«ونوس» يعود لقوميةالشرقية بملحمة السراب بعد نصف قرن من الغياب

«ونوس» يعود لقوميةالشرقية   بملحمة السراب بعد نصف قرن من الغياب

العدد 869 صدر بتاريخ 22أبريل2024

قدمت فرقة الشرقية القومية للفنون المسرحية رائعة الكاتب السوري الراحل «سعد الله ونوس» ملحمة السراب ضمن إنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة للعام المسرحي الحالي 2024م، وهي من النصوص أواخر مسرحيات ونوس إذ سبقتها رائعته المسرحية الشهيرة «طقوس الإشارات والتحولات» ولذلك نراها أقرب نصوصه إليه وبهذا الإنتاج تعاود فرقة الشرقية المسرحية القومية الاشتغال لونوس بعد نصف قرن من الغياب لأن أول تجاربهم معه كانت عام 1973م بمسرحية (الفيل يا ملك الزمان) من إخراج هناء عبدالفتاح وهو نص مسرحي متعدد اللوحات متشعب الحوارات التي تصب جميعها في قالب واحد منسجم مع ما يتطلبه الإنسان العربي من دراما مسرحية تعكس أحواله وتعبر عما هو فيه وهذا الأسلوب في المعالجة والكتابة يميز نصوص ونوس متعددة الصور كثيرة الشخصيات الأمر الذي يجمل إيقاع العرض ويجعله عرضا مميزا ممتعا فأنت لا تكاد تستمتع بمونولوج حتي يقفز أمام عينيك ديالوج أو مشهد جماعي في موضوعات قد تبدو مختلفة أو بعيدة لكنها تصب جميعا في محيط واحد يناجي التراث ويسرد الموروث متحيزا لقضية واحدة هي قضية الإنسان العربي ملك المتناقضات الذي في ظاهر الأمر يبدو خشنا صلبا إلي حد الموت لكنه في الحقيقة في داخله هش يتنازل عن كل شيء عند أقرب أزمة حقيقية وعرض ملحمة السراب بلوحاته الدرامية تتلاقي خيوطه كي تؤكد للمتلقي مهما تنوعت ثقافته أنه مطالب بالمرونة والتوسط وعدم التعصب لأن الاعتدال يحد من حدة التحولات.
 وتجري أحداث ملحمة السراب في إطار شعبي يناقش قضايا إنسانية بطريقة ملحمية متوسلا بالمنهج البريختي الذي تعهده (سعد الله ونوس) بالعناية والتعريب حتي صار أسلوب ومنهج، ولم يترك ونوس في هذه المسرحية ثغرة تخل بالدراما أو يتخللنا منها ملل كما أبدع في اختيار شخصياته من الموروث ليعرضها بملابس مصرية معاصرة سرعان ما تخضع للتحولات.
عرضت المسرحية التي أخرجها لفرقة الشرقية القومية الشاب الطموح (محمود وعمران) في إطار مجرد غير محدد الزمان ليبدو الأمر وكأن الأحداث المسرحية تجري هنا والآن وذلك من حيث الديكور التجريدي ثابت البناء متغير المناظر والألوان من تصميم وتنفيذ “محمد غانم” الذي وضعه بحيث تتغير مخرجاته بتغير مصادر وألوان الإضاءة التي تأتي من مصادر غير معلومة في أغلب الأوقات لتحاور النص الدرامي مرة بالمعارضة وأخري بالاتفاق والتأكيد مما يفسر أحياناً ما ينطق به النص حتي أنه في واحدة من هذه الحوارات جعل صورة الأب والأم في خلفية مشهد حوار فردي للأبنة الصغيرة «رباب» الذي جسدته ببراة شديدة (سهر عثمان) والتي من أهم خطوط العرض مناقشة أمر مستقبلها مع الغاوي مندوب الشر الذي قام بتشخيصه بعبقرية أقدم أعضاء الفرقة (حسام محي) والذي يحالف الشيطان «أنس عساف» في المسرحية التي تناصت بشكل جزئي مع فاوست الذي باع نفسه للشيطان وقد تصدي لهذا العرض الممتع نخبة من شباب فرقة الشرقية القومية الواعد الذين اجتهدوا علي قدر طاقتهم وبقدر قدرتهم في محاولة لتقديم إضافة إلي سجل الفرقة الكبيرة التي تعتبر أحد أقدم فرق المسرح الإقليمي في مصر ومنهم “محمود جمال” الذي قام بدور الشيخ عباس، و”إيناس مصطفي” التي قامت بدور زاهية، و”سما هلال” في دور كريمة، و”عمر سمير” في دور أديب..
 وتنوعت ملابس العرض بين التقليدي والتجريدي مما أفسح مجال لإعمال الفكر وتأمل ما كان بين مرحلة طبيعية تقليدية لبست فيها الشخصيات التمثيلية ملابس تقليدية لنري العمدة أو كبير المستثمرين أو كبير القرية يرتدي جلباب وعباية تقليدية ويرتدي شيخ القرية ثياباً أزهرية وفي مرحلة معينة تتحول الملابس إلي التجريد لنصبح أمام مسوخ متشابهة خضعت لشهوات المال وتحولت كما أراد لها «الغاوي» إلي دمي يحركها الشيطان وأعوانه.
 شارك أيضا بالتمثيل في هذا العرض نخبه من الفتيان والفتيات المجتهدات «رنا خالد» في دور فضة التي كانت غير متحشمة أول العرض وكانت علي المنادين بالتخلي عن كل شيء في سبيل الثراء السريع والشهوات وكانت كذلك في طليعة المتحولات إلي الرضا والسكون لكن في إطار سلبي متقوقع علي ذاته يحتجب عن الناس، وكان يشاركها المجون “ماركو فؤاد” في دور العشيق الذي انجرف مع التيار. 
قام بتصميم وتنفيذ ديكور هذا العرض (محمد حسن) أما الموسيقي والالحان فقد شارك بها (محمد البرماوي) والتي ترتب عليها بعض الاستعراضات قليلة العدد قصيرة المدة في مناطق بعينها من العرض اسهمت بصورة جيدة في ضبط ايقاع العرض بحيث تمر هذه المسافة الزمنية الطويلة والنادرة في عروض هذه الأيام من دون أدني شعور بالرتابة والملل، والسبب الأوحد والرئيسي في كل ذلك هو اتحاد وتضامن فريق العمل والرغبة في تقديم تجربة هامة وتاريخية بين التجارب المعاصرة لفرقة الشرقية القومية صاحبة الماضي المشرق والتاريخ الفني الإقليمي فهي فرقة  قديمة متعددة الأجيال مرت بالكثير من التحولات ولكنها صامدة علي الدوام ومستمرة في تقديم عروض مسرحية جادة ومميزة مهما أختلف الوقت وتغيرت الأحوال.


محمود كحيلة