«تمرد» على مسرح المدينة الدولية في باريس

«تمرد» على مسرح المدينة الدولية في باريس

العدد 600 صدر بتاريخ 25فبراير2019

كيف يمكن اختراع النفس؟
تحدثت المخرجة «جولي بيرس» والكاتب المسرحي «كيفن كيس» إلى شابات من خلفيات مهاجرة، وقاما بإجراء مقابلات مع مختلف الجمعيات الاجتماعية في ضاحية أوبرفيلييه الباريسية. ومن خلال هذه الإجراء استطاعا أن يقدما باشتغالهما مع الروائية «أليس زينيت»، تصوروا دراميا لمسرحية «تمرد»، أضافوا إليه قصصا خاصة لأربع ممثلات: لو أدريانا بوزيان، شارمين فاريبورزي، هاتيس أوزار، سيفورا بوندي. وقد كان نتيجة هذا الإتلاف الدراماتورجي، إن صح التعبير، مسرحية تتحدث دون محرمات عن الجنس، الدين، العلاقة بين الرجل والمرأة، والعلاقات الأسرية.
كيف يمكن اختراع النفس؟ هذا هو السؤال الذي كان يهيمن على تفكير المخرجة الفرنسية «جولي بيريس»، عندما ذهبت للقاء الشابات من فتيات الجيل الأول والثاني والثالث للهجرة، في منطقة أوبيرفيلية. فمن خلال ذكرياتهن الأكثر حميمية، رسمت المخرجة في هذا العرض، صورة رائعة لشباب غالبًا ما يكون غائبًا عن عروض وخشبات المسرح الفرنسي. وكثيرا ما نذكر في هذه الأيام حقيقة مفادها أن المسرح اليوم لا يمثل أو يقدم دائما المجتمع الفرنسي بكل تنوعاته وسياقاته الثقافية والإثنية. ولكن من خلال رؤيتنا لردود فعل الجمهور الموجود بالصالة الذي كان عمره يناهز سن المراهقة، يمكننا القول إن مسرحية «تمرد» قد لامست قلب الوردة المنشودة وهدفها المباشر.
تبدأ المسرحية بمونولوج مؤثر لشخصية «نور»، وهي فتاة محجبة، لعبت دورها بحساسية عالية الممثلة «هاتيس أوزر». تتقدم «نور» خشبة المسرح لتروي لنا كيف لجأت إلى الدين من خلال لقائها على الفيسبوك بشخصية «حسن» الذي يجر خطاها نحو منحدر التطرف الخطير للدفاع عن «الأخوة والمظلومين»، بعد ولادة الحب الافتراضي، والوعد بالزواج، وامتناعها عن لبس التنانير القصيرة والتخلي عن الرشاقة، تستلم رسالة في وقت لاحق على الفيسبوك، تخبرها بأن «حسن» قد ذهب إلى سوريا، وأنه متزوج. وهنا تكتشف «نور» بذاءة الخيانة والحب، فتقوم بتحطم جسور التواصل معه، تاركة إياه يقوم بحربه الجائرة بمفرده. ومع ذلك، فإن «نور» لا تعبر أو تتخطى الخط الأصفر، ولكنها، مع ذلك، تحافظ على تحجبها. فالإسلام بالنسبة لها «أكبر بكثير من أخطائي وغضبي». وفي نهاية هذا المونولوج المؤثر، تقتلع الممثلة «هاتيس أوزر» سجادة الخشبة بعصبية، لتشكيل أو تنحت هوة في وسط الفضاء المسرحي.
إن المشهد الأول هذا، أكثر إفادة وإضاءة من أي شهادة أو تقرير عن الآثار الضارة للتطرف الديني.. فالعصيان أو التمرد هو أن تصرخ بغضبك عاليا، وهذا ما تفعله الممثلات الأخريات خلال العرض. فهن جميعا متمردات على حد سواء، مضحكات، مؤثرات ومتفردات في شهادتهن التي تتقاطع وتجيب في آن واحد على بعضهن البعض، تاركات لنا في النهاية نظرة تأملية بعيدة من خلف الكواليس.
«شارمين فاريبورزي» راقصة هيب هوب، متخصصة في رقص البوبينغ، وهو رقص شائع في فرنسا، ويتمثل المبدأ الأساسي له في تقلص واسترخاء العضلات التي ترافقها الإيقاعات، وتؤديها الممثلة في حركات بطيئة بكل جمال، تشرح من خلالها كيف تمكنت من التعامل ومواجهة عنف والدها المفرط. شخصية «لو أدريانا بوزيان»، تشرح بحس فكاهي كيف أن «القرآن ليس بقصة هاري بوتر». أما بالنسبة للممثلة «سيفورا بوندي»، التي تنحدر من أصل كاميروني، لم تعد تتحمل قلق الإيجارات غير المدفوعة لأبيها الإنجيلي الذي كان يوقظ الأسرة ليلا للصلاة ونقلها من مكان إلى أخر، بسبب الديون المتراكمة عليه، «فالناس يخافون الفقراء أكثر من الأجانب»، كما تقول. إنها تضرم النار في المسرح، عندما تجر خطى الجمهور إلى رقصة من الأحاسيس السعيدة والبهيجة، وتثلج قلبه أكثر عندما تؤدي في اللغة الإنجليزية خطاب داكار الشهير للرئيس الفرنسي السابق «نيكولا ساركوزي» الذي كتبه «هنري غانو»: «الرجل الأفريقي لم يذهب بعيدا في التاريخ [...] مشكلة أفريقيا أنها تعيش الحاضر كثيرا من خلال الحنين إلى الجنة المفقودة منذ الطفولة [...] في هذه الصورة الخيالية حيث يبدأ كل شيء من جديد، لا يوجد مكان للمغامرة البشرية ولا لفكرة التقدم». وإنها تثير موجة من الضحك عندما تطلب من أحد المشاهدين أن يؤدي دور «أرنولف» في مسرحية مدرسة النساء لموليير، في الوقت الذي تلعب هي دور «أنييس» التي تسأل «أرنولف» في عبارة تردت صدائها في كل فرنسا «هل يولد الأطفال من الآذان»؟