أم العواجز.. أم عجز المخرج والمؤلف؟

أم العواجز..  أم عجز المخرج والمؤلف؟

العدد 737 صدر بتاريخ 11أكتوبر2021

يقيم «علي عثمان» مؤلف مسرحية «أم العواجز» أحداث مسرحيته في فضاء أمام مقام المسجد الزينبي، وهو ما يتيح له استدعاء الشخصيات الفاعلة والمجسدة للحدث المسرحي، حيث الزوار لا ينقطعون عن زيارة «السيدة زينب» طوال اليوم لمكانتها الخاصة لدى الشعب المصري. وهي الملقبة بكثير من الألقاب منها السيدة، الطاهرة، أم المصائب (لمعاصرتها مقتل والدها الإمام علي بن أبي طالب، وأخويها الحسن والحسين، وبعض أبنائها، وبعض أبناء شقيقيها أيضا) وأم العواجز، وستنا، والرئيسة، وغير ذلك من ألقاب، حيث لا ينقطع زوارها طوال العام من طالبي البركة والوساطة لقضاء الحاجات، ومن ثم يمكن أن تلعب المصادفة الممنطقة -نوعا ما- دورا في أن تتجمع الشخصيات المشكلة لأحداث عرض «أم العواجز» الذي أخرجه «عدلي صالح» لفرقة بيت ثقافة «أرمنت بالأقصر».. رجال ونساء منهن من جاءت طالبة الحمل حتى لا يطلقها زوجها، ومن جاء طلبا لشفاء ابنته/ ابنه، ومن جاء لطلب الوفاق مع زوجته ونيل رضاها.. إلخ، ومع هؤلاء جاءت «الفتاة» التي جعلها المؤلف مزيجا بين «شفيقة، بهية، نعيمة، ناعسة» يمزج المؤلف بين تلك الشخصيات التي يختزنها الوجدان الجمعي الشعبي، وكذلك فعل مع «الشاب» الذي جعله «متولي» الذي قتل شقيقته «شفيقة» كما في الحكاية الشعبية المنتسبة إليهما «شفيقة ومتولي» وإن كانت الفتاة تناديه طوال الوقت على أنه «ياسين» زوجها الذي قتله الباشا (على الرغم من عدم زواجهما في الواقع أو المعالجات الفنية التي نسجت عنهما) بينما هو يناديها بـ»شفيقة»، وكذلك هو «أبو زيد الهلالي» من وجهة نظر بعض الحضور (الجمهور الداخلي)، إذن أراد المؤلف أن يجمع بين تلك الشخصيات النسائية «شفيقة، بهية، نعيمة، ناعسة أيضا» ليصدرها للمتلقي كأنموذج واحد، على الرغم من الفروق الخاصة بكل شخصية في حكايتها الشعبية المعروفة بها، وكذلك الملابسات التي وجدت فيها، ومن ثم الأثر الذي تركته في الوجدان الجمعي العربي والمصري سواء بالإدانة أو التعاطف أو حتى الحيادية، حسب الحكاية، فمثلا هناك من يدين «شفيقة» لالتحاقها ببيت للدعارة بعد هربها من قريتها، ومن ثم يرى في قتل شقيقها لها عقابا تستحقه وفقا للمنظومة الاجتماعية التي خرقتها. أما «بهية» فهي الفتاة التي حاول الباشا الذي كانت تعمل في قصره أن ينالها جسديا، ولكنها قاومت ولم تستسلم، واقتص لها «ياسين» ابن عمها، وقد دفع الثمن حين اغتاله رجال الهجانة الذين استدعاهم الباشا إلى القرية كما هو معروف في الحكاية الشعبية التي نعرفها جميعا، ومن هنا لم يدنها الوجدان الجمعي الشعبي بل تعاطف معها لمقاومتها وعدم استسلامها للباشا، وكذلك حرمانها من ابن عمها الذي غدرته قوات الهجانة. أما «نعيمة» التي وقعت في عشق «حسن المغنواتي» فقد احتفظ لها الوجدان الشعبي بالتعاطف لأنها لم تتجاوز العرف الاجتماعي بوقوعها في عشق المغنواتي، الذي غدر به رجال أسرتها. أما «ناعسة» فقد ارتبطت ليس بالوجدان المصري فقط بل بالوجدان الإسلامي أيضا كزوجة نبي ابتلاه ربه بزوال الصحة والمال ليختبر عزمه على الصبر وقوة احتماله النفسي للبلاء، وقد رسم لها الخيال الجمعي (المصري على وجه الخصوص) صورة الزوجة التي تحملت زوجها في تلك الشدة وأخذت على عاتقها تدبير ما يقيم أودهما إلى درجة بيع شعرها مقابل كسرات خبز، وحمل «أيوب» على ظهرها والتنقل به بين البلاد في رحلة طويلة امتدت طوال سنوات الابتلاء. ووفقا لكل ذلك، فإنه لا يمكن وضع تلك النماذج الإنسانية النسائية في سلة واحدة سواء في واقعها أو فيما نسجه حولها الخيال الشعبي، فلكل منهن بناء إنساني وتجربة إنسانية مختلفة، وكذلك لموقعها المختلف في الوجدان الشعبي وفقا لحقيقة واقعها الممزوجة بما رسمه لها الخيال الشعبي، والشيء نفسه ينطبق على الشخصيات الرجالية «حسن، متولي، ياسين، أبو زيد الهلالي»؛ إذ إن «حسن» لم يقترف إثما بحبه لنعيمة، بل نال التعاطف لوقوف أهلها ضد هذا الحب، والنظرة العنصرية المشوبة بالتدني تجاه مهنة الغناء. أما «ياسين» فيعد بطلا شعبيا ثار على الباشا الذي حاول الاعتداء على العرض، والأرض أيضا، ومن ثم حظي بالتعاطف والتبجيل الشعبي وعُدّ واحدا من الأبطال الشعبيين (دافع عن الأرض والعرض) وعاش في الذاكرة الجمعية بعد مقتله وحتى اليوم. أما «متولى» وإن لم يحقق بطولة جمعية، إلا أنه ارتبط بالصورة الذهنية للرجل الذي انتصر لشرفه الشخصي بقتله لشقيقته التي باعت جسدها، وخرجت عن المنظومة الاجتماعية التي تُعلي من قيمة شرف المرأة سيما في المجتمع الصعيدي، ويختلف موقع «أبو زيد» حال كونه ارتبط اسمه بتلك البطولات الحربية وقدرته الفائقة على استخدام السيف في معارك القبيلة مع القبائل الأخرى، أو في حربها مع أهل «تونس» فخلع عليه الخيال والوجدان العربي صورة المخلص القوي القادر على تحقيق النصر الدائم. ولكل هذا، لا يمكن وضع كل تلك النماذج الرجالية فى سلة واحدة أيضا أو الجمع بينها على النحو الذي أورده «علي عثمان» في مسرحيته «أم العواجز» وإصرار المؤلف على المزج بين الشخصيات المشار إليها نسائية كانت أو رجالية، يؤكد افتقاده لرؤية تعكس سياقا يربط بين تلك الشخصيات التي كثفها في شخصية واحدة تستولد منها الشخصيات الأخرى المختلفة كلية عنها على المستويين الواقعي أو الخيالي المنسوج حولها بفعل الخيال الشعبي الباحث عن بطولات يفتقدها في الواقع فيحيلها على شخصيات رمزية حفظتها الذاكرة عبر المروى عنها في الحكاية أو الموال أو السيرة أو غير ذلك من فنون الأداء الشعبي.. ولهذا الخلط المشار إليه كان التساؤل المطروح لنا كمتلقين لعرض «أم العواجز» حول ما أراده المؤلف طرحه في هذا النص؟ الذي لم نجد إجابة له سوى مجموعة التلفيقات غير المستندة إلى ما يكسبها منطقا أو رؤية مطروحة حاولنا البحث عنها طوال مشاهدة العرض الذي ضاعت فيه هباء كل جهود كاتب النص ومحاولاته خلق مشاهد تتسم بالحوار الجيد، وخلق صراعات ساخنة بين بعض أطراف نصه لأن ما بني على باطل درامي لا يأتي إلا بنتائج باطلة أو وهمية لا توجد إلا في خيال المؤلف دون قدرته على طرحها بشكل متبلور في النص، وتبني مخرج العرض هذا الخيال المشوش، والمرتبك دون فطنة إلى ما يكتنف النص من مشاكل تجعله لا يرقى إلى المجازفة بتجسيده في عرض على خشبة المسرح، ضاعت معه كل الجهود المبذولة من أعضاء فرقة «أرمنت» المسرحية، دون أن تُجدي شيئا رغم تميز أداء «نشوى مرجان» في دور «الفتاة» الملتاعة