«الأرتيست» زينات صدقى تنهض من دولاب الذاكرة لمواجهة قسوة الحياة

«الأرتيست»  زينات صدقى تنهض من دولاب الذاكرة لمواجهة قسوة الحياة

العدد 930 صدر بتاريخ 23يونيو2025

فى عرضه المسرحى شديد التأثير «الأرتيست»، يُحيى المخرج محمد زكى روح الفنانة العظيمة زينات صدقي- على مسرح الهناجر- لا كسيرة تُروى، بل كقضية وجودية تُطرح على الخشبة. وكأن المسرح يعتذر لها ويُعيد إليها ما حرمها إياه زمانها. يتجاوز العرض الشكل إلى الجوهر، منطلقًا بحرية بين الواقع والرمز، التاريخ والمصير الإنسانى، ليخلق تجربة شعورية تعيدنا إلى قلب امرأة أضحكت الأجيال وهى تغرق فى صمتها وتُهزم فى معركتها اليومية من أجل البقاء كإنسانة حرة، رفضت القوالب الجاهزة فدُفعت إلى الهامش.
تنطلق المسرحية من مشهد بسيط دالٍّ: بير سلم، وعلاقة عاطفية بين شاعر مغمور وفتاة تحلم بالتمثيل. لحظة عادية لكنها مشحونة بتوتر الفن المولود فى الظل، حيث يصبح الحب ترفًا مهددًا. من هذه النافذة الصغيرة، تطل روح زينات صدقى عبر مكالمة هاتفية محورية: الرئيس السادات يدعوها لتكريمها فى عيد الفن. من هنا تبدأ الرحلة الحقيقية.
ليس «الأرتيست» سردًا خطيًا لسيرة زينات، بل محاولة لصياغة سيرتها الباطنية، حيث نعيش داخل وعيها لحظة تلقيها خبر التكريم وهى لا تملك ثمن فستان للحفل. فى هذه المفارقة الموجعة تتكثف مآسى الفنان المهمّش: التقدير المؤجل، الجحود الطويل، الاعتراف الذى يأتى متأخرًا كبصيص ضوء فى نهاية نفق العزلة.
يبرز ذكاء العرض فى انتقاله إلى «دولاب الملابس»، ذلك الفضاء الخاص الذى يصير بؤرة سردية وبصرية تتحرك عبرها الخيوط الزمنية. الدولاب ليس مجرد أثاث، بل استعارة كبرى عن الذاكرة، الأدوار، الأقنعة، وتاريخ من الانكسارات والضحكات المؤجَّرة. عبر فتح الفساتين القديمة، تستدعى كل قطعة لحظة، وجعًا، أو مشهدًا، فى حركة مسرحية بارعة يحول الزمن إلى مادة مرنة تُحسّ ولا تُروى، تُعاش ولا تُفكك.
هذه الحيلة الإخراجية ليست عبثية، بل فى صلب الرؤية الجمالية التى تتبنى تفتيت الزمن انسجامًا مع طبيعة الذاكرة المتشظية، التى تعمل بالمحفزات الشعورية: رائحة، ملمس نسيج، نغمة موسيقية. نعيش طفولتها، زواجها، طلاقها، وهروبها من سلطة الأهل، متنفسين معها هواء الاضطهاد فى مجتمع يصرخ «أنتِ يجب أن تكونى كذا» بينما تحاول هى أن تقول «أنا سأكون ما أريد».
ليست زينات هنا شخصية مسرحية فحسب، بل كيانًا إنسانيًا كاملًا: الشابة التى حُشرت فى قالب «الخادمة البلهاء» رغم حلمها بالكوميديا، المرأة التى لم يتحمل رجل ضحكتها الحرة، الفنانة التى أضحكتنا ثم نسينّاها مع اعتزالها كمرآة قديمة تُهمل.
يتجلى هذا التكوين المعقد فى الأداء المدهش لهايدى عبدالخالق، التى لم تُجسّد زينات بل حملت روحها. ما قدمته لم يكن تقليدًا صوتيًا أو جسديًا بل تقمصًا شعوريًا عميقًا. العينان، التنهيدة، الذهول الطفولى الممزوج بالحكمة المُرّة، جعلت الجمهور يصدق أنه يشاهد زينات الإنسانة المُهشّمة العنيدة.
