العدد 756 صدر بتاريخ 21فبراير2022
إن عنوان المقال هو نفسه ما سعى إليه خالد جلال مخرج العرض المسرحى «كنا واحد» إلى توصيله إلى المتلقى، والذى عرض أمام رئيس الجمهورية بمنتدى شباب العالم فى افتتاح مسرح شباب العالم، فوباء الكورونا يعد هو الداء الذى أصاب البشرية جمعاء وبلا استثناء الأبيض والأسود، القوى والضعيف، الغنى والفقير، الوزير والغفير، الطيب والشرير .. الخ، لم يفرق بين أحدا منهم ولم يقوى على مواجهته احد، وفى ذات الوقت كان هذا الوباء هو الدواء أيضا بعدما استطاع أن يجمع البشرية كلها على هدف واحد بلا حدود ولا حروب ولا جنسيات ولا ألوان ولا لغات، ألا وهو محاربة الوباء، وبالرغم من أن ذاك الوباء يعد شيئا غير مرغوبا فيه ولا نسعى إليه إلا أنه كما يقولون دوما “ رب ضارة نافعة “ فقد استطاع هذا الفيروس الصغير الذى لا يرى بالعين المجردة ويدعى “ كورونا “ أن يحقق لنا الحلم الذى لطالما حلمنا به وسعينا إليه وفشلنا فى تحقيقه من خلال الاجتماعات والندوات والمفاوضات والمناشدات والشعارات إلا وهو حلم أن تتوحد إنسانيتنا جميعا فى عالم واحد دولا وشعوبا يجمعنا الحب وحده ولا تفرقنا أية حدود ولا جنسيات ولا حروب، من اجل إنقاذ الإنسانية من الفناء والانقراض، فخمدت الحروب وتوقفت النزاعات وانتهت الصراعات إلى اجل غير مسمى لا نعلم معه ماذا يخفى لنا المجهول مع هذا الوباء اللعين الذى لا زال حيا بيننا لأكثر من عامين حتى الآن على الرغم من اكتشاف اللقاحات والأمصال الخاصة به، فكلما توصل العلم إلى لقاح تحور الفيروس إلى شكل جديد وخواص جديدة وكأنه عدو خفى للبشرية جاء ليعلمنا درسا هاما بأن قوتنا ليست كما نتصور فى الأسلحة ولا الدمار ولا الأطماع ولا الحقد ولا الكراهية، ولكن قوتنا الحقيقة تكمن فى الحب والسلام والإنسانية وكذا توحدنا جميعا بكل أطيافنا علماء وأطباء وزعماء من اجل القضاء عليه للأبد والحفاظ على جنس «آدم» الذى جاء وحيدا وبدأت معه الخليقة لتخرج حواء من ضلعه ويبدأ معهم نسل البشرية فى غزو كل الكرة الأرضية مكونا فيما بعد شعوبا وقبائل ودولا وحكومات وجنسيات لم تدرك الهدف الأسمى الذى خلقت من اجله إلا وهو الحب والتعارف والسلام وتبادل المنفعة، فأراد الله أن يعلمهم قيمة تلك المعانى السامية من خلال تلك المحنة وذاك الابتلاء الذى حتما سيزول يوما ما بعدما تعود الإنسانية مرة أخرى إلى الوجود .
احسن خالد جلال اختيار موضوع العرض الذى يتلائم مع طبيعة المنتدى، الذى تقوم فكرته على وحدة كل شباب العالم بأفكارهم وآرائهم ومقترحاتهم وأحلامهم، فكان لابد هنا أن تكون فكرة العرض هى فكرة تمس كل شعوب العالم وإنسانيتهم ولا تخص شعبا بعينه، فجاءت فكرة أول عرض مسرحى عن الكورونا آفة العصر الذى لا زال العالم أجمع يعانى منه حتى الآن وبسببه تغيرت طبيعة وشكل الحياة .
