سيدة الفجر.. أن يتواطأ المتلقي لإنهاء الحدث

 سيدة الفجر..  أن يتواطأ المتلقي لإنهاء الحدث

العدد 731 صدر بتاريخ 30أغسطس2021

إن السعادة تقوم على نوع معين من التناغم بين الرغبات والأهداف، والأفعال والإمكانيات والقبول بما هو كائن حتى وإن ظل السعي للتغيير هو المُهيمن.. لكن ثمة صعوبة بالغة في تحقيق هذا التناغم في ظل كم هائل من التناقضات داخل النفس البشرية وخارجها، فيظل بنى البشر في سعى دائم لتحقيق هذه السعادة، ومحاولات الوصول للسعادة قد تُشكل هاجساً دائم يضغط على الذات الإنسانية، والتي تفعل في هذه الحالة مالم يمكن توقعه، وهنا يمكننا طرح عدد من الأسئلة: هل تتحقق السعادة بجرح الآخر؟ وهل يمكن التخلي بُغتة، والتفضيل لما نراه متعة خاصة نهدم في سبيلها حيوات لأناس أخرين، وإذا انتهت هذه المتعة، هل يحق لنا العودة لنفس الحياة من  جديد، العديد من الأسئلة يطرحها  العرض المسرحي «سيدة الفجر والذى يقدم في مسرح الطليعة قاعة «صلاح عبد الصبور»،                                                                                                                               دراماتورج وإخراج: أسامة رؤوف، تأليف: أليخاندرو كاسونا. بحالة من الغموض والشعور بالقلق والاضطراب، وبصمت يخيم على المكان والذى يعبر عن منزل هادئ وتقليدي، وشعور بالرهبة يخنق الأنفاس، يبدأ العرض  فيصنع نوع من الترقب و يتبدى اليأس والأمل في آن معاً، لتفصح الأم عن رغبتها المستحيلة في حدوث معجزة غير قابلة التحقق، وهي عودة الابنة أو حتى العثور على جثتها،  ومن هنا قد تبدو حالة الأم  غير طبيعية فالحزن يجعلها في حالة من عدم التيقن مصحوبة بالتحولات الدائمة وغير المفهومة، ذلك أن الشكوك هي المسيطرة فحالة ابنتها تفتقر إلى فكرة الحياة او التيقن بأنه الموت، فلا تميز الأم اذاً بين الصورة والواقع فثمة تواتر أو تزامن في الحدوث، فيتراوح إحساس الأم بين الأمل في عودة الابنة او التيقن بأنها ماتت وأن جثتها ستظهر، ذلك الشعور الدائم مادامت الأم حية أشبه بالفجوة الروحية.. نقطة عندها ينتهي كل شيء ليبدأ من جديد، هي خبرة الخوف المكتسبة والمتجددة على الدوام خوف من التأكد بأن الابنة قد ماتت حال ظهور جثتها، وإن كان قد مر عدد من السنوات على اختفائها صوب الشاطئ، ولم يبقى منها سوي منديل تم العثور عليه، ولا تعرف الأم من خلاله هل الابنة حية ام أنها ماتت؟..                                                                                        فجل ما  تتمنى الأم  أن تعثر على ابنتها من جديد أو أن تعود، وتظل تلك الحالة من التراوح بين اليأس والأمل الخافت والمراقبة الدائمة لزوج الابنة - التي غيبها الرحيل أو الموت- إلى أن تحضر امرأة مجهولة،  يستقبلها أصحاب البيت لإيوائها من البرد فتغفو في أحد الأركان، وحين تصحو من جديد ندرك أنها الموت أو سيدة الفجر كما أسماها النص، وثمة مفارقة لما يمكن أن نتصوره عن الموت.
 ففي اللاوعي الجمعي يمكن تصور الموت على أنه رجل، وليس امرأة لكن هنا يخالف أليخاندرو كاسونا هذا التصور ليقدم الموت من خلال امرأة وكأنه لا  يعنى النهاية بل يُعَد بداية لحياة جديدة مفعمة بالأمل.