خوفا من انتقام الباشا من زوجها، ومحاولتها نفي أنها «شفيقة» وأنها زوجة للشاب «هيثم الجعفري» الذي تعايش في أدائه لدور «متولي» العائد ليكفر عن جرمه بقتل شقيقته، ورغبته في الانتقام ممن غرر بها مما جعله يبدو متوترا طوال الوقت، ورقيقا للغاية في اللحظات التي تجمعه بشقيقته التي أصبح متعاطفا معها معترفا بجرمه الذي اقترفه بقتله لها، وكذلك الأداء المميز والناضج لدى «عبدالرحمن عبده» الذي عكس بأدائه لشخصية «الدرويش» اللاعب الأساسي بكل الشخصيات والوحيد الذي يحول كل الوقائع حتى المتناقض منها لصالحه وبشكل رصين ومتوازن طوال الوقت آكلا على كل الموائد، وحاصلا على الأموال من الباشا، والحاج (والد نعيمة) ومن «بهية» يحصل على كردانها الذهبي مقابل إخراجها وزوجها «ياسين» من أمام المقام دون أن ينال من زوجها رجال الباشا، ويسلم «نعيمة» بدم بارد إلى والدها رغم علمه بنيته للانتقام منها لهروبها مع المغنواتي وإن أساء المخرج في جعل شخصية الدرويش ترتدي اللباس المميز لرجال الأزهر لسيء بهذا إلى كل رجال تلك المؤسسة الدينية دون تفرقة مما يؤكد على عدم وعي المخرج بما يفعل. كما ضاعت هباء أيضا كل جهود الشباب «أسماء أبو حجر» في دور الغجرية التي لم تستطع مساحة الدور ولا بناء الشخصية في إبراز ما تمتلكه «أسماء أبو حجر» من مهارات تمثيلية عكسها ظهورها الخاطف على المسرح، وأيضا نضج أداء «حمادة فؤاد» في دور الحاج، وأيضا البراعم المبشرة بكل خير «يوسف سمير، جورج ماضي، علي الجميل، ضياء مؤمن» والطفل «زياد منتصر».
وتلك الجهود التي ضاعت سدى مع هذا العرض المفتقد للهوية والمعنى تجبرنا على طرح عدة أسئلة حول كيفية إجازة مثل هذا النص وضرورة مراجعة اللجان المنوط بها مهمة إجازة النصوص التي تقدم على خشبات مسارح الثقافة الجماهيرية، وكذلك حول دور المكاتب الفنية بالفرق وضرورة تفعيل دورها في اختيار النصوص التي تجسدها الفرقة.
إن مخرج العرض «عدلي صالح» الذي تهاون في اختيار النص الذي يقدمه مع فرقة «أرمنت» تهاون كذلك مع التناقض بين طرحه لثورة جموع المتواجدين أمام فضاء مسجد السيدة زينب ومطالبتهم بالاصطفاف ضد ظلم البيه والباشا وما يمثلانه، وبين ختامه للعرض بنفس مشهد البداية حيث الكل في ثبات ويردد ما ردده في البداية من رجاءات ومطالبات للسيدة بالتوسط في قضاء الحاجات التي جاءوا من أجلها للمقام وكأنه مشهد تأكيد لاستمرار الظلم الذي ثاروا ضده في مشهد ما قبل النهاية ونفى ثورتهم ضده، كما تهاون المخرج أيضا في ملابس الدرويش التي جاءت كملابس رجال الأزهر وشتان بين هذا وذاك، وتهاون مع ديكور «زينب سيد» التي لم تستطع تقديم أي بعد جمالي في تكوين منظرها المسرحي وفقر خيالها في التصميم والتنفيذ، ولم يستطع الاستفادة من الأغاني المميزة التي كتبها «خالد الطاهر» ولحنها «محمد حسام حسني» الذي قدم الموسيقى المصاحبة التي جعلتنا نعيش في رحاب السيدة الطاهرة وكانت كالجواهر المزدان بها فستان رديء القماش وضاعت سدى مع جملة ما ضاع من جهود في هذا العرض المتهرئ والمفتقد لرؤية سواء في نصه أو لدى مخرجه الذي أساء اختيار نصه، دون أن يمتلك أو يفطن إلى ما يمكن به إنقاذ ضعف النص وارتباكه ليأتي العرض شديد السوء ولا يشي بوجود مخرج. 


أحمد هاشم