء أمس، إنها قررت اعتماد مبلغ ثمانمائة من الجنيهات المصرية، تصرف إعانة أو مكافأة للمعربين، الذين يُخرجون إلى المسرح المصري خير آثار المؤلفين الغربيين، بعد وقوفها من حرصهم على الأصل، وعنايتهم بالتعريب. وهذه حسنة لا يمكن أن نقابلها إلا بالشكر، وخطوة ضعيفة محمودة في سبيل تشجيع فن التمثيل. فقد أصبح التعريب في فوضى، دونها فوضى التمثيل والتأليف، وقد أصبح كل إنسان يعرف قليلاً من الفرنسية أو الإنجليزية، وقد لا يجيد في الغالب كتابتها أو قراءتها، يتعرض لخير آثار الفرنسيين أو الإنجليز المسرحية، فيخرجها لنا على المسرح المصري بعد أن يتجاوز فيها الأصل بمراحل. وقد يدخل عليها من التغيير والتبديل ما يشوه جمالها، ويمنع جلالها، لا لأنه واثق من الأصل أو عالم به، ولكن لأن معلوماته في اللغة الأجنبية التي وضعت بها الرواية معلومات سطحية لا تؤهله لترجمة مقالة منها، فما بالك برواية بأسرها. وقد يعمد البعض إلى اقتطاع مشاهد ومناظر بأكملها، لأنهم لم يفهموا المقصود من وضعها، وغاب عن فطنتهم السر في بقائها في الرواية. وربما كانت من الأسس والدعائم التي قام عليها صلب الرواية، وجوهر موضوعها. ونحن نعرف أن بعض المبرزين المعروفين بالتعريب يلجأون إلى حذف محاورات بأكملها، فإذا جادلتهم في ذلك أجابوك: إنها مملة، أو إنها خروج من المؤلف عن جوهر الموضوع، أو أن الاستعدادات المسرحية في مصر لا تسمح بإخراجها، وهكذا ينتعلون الأعذار الواهية السخيفة. والحقيقة والواقع إنه ليس من عذر سوى جهلهم وسخفهم، واعتدائهم على الآثار الطيبة، يخرجون منها كل قبيح فاتر. هذا إلى أن كثيراً منهم يجهلون العربية، حتى العبارات السهلة السليمة، ولا يعرفون من قواعد النحو والصرف إلا ما يعرفه طلبة المدارس الابتدائية، فيحشرون في رواياتهم من العبارات العامية، والكلمات المرذولة، ما لا وجود لها في العربية، بل ما تبرأ منه تلك اللغة الفصحى براءة تامة. ولقد شاهدت بعض هؤلاء المعربين يجلسون على المقاهي بين صخب المارة، وضوضاء الشوارع، وفي أيديهم النسخ الإفرنجية، وهم يعربون تعريباً حرفياً لا تكاد تفهم من الجملة بعض المعنى الذي ترمي إليه. والواقع أن فساد التعريب يفسد في الأمة ذوق العربية، فإن النشء الصغار الذين لا يزالون في أدوار التعليم الأولى ولما تستقيم بعد ألسنتهم، ينطقون من أفواه الممثلين بعض ما يضعه هؤلاء الجهلة من عبارات، ثم يتحدثون بها، ولا يمكن بعد ذلك أن تجدي في الطلبة نصح أستاذ أو إرشاد معلم. ولعل من أقوى أسباب هذه الفوضى بين المصريين وخلو هذا القسم الفني من أقسام التمثيل من الأكفاء المبرزين إلا ما ندر منهم، يرجع إلى أن الفرقة التمثيلية لا تدفع لهؤلاء المعربين الأجور، التي تتناسب مع مجهوداتهم، وقد يراوغهم البعض في الأجر مراوغة تحمل على الزهد في العمل. وقد كانت النتيجة الطبيعية لذلك أن اختفى بعض من المعربين ممن يوثق برواياتهم وتعريبهم، ومن يمكن أن يقال إنهم متمكنون في اللغتين العربية واللغة المعربة عنها الرواية. وإذا اضطر الحاجة أحد هؤلاء الأكفاء إلى العمل مع قلة الأجر الذي يتناوله عن هذا التعريب، كان في عمله متكلفاً وكان كل همه أن ينتهي من الرواية بأسرع ما يمكن، حتى يتفرغ لسواها. وبدلاً من أن يعرب الرواية في شهر مع شيء من الاتقان والعناية والبحث، نجده ينتهي منها في عشرة أيام، ويكون معدل الروايات التي يترجمها في الشهر الواحد ثلاث. حتى يكون الأجر الذي يتناوله عن الروايات الثلاث مبلغاً يكفيه الحاجة طول هذه المدة. هذه العوامل كلها قد أفضت كما قدمنا بالتقريب إلى فوضى ليس وراءها فوضى، حتى أصبح الجمهور كارهاً للروايات المصرية، وأنا أراهن جماعة المتأدبين لو استطاعوا أن يخرجوا لنا بين هذا العدد الكبير من الروايات المسرحية المصرية التي تقارب الألف عشرين واحدة منها يمكن أن يقال عنها إنها مطابقة للأصل أو صحيحة اللغة. وإذا كانت وزارة المعارف قد فطنت إلى هذه الحقيقة، وقدرت أن التعريب قسم لا غنى لفن التمثيل عنه وخصوصاً ونحن لا نزال في فجر النهضة الفنية وفي حاجة إلى أن تعتمد بعض الاعتمادات على ثمرات قرائح الفرنجة، فهي قد مدت بذلك يداً بيضاء لفن التمثيل لا يمكن أن تقابل من الكتاب المسرحيين جميعاً إلا بالشكر والتقدير”.