يُحسب لمحمد زكى بناؤه إيقاعًا زمنيًا غير تقليدى، يتحرك بالمشاهد بحساسية عالية دون تشتيت. تفتيت الزمن هنا خاضع لمنطق درامى دقيق، تُفتح فيه نوافذ الماضى عبر محفزات بصرية أو درامية واضحة (فستان، أغنية، ضوء)، فيتحول الزمن إلى عقدة تفاصيل يُحسن المخرج فتحها وإحكامها.
قدّم فريق العمل أداءً جماعيًا متماسكًا، من هايدى عبدالخالق وفاطمة عادل ومحمود الغندور وغيرهم، فى لوحة متناغمة. أسهم ديكور فادى فوكيه فى خلق إحساس بالحميمية والحنين، فبدا الدولاب معبدًا لذاكرة مكسورة. ورسمت إضاءة أبوبكر شريف حدود الحلم والذكرى بحساسية، بينما حملت أزياء أميرة صابر ومحمد ريان الرمز والمعنى، فلم تكن الفساتين ملابس بل شخوصًا ناطقة.
فى جوهره، لا يتحدث “الأرتيست” عن زينات وحدها، بل عن سؤال أوسع: ماذا يعنى أن تكون فنانًا فى عالم لا يعترف بالفن إلا كسلعة، ولا يمنح الفنان حق الوجود إلا مشروطًا بالطاعة أو النمط أو الشهرة؟ كيف يعيش من يُقال له منذ البداية إن الفن “عيب” والتمثيل “مضيعة للكرامة”؟ هذه الأسئلة تتسلل إلينا عبر كل تنهيدة وفستان، محملة بصوت زينات التى فشلت فى إقناع أهلها بأن الفن نداء داخلى أو قدر لا يُفْلت منه.
تتجلى اللحظة الأكثر إيلامًا فى تلقى خبر التكريم، لا كفرح بل كقمة مفارقة: بعد عمر من التجاهل والإهمال والتجويع، يُقدَّم التكريم حين لا يعود له معنى. بحثها عن فستان يليق يثير الخجل: أهذه هى الفنانة التى أضحكت الأمة؟ كيف لم تجد ثمن فستان؟ إنها مأساة فَنّ يُكافأ بالنكران.
لا يقدم شكوى بل صرخة، لا يبكى الأطلال بل يكشفها، لا يطلب تعاطفًا بل يقدم مساءلة لتاريخ من الجحود. إنه حديث عن كل فنان واجه سلطة الأسرة والمجتمع والذكورة والذاكرة الانتقائية ليقول: “أنا أريد أن أعيش اختيارى”. فهو وثيقة عن الكفاح الفردى ضد بنى اجتماعية معادية للتمرد.
لا يمكن الخروج من “الأرتيست” دون أن نُمسَّ فى أعماقنا. كل من جلس بالقاعة وجد نفسه يفتش فى دولاب حياته عن لحظة بهجة أو ذكرى خائبة أو إيمان دفين بنفسه، نسيناه حين قالوا إن حلمه لا يليق. أعادت المسرحية زينات صدقى من الهامش، لا لتُتوجها بل لتسمع صوتها: تعاتب، تضحك، تغضب، وتهمس لنا جميعًا: لا تنتظروا التكريم.. اصنعوا وجودكم رغمًا عن العالم.

بطاقة عرض الأرتيست
إنتاج: مركز الهناجر للفنون
تأليف وإخراج: محمد زكى
تمثيل: هايدى عبدالخالق، فاطمة عادل، إيهاب بكير، محمد زكى، أحمد الجوهرى، محمود حلوانى، ريم مدحت، إبراهيم الألفى، عبدالعزيز العنانى، فيولا عادل، ياسمين عمر، ياسر أبوالعينين، مارتينا هانى، محمود الغندور.
تصميم الديكور: فادى فوكيه
تصميم الأزياء: أميرة صابر ومحمد ريان
الماكياج: إسلام عباس
تصميم الإضاءة: أبوبكر الشريف


عماد علواني