أما مخرج العرض أسامة رؤوف لا يكتفي بما يقدمه كاسونا من مُغايرة لما هو سائد، فيفتت ذلك الموت إلى ثلاثة ممثلات يظهرن في بداية العرض ثم ثلاثة ممثلات أخريات، مع تطور الأحداث  ليتحول الموت من واحدة إلي ستة ممثلات، يقدما معاً تعبيرات حركية منسوجة بإتقان، وبشكل هادئ بحيث تعبر عن رهبة وجلال الموقف، ويتم الاعتماد فيها بشكل أساسي على حركات اليد الممتدة إلى السماء في انتظام يعبر عن استقبال شيء ما، وكأنه نوع من التواصل بين الأرض والسماء، ومما يساعد على استكمال حالة الرهبة تلك الملابس البيضاء التي تشتمل على غطاء للرأس إلي جوار اتساعها من  منطقة اليدين، هذه الملابس البيضاء تساهم في استكمال الشكل العام للشخصيات التي ترمز إلى الموت، مع ملحوظة أن الأب هو الوحيد المُدرك تماماً أن تلك السيدة ذات الملابس البيضاء والتي تحتمى من البرد في داخل بيته هي الموت، ولذلك فهو الوحيد الذى ينتابه الزعر والفزع بشكل مستمر إبان وجودها فهو المتوقع للشر الكامن والأذى الذى يوشك على الوقوع، والموت المحتوم فقد تذكر الأب تزامن اختفاء الابنة مع ظهور سيدة الفجر من سنين مضت، ويقدم المخرج حيلة إخراجية تدعم من حالة الغموض المسيطرة في بداية المسرحية حيث يجعل الموت  شخصيات رئيسية ترتدين نفس الملابس، وتنطق الشخصية المقابلة لأى واحدة منهن بجملة (إن وجهك يتبدل) وكأنها حرباء في تلونها وتبدلها، تلك الحيلة تضفي غموض يجعل الترقب من قِبل المتلقي هو المسيطر.
إن غفوة سيدة الفجر في البيت بعد احتمائها من البرد تجعلها لا تحصد روح زوج الابنة الغائبة وذلك ما جاءت من أجله، وهي بذلك ترجئ طقس الموت، وتحدد ميعاد أخر لموت قريب لأحد الأشخاص من هذا البيت فكل شيء مكتوب بإتقان، وتبلغ الأب بذلك وكأنها نبوءة فالموت قد يرجأ لكن لا مفر من حدوثه، وفي لحظة فارقة يدخل زوج الابنة متكأه على يده فتاة مجهولة لنعرف فيما بعد أنها كانت تحاول الانتحار عند نفس النهر الذى اختفت عنده الابنة لكننا لا نعرف لماذا كانت تحاول هذه الفتاة الانتحار، فيحدث نوع من الاستبدال فتتخذ الأم تلك الفتاة عوضاً  عن ابنتها، وهنا تولد الحياة من جديد في هذا المنزل الحزين، هنا تظهر سيدة الفجر، ليفزع الأب من جديد..                                                                                          ويدور السجال بين سيدة الفجر والأب، فتبرر ما تفعل بأنه لا ذنب لها فقد حُكم عليها أن تمارس هذا الفعل دون رغبة منها، وأن تحرم من حقها في الحياة كامرأة،  كتب عليها أن لا تموت، فهي  ذلك الموت الذى لا يموت،  ويعاد تكوينه بوصفه نوعاً من التكرار الجحيمي المتجدد، والذي يكون في العادة غريباً، بما يعني أن فعلها في حصد الأرواح مستمر على الدوام، وهي هنا تكسب تعاطف الأب لكنه يظل خائفاً الا أنها تؤكد له أن ثمة فتاة ستخرج من البيت مكللة بالزهور دون أن يمسه ألم.
وإذا كانت الفتاة الجديدة أخذت مكان الابنة في المنزل فقد أخذت مكانها أيضاً في قلب الأم والزوج، ومن ثم نفاجأ بلحظة الكشف والتي بعدها يتغير كل شيء، ومن اللافت للنظر أن تلك اللحظة  يشعر بها ويفهمها المتلقي دون أن يدري بوجودها مجتمع المسرحية، فهنا يبدو المتلقي متواطئاً  مع المخرج والمؤلف في مقابل شخوصهم المسرحية، بل قد يبدو المتلقي متواطئا مع شخصية الموت، وذلك لاكتمال الحدث .
   فقد عادت الابنة لتكشف لنا عن خيانتها التي كانت تحت السطح: فهي الهاربة من الزوج مع العشيق الذى هجرها، بينما فضل الزوج أن تبقي زوجته الحاضرة في ثوب غياب جعل منها أسطورة الأم المستحيلة، التي تتمنى عودتها.
 يقدم مخرج العرض أسامة رؤوف مادة فيلمية وكأنها نوع من البوح من قِبل الزوج  للمتلقي، يحكي الزوج عن ألمه وقد رأى الجميع زوجته فقيدة وحضورها قد يشكل معجزة، ولا يعرف أحد عن خيانتها، هنا تتدخل سيدة الفجر لتكمل الأسطورة الغائبة بأن تُلبس الابنة تاج الزهور على وعد بأن تظهر جثتها عند  النهر وكأنها من القديسين، فلم يعد من حقها أن تهدم تلك السعادة واحساس القبول الذى أصبحت فيه الأسرة، بعد أن ارتضت بالفتاة الأخرى واعتبرتها هدية الكون بينما بعودة الابنة سيكشف السر ويعرف الجميع بأنها خائنة ويهدم البيت وتُستلب السعادة.