اعتمد خالد جلال على المواهب من تلاميذه من شباب مركز الإبداع الذى يشرف على تدريبهم مع مجموعة أخرى مشاركة من المواهب من جنسيات مختلفة من معظم دول العالم كى يعطى للعرض صبغة العالمية، وقام بتدريبهم جميعا على فكرة العرض من خلال ورشة عمل مكثفة لمدة 14 يوم فقط.
يبدأ العرض المسرحى من خلال بانوراما سينمائية تعد هى العمود الفقرى الأساسى القائم عليها فكرة ذاك العمل الفنى، حيث أن خالد جلال دوما منهجه يعتمد على الإبداع التمثيلى فى المقام الأول فى مدرسته الإخراجية وذلك يرجع لكونه مدرب تمثيل محترف درس هذا المجال فى منحة بأكاديمية الفنون بإيطاليا، مع الاعتماد على تطعيم هذا الإبداع التمثيلى بعوامل أخرى مكملة أهمها دوما المادة الفيلمية مع الأزياء الموحدة غالبا وبعض الأكسسوارات البسيطة وموتيفات الديكور، فتفتح الستار على شاشة سينما عليها صورة جمالية ثابتة لصفوف مضيئة متراصة خلف بعضها البعض بشكل أفقى لخيال الممثلين ويقف أمامها الممثلون والممثلات من كل أنحاء العالم وكلما جاء الدور على احدهم ليتكلم انطفئ خيال ظله على الشاشة، ويستعرضون للجمهور فكرة العرض بلغات متعددة كل حسب جنسه وموطنه، ثم يبدأ استعراض راقص يعبر عن بدء الخليقة حينما بدأت بإنسان واحد على الأرض ألا وهو آدم عليه السلام ثم جاءت إليه حواء وكانت الحياة بهم جميلة وبديعة إلى أن تكاثر البشر وازدادت أعدادهم ونفوذهم وعرفت معهم الحدود والدول والجنسيات المختلفة فتحول فجأة الاستعراض إلى النقيض تماما من الصور الحالمة الرومانسية التى يملؤها الحب إلى صور أخرى مرعبة من الدمار والقتل والمعارك والحروب، وفى وسط كل هذا الزخم المخيف والمؤلم تظهر فتاة جميلة وبمجرد ظهورها يعم المسرح السكون لتروى لنا عن بداية الوباء بعد أن طال الدمار العالم اجمع من خلال فيروس صغير لا يظهر بالعين المجردة وبسببه يحدث تحول جذرى فى طبيعة الحياة فى العالم ويبدأ البشر فى التزام منازلهم جميعا لنرى على شاشة العرض صورا لشوارع ومزارات ومعالم خاوية من البشر من كل أنحاء العالم، فيما عدا المستشفيات التى تكتظ بآلاف المرضى الذين لا يستطيعون التنفس مع نقص أجهزة الأكسجين بسبب تزايد الوباء وكثرة المصابين به وبداية عهد جديد للحجر الصحى وتساقط العديد والعديد من الشهداء من كل أنحاء العالم ولكن ليست هذه المرة بسبب ويلات الحروب ولكن بسبب عدو صغير جدا وخفى يدعى “كورونا“ لا تقضى عليه أسلحة ولا قنابل ولا معدات، مع استعراض نماذج وصور من حالات التكاتف بين البشر من كل أنحاء العالم وتحدى الوباء بالفن والغناء والعلم والأطباء حتى عمال النظافة كان لهم دور فى تلك الحملة العالمية، كل ذلك نشاهده فى العرض المسرحى “كنا واحد“ من خلال شخصية الراوى الذى يسرد الأحداث للجمهور وأحيانا يكون واحدا من ضمن الأحداث نفسها، ومن خلال آداء تمثيلى أيضا غاية فى التمكن وصدق المشاعر والإحساس مع مجموعة من الاستعراضات المبهرة والأغانى المعبرة مع مادة فيلمية وثائقية حقيقية تستعرض لنا صورا من الوباء وآلامه ومكافحته منذ بدايته حتى