العدد 612 صدر بتاريخ 20مايو2019
من هم أهل مصر؟ من هم المخلصون؟ يعيش فوق تراب هذا البلد الملايين من الناس بكل فئاتهم وطبقاتهم وأطيافهم. والجميع له حق العيش والحياة الكريمة. لكن من يحق له أن يضع قسط الموازين؟ من يحكم ليعدل ويقسط بين الناس؟ العدل الغائب دائما لا يسببه الحكام فقط بل من يحكمون الحكام، ومن يسيطرون على مقدرات البلاد. الكل يطمع ليس في مجرد جزء من الكعكة بل في الكعكة بأكملها. جماعات الضغط وأصحاب المصالح تعلو رغباتهم وإرادتهم فوق كل حاكم مهما علا شأنه. كيف تريدون وطنا ديمقراطيا مثاليا ولديكم الأغلبية ليست سوية. حقا تستحقون ما أنتم فيه، وتظل الأقلية الطيبة المؤمنة بحب الوطن والإخلاص لترابه وتحمل سلاح العلم وراية الحب، تظل مغلوب على أمرها تحاول وتجاهد بين أكثرية لا تملك إلا الشهوة والطمع والجبروت والقهر وغلبة المصالح والأهواء الشخصية.
في رحاب المسرح القومي عرضت مسرحية (يعيش أهل بلدي) من تأليف محمد البغدادي وإخراج د. عاصم نجاتي، في محاولة لإنعاش إحساس المواطن الشريف بوطنه وإيقاظ الضمير الغائب وبث الوعي لدي المتفرج بما قد لا يراه في الواقع أو قد يغض بصره عنه بلا مبالاة. يبدأ العرض باستعراض راقص على أنغام أغنية (إزاي نحلم سوا) بصوت الرائعة مروة ناجي ذات الصوت الشجي الرنان، فيضعنا المؤلف محمد البغدادي وهو نفسه كاتب الأشعار منذ البداية في دعوة صريحة لتوحيد الحلم والتكاتف من أجل بناء الوطن، كاستهلال للعرض لنكتشف بعد ذلك أحداثه من خلال حاكم جديد للبلاد تم انتخابه أو اختياره مؤخرا من قبل الشعب (أحمد سلامة)، وهو كما يبدو - من بين السطور وقد أصرت الرقابة على التغيير - أنه كان قائدا لثورة على نظام سابق، وقد أتي باختيار الشعب ويرغب في أن يرسخ فكرة حكم الشعب لنفسه بنفسه، فيطلب من مدير المراسم بالقصر (محمد رضوان) والذي يدعى باسم (واخد باله) أن يجمع جميع طوائف الشعب ليختار من بينها من يمثل كل طائفة، وقد استطاع مدير المراسم بمهارته وخبرته، حيث نرى أنه لا تفوته فائتة، أن يقوم بتقسيمها تقسيما فئويا إلى ستة طوائف، حيث يقابل الحاكم كل منها على حدة للتعرف على أفكارهم واختيار شخص من فئة ممثلا عنها في المجلس الوطني الذي سيحكم البلاد. في البداية تدخل عنوة شخصية تدعى (ماعت) والتي تقول إن اسمها هو اسم إلهة الحق والعدل عند الفراعنة مدعية أنها مهد الحضارة وتدعي أنها ممثلة للجمعيات الحقوقية ومؤسسات الحرية والعمل المدني محاولة التدخل في المشاركة في المجلس الوطني. ثم يقابل الحاكم أولا مجموعة اسمها (على حزب الريح ما يودي) وهي مجموعة القيادات السابقين، حيث يمثلون فئة أعضاء الحزب الحاكم في كل عصر والمنافقين الذين يتمسكون بالمناصب والإصرار على الممارسة السياسية المتلونة مع كل نظام وهم أيضا يملكون رصيدا وافرا من الخبرة السياسية التي تتيح لهم الاستمرار في مناصبهم دائما لتحقيق مصالحهم الشخصية، لكنهم كما اكتشفهم الحاكم الجديد أنهم سيهوون بالبلاد إلى الهاوية، فيرى أنهم لا يصلحون لإدارة شؤون البلاد.