وهكذا ينتهي العرض بطقوس الموت التي يقدمها المخرج من كل مجموعة النساء اللاتي يرمزن إلي الموت وخروج الابنة معهن، وعليك إذاً كمتلقي أن تغلق ما تركه المخرج، بأن تكمل أنت ما يمكن أن يكون من أحداث درامية وبذلك ينتهي العرض عند نقطة متأزمة تترك أثراً لدي المتلقي..
قامت بدور الأم نشوى إسماعيل وهي ممثلة استطاعت إتقان الدور بدرجة لافتة للنظر، وقد تأكد ذلك حينما استبدلت ملابسها، وقامت بدور الابنة الغائبة والتي حضرت في المشهد الأخير من المسرحية، واستطاعت الممثلة أن تتلون في أدائها كما تطلب الدور .
أما الأب فأداه مجدي شكري وهو ممثل يمتلك أدواته بشكل يجعله يسيطر على أبعاد الدور بشكل واضح، وقد ساعده صوته الهادئ وأداءه المتزن على هذا ، وهو ما يعد إضافة للدور وللعرض ككل.
راندا جمال قدمت شخصية الفتاة المنتحرة بشكل يتوافق مع طبيعة الشخصية الدرامية ويضفي على العرض بهجة تغير من المزاج العام، الذى أرهقه الحزن والقلق قبل حضورها.
مصطفى عبد الفتاح قام بدور الزوج المخدوع وقد استطاع تقديم ذلك الارتباك الواضح، وهو يحيا في بيت يظنون فيه أن الابنة مثال للصدق، وهي خائنة وهاربة مع رجل أخر دون قدرة منها على الشجاعة والاعتراف بذلك قبل المغادرة، ويظهر في أداءه تلك الغٌصة التي تعبر عن ألم الخيانة ومع هذا فهو لم يقل عنها ما يعرفه وظل هذا السر حبيساً بداخله فبدي ذلك في أدائه المتقن.
قامت بدور (الموت) مي رضا واستطاعت تقديمه بشكل واعي، وإذا كانت تلك الشخصية لا تملك لدينا مدلولاً ذهنياً ملموساً فإن أداء الممثلة استطاع أن يرسم نموذجاً  يمكن تصديقه، وقدمت (الموت) أيضاً وفاء عبده وعبرت عنها بأداء واثق واستخدمت اللغة الجسدية تدعيماً لما تنطق به من كلمات، واستطاعت(بدور زاد) أن تكمل الصورة المرئية التي أراد المخرج تقديمها عن تلك الشخصية فعبرت عن الشخصية في سهولة ويسر، أما أيه عبد الرحمن ونيفين المصري أكملتا دائرة الموت التي أضفت الرهبة على الموقف التمثيلي.
عادل سمير وخالد يوسف قدم كلاً منهما شخصياتهم بما يلائم  دراما العرض فكانت العناصر التمثيلية مناسبة تماماً للأدوار الموكلة إليهم.
الإضاءة ل«محمد محمود» وهي من العناصر التي تشكل بطولة وأهمية في هذا العرض، وقد ساهمت في إضفاء الجو المناسب للعرض.
الديكور من تصميم عمرو الأشرف عبر عن المكان بشكل جيد، واستطاع استغلال قاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة بشكل جيد، والديكور تنفيذ مي كمال، أما الأزياء شيماء محمود بدت معبرة عن الشخصيات وكانت ملابس سيدة الفجر أو الموت مختلفة ولافتة للنظر إلى جوار أنها أضفت انسيابية ورهبة للدور في آن معاً.
المكياج إسلام عباس وهو من العناصر الهامة في  العرض فقد استطاع تقديم الأم نشوى إسماعيل وكأن العجز شقق وجهها فساهم في إضفاء الصدق على الشخصية، أيضاً مكياج الممثلات اللاتي تقدمن سيدة الموت واختيار عدسات العين ساهم في تدعيم الشخصيات الدرامية.
المادة الفيلمية عمرو وشاحي يعد تقديمها من اللحظات الفارقة في العرض فهي تعبر عن ما كان مجهولاً بالنسبة للمتلقي، واختيار تقديمها كانعكاس على النافذة والحائط أضفى على العرض جمالاَ.
   عرض سيدة الفجر يحمل رؤية مختلفة، ويساهم في خلق تصورات جديدة عن معنى السعادة والحياة والموت.


داليا همام