الآن تعرض على البانوراما السينمائية مصاحبة لما يدور على الخشبة من حالة مسرحية، لينتهى العرض على صورة مسرحية تجمع كتلة من الممثلين والممثلات يعبرون عن نماذج وظيفية مختلفة من كل البشر فى مقدمتهم الجندى الذى يحرس الحدود ولا يستطيع رؤية امه المصابة بالفيروس والتى تصارع الموت ويستشهد فى مهمته قبل رؤيتها، مع الطبيب والطبيبة الذين يفقدون حياتهم أيضا بسبب إصابتهم بالوباء نتيجة العدوى التى طالتهم لاحتكاكهم وتعاملهم المباشر مع المرضى، مع عمال النظافة الذين أصابهم الوباء واستشهدوا أيضا نتيجة لما يقومون به من حملات تنظيف لمخلفات المستشفيات والمرضى من الكمامات وغيرها من الأدوات، وبعد أن يتناول كل واحد فيهم قصته للجمهور نرى حالة جمود وثبات لهم بالصورة المسرحية لتظهر لنا فتاة تعلن انهم جميعا من الشهداء، لينتهى العرض على تلك الحالة التى تنم عن كم التضحيات التى يتكبدها الآخرين من أرقى المهن حتى ابسطها من اجل إنقاذ البشرية من الهلاك والانقراض فى حالة إنسانية بديعة اتقن المخرج خالد جلال تصويرها للمتلقى ليخرج الجميع من العرض فى حالة شعورية فريدة يملؤها الأمل والحب من اجل تغيير كل سلوكياتنا السلبية من حقد وغيرة وشر ومادية .. الخ من الصفات السيئة إلى سلوكيات إيجابية قائمة على تحمل المسئولية والإيثار والتضحيات والتكاتف سويا مع بعضنا البعض من أجل محاربة الشر وحب الغير والوطن والتطلع لعالم إيجابي ينتظره مستقبل مشرق شعاره الحب والسلام .
يظل التمثيل فى كل عروض خالد جلال هو العنصر الأول لنجاحها، وفى العرض المسرحى « كنا واحد « أجاد جميع الممثلين تقمص أدوارهم بحرفية عالية، وهذا هو المعتاد بين شباب مركز الإبداع، ولكن الجديد هنا هو نجاح تجربة خالد جلال فى تدريب الأجانب لتشعر معهم بأنهم لا فرق بينهم وبين الفنانين المصريين من فرط التجانس والتفاهم والروح الرائعة التى خلقها المخرج بينهم، لذا ارفض هنا أن أسمي ممثلين بعينهم دون غيرهم علما بأنى أعرف أسماء بعضهم وذلك منعا لظلم البعض الآخر خاصة من الأجانب نظرا لأنهم جميعا كانوا على نفس القدر من البراعة والإبداع .
الديكور والإضاءة لعمرو عبد الله، تميز الديكور بالموتيفات البسيطة مراعاة لفكر المخرج خالد جلال، مع حسن استغلال الديكور بحيث لا يأخذ حيزا كبيرا على خشبة المسرح مع الإيفاء بالغرض المصمم من اجله من خلال الرموز ويتبين هذا جيدا فى مشهد البلكونات من جميع أنحاء العالم التى تضم جميع ممثلى العرض وهم فى حالة غناء جماعى والتى احسن مصمم الديكور فى تصميمها بشكل يوحى بالتقارب والحميمية فى المشاعر والإنسانية لذا كان الديكور معبرا عن فكر المخرج والعرض المسرحى، اما الإضاءة فقد اعتمدت هنا على نظام الإضاءة الكاملة طوال أحداث العرض نظرا لخصوصية الحالة التى تحتاج إلى انتباه المتلقى اكثر من اندماجه فى الأحداث حتى يستطيع فهم الغرض من رسالة العرض، باستثناء إضاءة بعض لوحات الاستعراضات والتى اعتمدت على تداخل عدة ألوان مع بعضها البعض وتم تحديدها حسب الحالة الشعورية فى كل مشهد مسرحى .