ثم يقابل المجموعة (الاقتصادية السالكة في كل الاتجاهات) وهي التي أغرقت البلاد في الديون، وتلك التي أفرزت نظام الخصخصة. ثم المجموعة الانعزالية (ولاد الرايقة) الذين لا يختلطون بالشارع والمجتمع والناس فهم على درجة كبيرة من الثراء واتخذوا لأنفسهم جزرا منعزلة بين طبقاتهم المرفهة ولا يعرفون إلا التنزة وقضاء أوقاتهم في المنتجعات السياسية والنوادي وغيرها، وكذلك يلتقي بمجموعة المتأسلمين الذين يريدون السيطرة على الشعب ومقدرات البلاد باسم الدين تحت شعار (يانحكمكم يانفرمكم)، ثم يلتقي بمجموعة رجال الأعمال الذين يسيطرون فعليا على كل شيء وهم الذين يتحكمون في الاقتصاد والأسعار، بل يمكن القول إنهم هم الحاكم الفعلي للدولة حيث يتحرك كل المسؤولين والوزراء كمجرد عرائس وخيوط من تحتهم.
بين كل هذا تخلل العرض فواصل خفيفة تعبر عن محاولة ترفيه الحاكم الجديد وتهيئته نفسيا للمقابلات، بواسطة فتاتين تعملان في القصر لهذه المهمة فقط، كتقليد متبع مع كل الحكام السابقين وهي تعبر عن كم الرفاهية والبذخ الذي يعيشه حاكم البلاد.
وفي النهاية يطلب الحاكم من مدير المراسم إدخال المجموعة الأخيرة، الذي يخبره أن المجموعة الأخيرة هي قوى الشعب الحقيقية التي تتضمن العلماء والبسطاء والمهمشين والمخلصين، العالم والعامل والفلاح والموظف والمدرس والطبيب وغيرهم، كل من يعمل بجد وإخلاص للوطن، يفاجأ الحاكم هنا بأن مساعدة أو مدير المراسم (واخد باله) يخبره بأنه من ضمن هؤلاء المخلصين هو طقم المساعدين له داخل القصر وأن كل ما سبق كان مجرد اختبار له لكشف صلاحيته وملائمته في إدارة شؤون البلاد بإخلاص وجد.
نحن أمام كوميديا سياسية دسمة تنتمي إلى مسرح الكباريه السياسي، فهي تناقش الواقع السياسي بشكل خفيف من خلال الضحك والأغنية والاستعراض، تحمل الكثير من المعاني والدلالات، ولا أقول إن العرض يحمل إسقاطا أو إشارات إلى واقعنا، فهو ليس بحاجة لذلك لأن كل ما فيه يفضح الواقع بشكل مباشر ومعاش في مصر لا يحتاج إلى تفسير أو إلى استخدام ألغاز يحلها المتفرج، أي أن العرض يتعرض للسياسة بشكل مباشر بغرض النقد والتوعية من أجل الإصلاح وتنبيه المتفرج إلى كواليس العملية السياسية.
بدأ العرض من ذروة الحدث فدخل إلى لب الدراما مباشرة فيما بعد انتهاء الثورة على الحاكم السابق وكل ما تلاها من أحداث وكانت البداية مع أزمة البطل أو الحاكم الجديد (قائد الثورة) في الرغبة بتشكيل مجلس وطني لإدارة البلاد، وكيفية تحقيق ذلك، اعتمد المؤلف على التعدد في تتالي المشاهد من خلال ستة نماذج لتركيب التصعيد الدرامي والنفسي لدى المتفرج موازاة مع تصاعد وقع تلك الأحداث داخل عقل ونفس البطل، حتى يصل إلى ذروة الانفعال والرفض لكل ما يحدث ليبدأ البحث عن مخرج أو حل. حتى يضع النهاية بالمخلصين الوطنيين الحقيقيين.
ويلاحظ أن المخرج قد قام أسند لنفس الممثلين الثلاثة مهمة تشخيص كل الشخصيات السلبية لبيان التوحد في النيات والأفعال رغم اختلاف الشكل أو الأسلوب لكن النتيجة في النهاية واحدة. كما نلاحظ أنه قد بدأ بشخصية تحمل دلالة فرعونية (ماعت) مؤكدة أنها مهد الحضارة، ثم تشخيص نفس الممثلة لباقي الشخصيات للمجموعات الفئوية يؤدي بنا إلى القول إن كل السلبيات التي نراها في تلك الطوائف هي سمة موحدة ضاربة في جذور الشعب المصري، أي أن المصريين منذ عهد الفراعنة يحملون في دمائهم جينات المساوئ والطمع الانتهازية والسلبية وغيرها من صفات أسقطت على شخصيات العرض المختلفة.
وقد استخدم العرض الأسماء الدلالية مثل (طالع هابر) و(نازل هابر) و(مادة إيديها)، (شوكت بيه الرايق) و(عصمت بيه شاري دماغه) و(دولت هانم مروقة روحها)، (سامي قابض جامد)، (لامع شاطر) و(إحسان فاتحة السكة)، وغيرها، وأيضا نفس استخدم نفس الأسلوب في تسمية الجماعات مثل (على حزب الريح مايو (أيار)دي)، (يانحكمكم يانفرمكم)، (ولاد الرايقة) وهكذا، وكلها ذات رموز واضحة ومباشرة للتعبير عن مكنون الشخصيات بشكل مباشر وهزلي، وهذا التوظيف هو من باب احترام ذكاء المتفرج من أجل إضحاكه بشكل مباشر على اعتبار أنه ليس بحاجة (للف والدوران) لإخفاء أو توضيح ما وراء الشخصية.