مرّ عام على المشروع، وبدأت نتائجه في الظهور؛ حيث أخبرتنا الصحف في نهاية عام 1931، بأن وزارة المعارف العمومية استلمت بالفعل ترجمة نموذجية لتسع مسرحيات من عيون الأدب الأوروبي، وقد أقرّت ترجمتها لجان المراجعة؛ ولكن الوزارة وجدت أن هذا العدد غير كاف لمشروعها المسرحي، فكلفت آخرين بترجمة أربع مسرحيات أخرى، والمكلفون هم: خليل مطران، والدكتور طه حسين، وأحمد الصاوي محمد، وإبراهيم رمزي، وقد سلموا أعمالهم بالفعل عدا واحد – هو الدكتور طه حسين - وأصدر الوزير قراراً بتشكيل لجنة لمراجعة ترجمة المسرحيات، تكونت من - كما قالت مجلة (الصباح) - : “ أحمد فهمي العمروسي بك ناظر مدرسة المعلمين العليا، وعلي الجارم أفندي المفتش بالوزارة، وعلي عبد الواحد أفندي المدرس بمدرسة دار العلوم لمراجعة الروايات الفرنسية. وحضرات محمد فهيم بك المفتش بالوزارة، وعلي الجارم أفندي، ومحمد مظهر سيد أفندي المدرس بمعهد التربية لمراجعة الروايات الإنكليزية”.
وبعد ستة أشهر، اكتمل المشروع، وأصبح لدى الوزارة مجموعة لا بأس بها من المسرحيات المترجمة ترجمة نموذجية من قبل أعلام الترجمة في ذلك الوقت .. ولم يبق سوى الحديث عن أسلوب تحقيق هدف المشروع .. ماذا تريد أن تفعل الوزارة بهذه المسرحيات المترجمة، خدمة للمسرح المصري؟ هذا السؤال، أجابت عليه جريدة (المقطم) في مايو 1932، قائلة تحت عنوان (الروايات المسرحية النموذجية): “ يذكر القراء إن وزارة المعارف اختارت طائفة من الروايات الفرنسوية والإنكليزية، وعهدت إلى بعض كبار الكُتاب بنقلها إلى اللغة العربية عن طريق الترجمة النموذجية، وذلك بقصد تشجيع التمثيل العربي برفع مستوى الرواية التي تُمثل على المسارح، سواء من الوجهة الفنية، أو اللغوية، أو من وجهة سمو الموضوع الذي تتناوله الرواية. وقد ترجم عدد كبير من هذه الروايات مما حمل الوزارة على التفكير في ضرورة الاستفادة منها في الأغراض، التي دعت إلى ترجمتها. وأعد حضرة الأستاذ محمد العشماوي بك السكرتير العام مذكرة تتضمن الاقتراحات التي تحقق هذه الأغراض، وقدمها إلى معالي الوزير، فوافق على ما يأتي. أولاً: أن تتولى إدارة المخازن طبع عدد من هذه الروايات، يكفي لتوزيعه على المدارس الثانوية، وما في مستواها من المدارس، التي فيها فرق تمثيلية، ولمن يرغب في اقتنائها من الجمهور. ثانياً: إهداء نسخة من كل رواية لكل فرقة تشتغل بالتمثيل الجدي. ثالثاً: صرف 40 نسخة من كل رواية لكل مدرسة ثانوية للبنين أو البنات لتودع مكتباتها. رابعاً: إبلاغ الفرق التي تريد منحها إعانة أن يجب عليها إخراج روايتين من تلك الروايات على الأقل في الموسم القادم، بحيث لا تشترك فرقتان في إخراج رواية واحدة في الموسم الواحد”.
السؤال الآن: أين نحن الآن من هذا التفكير، الذي تم عام 1930؟ أين نحن من هذا التنفيذ العلمي والعملي لمشروع حكومي خاص بالترجمة من أجل دعم المسرح المصري، والمسرح المدرسي، وإثراء المكتبات المدرسية والعامة بعيون المسرحيات الأجنبية المترجمة؟! .. هل من إجابة؟!!


سيد علي إسماعيل