، الذي وعدها به مخرجًا شهيرًا، قبل إعادة النظر فيها أو التدريب عليها، خوفًا من ردود الفعل من رؤية الدور، وقد أسند إلى ممثلة سوداء.
يتناول عرض «تمرد»، مسألة ثقل الميراث الثقافي، الديني، العائلي والاجتماعية من خلال الإدلاء بشهادات أربعة فتيات يشرحن من خلالها الأسباب التي تجعل من عصيانهن وتمردهن على هذا الميراث ضرورة لتحريرهن. لكل واحدة من هذه الشابات الأربع مسارات صنعها خليط من التقاليد، التأثيرات، والثقافات المختلفة، التي تعتبر ثروة حقيقية بالنسبة لهن، ولكنها، في نفس الوقت، يمكن أن تكون أيضا عبئا ثقيلا، من وجهة نظر العقاب المزدوج للعنصرية والآيديولوجية القائمة على سيادة الذكر والمهمة التي يمكن أن تؤدي إلى ولادة ذلك. وبالتالي، فإن «التمرد أو العصيان» في هذا العرض، يعني «الاختيار»، أو الابتعاد عن، أو عدم الاتفاق، أو الخروج عن الحتمية الاجتماعية أو الثقافية أو العائلية، ويعني أيضا، تعبير المرء عما يريد أن يكون عليه، وعن أي جزء من ميراثه الشخصي سيكون مناسبا أو كريها له. ومع ذلك لم يكتف العرض بالمعنى الاصطلاحي لكلمة عصيان وإنما حاول أيضا ان يعصي قوانين العرض نفسه بتمكين الممثلات من تحطيم جزء من جدار الصالة، بحيث لم نعد نعرف إلى أي مدى أصبحت الخشبة فضاء رمزيا لكلمتهن.
إن تداخل القصص والشهادات قد رسم خريطة للعنف، بين الواقع والخيال. فالعنصرية، سيادة الذكر، الدين، التقاليد، الحياة الجنسية، والأحلام... مضحكة وموضع سخرية إلى حد ما، ولا تدعو إلى اليأس أبدا، وبدت في قصصهن مثل ابتهاج بالثورة والتمرد، لا سيما إن العصيان نفسه في هذا العرض كان بمثابة صورة فنية هجينة أيضا.
عرضت المخرجة «جولي بيريز» في هذا العمل ما تسميه «بمسرح القدرات»: تبادل الخبرات، استيعاب الميراث، واختيار ما نريد أن نكون ونصبح. فمسرحية «تمرد» تحكي لنا قصة فرنسا الهجينة، والمتعددة اليوم من خلال عمل يعتمد بالدرجة الأساس على عمل وثائقي قد تم قطفه أو حصاده من خلال شهادة أربعة فتيات يسكننّ ضاحية باريسية؛ إنه عمل ينتمي في شكله ومضمونه إلى الكتابة الركحية اليومية الذي استعادته المخرجة على الخشبة بشكل رائع. وقد اعتمد منذ البداية على فكرة الحفاظ على الجانب «الخام» لكلام هؤلاء الفتيات الأربعة، وعفويتهن الأولى غير الملوثة في تحديات فن العرض، والاهتمام بالمحتوى أو الشكل الأدبي له. وبالطبع، كما تقول المخرجة، اضطررنا إلى إعادة ترتيب الكلام، ومنتجته، وتمفصله، مع المؤلفين (أليس زينيت وكيفن كيس)، لكن مزاحهن، كلماتهن، وقصصهن ظلت موجودة كهيكل أساسي، من غيره لا يمكن أن يتفجر الفعل المسرحي. لعبت الكوريغرافيا دورا رئيسيا في إنشاء العرض، وكان واحدا من الأعمدة الأساسية المساوية للنص. بحيث يعتبر ما أنجزته الكوريغراف «جيسيكا نويتا» في الحقيقة نقطة تحول فارقة في العرض، ساعد المخرجة كثيرا في ربط الشهادات السردية - التي كانت على هيئة كلام كلاسيكي وخطي، وتجسيدها على الخشبة بكيفية راقصة لافتة للنظر.
طرحت الشخصيات الأربع سؤال: كيف يمكن اختراع الذات؟ من خلال تلفظهن معا بكلمة «لا» أمام رغبات الأب، وأوامر المجتمع، والتقاليد. إنهن تمردن على كل هذا، من أجل التمتع بحرية الرقص، الكتابة، اللعب والصلاة. وناقشن على خشبة المسرح عملية ارتداء الحجاب، والاستسلام، وجراحاتهن التي لم تندمل بسهولة. التصقن ببعضهن البعض من خلال الرقص، بحيث شكلن في بعض الأحيان كيانا واحدا بعدة أصوات. إن مسرحية “تمرد” أو “عصيان”، بمثابة قصيدة تنتصر لشجاعة الذات الإنسانية.

 


محمد سيف