لكن اعتماد العرض على شخصيتين فقط في المشاهد الثلاثة الأولى كان بحاجة للمراجعة، لأن هذا التجريد أصاب المشاهد بفقر شديد حيث كانت بحاجة فضافة زخم بصري للمشاهد بزيادة أعداد للمثلين والمجاميع يوضح عظمة الحدث الذي يعيشه الحاكم داخل قصر حاكم وبين مريدين ومحيطين بزعيم وقائد ثورة.
اعتمد المخرج في رؤيته على الكوميديا الخفيفة مع التنقل بين المشاهد المتقطعة بفواصل درامية وموسيقية، باستخدام ديكور متغير في الخلفية بتوظيف مستوى دائري لتغيير ثلاثة مناظر مسرحية، مع تثبيت ديكور الجانبين والمقدمة وسقف المسرح. وقد قام بتصميم الديكور صبحي السيد، الذي صمم قطعا ضخمة وفخمة تعبر عن ثراء القصر الرئاسي والبذخ الذي يعيشه الحاكم، باستخدام تماثيل ونقوش وزخارف مذهبة بدرجات ألوان مختلفة تعبر عن الفخامة والرقي، وقد نجح صبحي السيد في التعبير عن ذلك وتوصيل إحساس للمتفرج، حتى أنه اهتم بتغطية جانبي مقدمة المسرح وأعلاها وكذلك أقصى أعلى عمق المسرح لعدم كشف أي من أدوات اللعبة المسرحية ودمج عين وإحساس المتفرج داخل القصر واللعبة المسرحية بشكل كامل. لكن توظيف المستوى الدائري لتغيير الديكور قد أثر على استخدام العمق للعمل المسرحي حيث اقتص جزءا كبيرا من خشبة المسرح كان يمكن استغلاله بشكل أفضل في الحركة المسرحية وبيان مدى اتساع غرفات القصر التي بدت وكأنها غرف صغيرة لفيلا وليس لقصر كبير رغم ضخامة حجم المكتب والتماثيل والأعمدة. وقد تم تصميم التماثيل المحيطة من الجانبين على شكل حصان أو فرس البحر لما له من قدرة على التلون بالبيئة المحيطة مثل الحرباء تماما، ولعل هذا يعطي دلالة على إحاطة الحاكم دائما بالأشخاص المتلونين والمتحولين حوله من كل مكان كما أنهم ثابتون في أماكنهم دائما لا يتزحزحون مهما تغير الحاكم، وقد تم التصميم بحجم كبير أكبر من الجسم البشري للدلالة على السيطرة والإحاطة.
كما يلاحظ أنه تم وضع صورة بالخلفية لقاعة الاجتماعات تجمع تحالف قوى الشعب العامل، وقد وقف في الصفوف الأمامية القيادات السياسية وفي الصفوف الخلفية يقف الشعب الحقيقي العلماء والفئات المثابرة من أطباء ومهندسين وطلبة وفلاحين وعمال والمخلصين والفقراء والمهمشين، وأن كل من يقابله الحاكم يحذف تلقائيا من الصورة، فهي كالغربال الذي يقوم بتنقية وتنقيح المخلصين من أبناء البلد، وقد حاول المتأسلمون الإبقاء على صورهم بها عنوة ووضع دائرة حمراء عليها للتمييز، لكن الحاكم رفض ذلك وأصر على حذفهم واستبعادهم بعدما اكتشف نياتهم الخبيثة.
كما كان لتصميم الملابس أثر كبير في توضيح الصورة والمعنى المراد فهو وإن كان واقعيا إلا أنه معبر بصدق عن كل الشخصيات لا سيما الهزلية التي مثلت فئات المجتمع,، حيث تم إضافة لمحة بسيطة من التمييز والمبالغة لملابسهم كي تعطي دلالات ومعاني الشخصيات وتوضح المغزى الدرامي داخل كل شخصية سواء في شكل التصميم أو في اختيار الألوان المناسبة لها.