الأزياء لمروة عودة، كالمعتاد تبهرنى مروة عودة من عرض لآخر نظرا لما ألمسه من تطور كبير فى فكرها الإبداعي فى الأزياء المسرحية المعبرة عن حالة العرض وفكر المخرج، وفى ذاك العرض تفوقت مروة عودة على نفسها بالاعتماد على لغة الرموز فى الملابس المسرحية التى يرتديها فنانو العرض من خلال توحيد زى خاص بهم جميعا يكشفون عنه بعد نزع ملابسهم، وهو عبارة عن زى رمزى مرسوم عليه شعار كورونا مع بعض الكلمات المكتوبة التى تعبر عن هذا الوباء، مثل الحجر الصحى .. الخ
الألحان لأحمد كيكار وأحمد طارق يحي، جاءت الألحان جميعها معبرة بإتقان عن الحالة المسرحية للعرض المسرحى، وخاصة ألحان الاستعراضات سواء أن كانت الموحية بالأمل او الحسرة .. إضافة إلى التوزيع الجديد الخاص بمشهد البلكونات وغناء أصحاب المنازل وكأنهم يردون على بعضهم البعض فى كل أنحاء العالم وفى توقيت واحد مما بعثت تلك الألحان روح المحبة والسلام لدى المتلقى .
الأشعار لمحمد عبد المحسن ومحمد بهجت، ينطبق عليها نفس الوصف للألحان حيث أنها جاءت مطابقة معها فى المضمون وكانت وسيلة ناجحة فى التعبير عن الحالة المسرحية وإيصال رسالتها للمتلقى .. وقد أجاد كل فريق العمل المسرحى غنائها بكل لغات العالم خاصة ماهر محمود وأحمد كيكار .
الاستعراضات وقد كانت اجمل ما فى العرض المسرحى نظرا لتنوعها وعدم سيرها على وتيرة أو تيمة واحدة طوال العرض المسرحى، فوجدنا استعراضات مبهجة ورومانسية وحزينة وبائسة وكلها جاءت معبرة عن الحالة العامة للعرض، مما ساهم فى صنع حالة إشباع فنى لدى المتلقى، وصممها كل من فاروق الشريف وآلاء على وياسمين سمير وياسمين السراج باحترافية شديدة وضح فيها مدى الجهد المبذول بالرغم من ضيق الوقت، وكانت اكثرها صعوبة تلك الاستعراضات التى تعتمد على حركات موحدة بمسافات منضبطة وبالرغم من أن من قام بالرقص هم أبطال العرض انفسهم إلا أننا لم نلاحظ أية أخطاء بدت منهم وهذا أن دل لا يدل إلا على براعة تدريب المصممين مع دقة واحترافية الممثلين .
وأخيرا، استطاع خالد جلال أن يصنع عرضا مسرحيا منضبطا يليق بأهمية وقيمة ذاك الحدث العالمى «منتدى شباب العالم»، وفى حضور رئيس جمهورية مصر العربية الرئيس عبد الفتاح السيسى، وفى وقت قياسى وبمشاركة فنانين من جنسيات متعددة ساهم فى اكتشافهم بعين المدرب الخبير، كما تخلل العديد من الحوارات المسرحية مشاهد بلغات مختلفة لدول العالم، ومع كل هذه التحديات والصعوبات ينتج لنا عرضا مسرحيا ناجحا، لمس قلوبنا جميعا وحرك كل المشاعر الإنسانية لدينا من حزن وحسرة وخوف وحب وأمل وتضحية ومسئولية، تلك الإنسانية التى لا تحتاج إلى لغة أو ترجمة حيث أنها لغة القلوب، حتى الابتسامة وكوميديا الموقف لم يخلو منها هذا العرض بالرغم من جديته، ليثبت لنا هذا العرض أننا أمام مخرج استثنائي ناجح وصاحب رسالة، وأصحاب الرسالات يعيشون ويخلدون .