أما الإضاءة فلطبيعة العرض الكوميدية انحازت نحو الإنارة الكاملة بشكل طبيعي وهذا إنما يدل على الخبرة في التصميم والوعي التام لدى المخرج والمصمم. لكن لوحظ انخفاض الإضاءة إلى درجة المنتصف في المشهد الذي يجمع العلماء والمثقفين وشرفاء الشعب، لدرجة عدم وضوح الرؤية لدى المتفرج، دون وجود أي دلالة درامية أو هدف واضح لذلك، رغم أن هذا المشهد بالذات يحتاج إلى إضاءة مرتفعة عن باقي مشاهد العمل لأن هؤلاء هم الضوء الحقيقي والساطع لمستقبل الوطن.
جاءت الأغاني معبرة وموجهة والتي كتب أشعارها المؤلف محمد البغدادي فقد بدأ الفصل الأول بأغنية معبرة عن الحلم (إزاي نحلم سوا) وفي نهايته أغنية خفيفة (استعراض المساج) للترفيه عن الحاكم، ثم بدأ الفصل الثاني بأغنية (الوطن صرخة شهيد) بالإضافة لأغنية النهاية (يامصر انتي اللي حابة انتي العجوزة اللي شابة) التي عبرت عن مورال العرض بأكمله، فكانت الألحان والموسيقى مناسبة ومعبرة ومؤثرة والتي لحنها (علي سعد) بخبرة كبيرة في العمل المسرحي. وقد صاحب الأغاني استعراضات بسيطة وراقية صممها (محمد عبد الصبور) وكانت أقرب إلى تصميم حركات وخطوات الباليه، حيث كانت مثل فاصل ترفيهي لتغيير الحالة أمام المشاهد كي يلتقط أنفاسه لمواصلة متابعة فكر العرض، فلم تكن من ضمن النسيج الدرامي للعمل ولكن مجرد تنويع للعناصر الإخراجية.
أما الممثلون فقام بدور الحاكم الفنان أحمد سلامة الذي بذل مجهودا كبيرا ومضاعفا طوال العرض استطاع من خلال أداءه للشخصية ان يبرز ملامحها بكل انفعالاتها في هدوءها وعصبيتها، ذلك الثوري الوطني الذي قاد ثورة فرمت به المقادير لأن يصبح على رأس المنظومة السياسية وعليه أن يحقق الشعارات التي تبناها والمثالية التي يؤمن بها، فاستطاع أحمد سلامة بموهبته وخبرته أن يتحكم في كل أدواته للتعبير عن تلك المواقف التي واجهته تارة بالابتسامة وأخرى السخرية ومرة بالصوت الحاد أو العالي والانفعال، فكان أداءه متوازنا طوال العرض محملا بخبرة السنين، وكأنه يعيد اكتشاف نفسه.
أما انتصار فقد نبعت منها الكوميديا ببساطة وتلقائية، حيث شخصت عدة أدوار بالعرض نحو (ستة شخصيات) لكنهم جميعا يحملون دلالة واحدة وهي الاستهتار بمقدرات الوطن وعدم الإخلاص وتغليب المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن، فاستطاعت انتصار أداء جميع الشخصيات باقتدار واختلاف بينها مع الحفاظ على الخيط الرئيس الذي يربط بينها.
وفاكهة العرض الكوميديان المحنك محمد رضوان نجم المسرح القومي فهو متجدد دائما وانتزع ضحكات المشاهدين بهدوءه وخفة ظله، وقام بأداء شخصية (واخد باله) مدير المراسم برصانة وثقل مسرحي، والأجمل أنه أضحك المشاهد دون مبالغة أو إسفاف، ليدخل إلى قلب المشاهد مباشرة.
كما كان الشابان الذين أديا أدوار المجموعات الفئوية بجانب انتصار (زكريا معروف وضياء زكريا)، مناسبين لاختيارهما وأديا الأدوار باقتدار مع التنويع في الأداء لكل الشخصيات التي قاما بأدائها. وكذلك الفتاتان المساعدتان لمدير المراسم (هالة سرور ومريم البحرواي) واللتان تقومان على خدمة وراحة الحاكم تنمان عن موهبة عالية وقد أجادت كل منهما في دورها. هؤلاء الشباب الأربعة مواهب عالية ولديهم إمكانيات كبيرة تصنع لهم مستقبلا باهرا. معهم هاني حافظ وإيهاب ناصر وندى عفيفي الذين أحسنوا أداء أدوارهم في المشهد الأخير الذي جمع العلماء وقوى الشعب المخلصة.
العرض في مجمله جيد ومتماسك ومعبر عن واقع مهترئ نعيشه، هو دعوة للإخلاص للوطن ولصحوة الضمير الوطني، إفاقة الوعي لدى الجماهير، هو كوميديا سياسية تفضح بعنف وجرأة واقعنا المؤلم وتكشف نيات النخبة وتعري أفعالهم المشينة التي تؤدي بالوطن إلى الهاوية