العدد 816 صدر بتاريخ 17أبريل2023
امتلاكا لناصية القول، وضبطا للإيقاع المتصاعد، نجح فريق تشخيص العرض المسرحي «نور» لنادي مسرح قصر ثقافة الزقازيق، في تكثيف الدلالات السيمولوجية، وقراءة الأبعاد النفسية للشخصيات المتصارعة مع الأنا ومع الآخر، مع الروح ومع الذات، ليقرأ ما وراء الدلالات، ويُكوِّن شبكة للعلاقات المتصارعة والمتداخلة، ويشتبك مع الواقع المعيش مجسدا حالة الحراك النفسي والإنساني، فبدا عرضا إنسانيا يحمل بين طياته دلالات العوز والانهيار، ودلالات الفراق والوحدة، وجاء الوعي بدلالات الألوان وزوايا إسقاط الضوء وشدته معاونا ودافعا للرؤية الإخراجية، وحمل الممثلون أمانة الفكر وجسدوا جسرا متينا للوصول للأفئدة.
على خشبة مسرح قصر ثقافة الزقازيق، وضمن فعاليات مهرجان نوادي المسرح الإقليمي 2023، قدم مبدعو نوادي المسرح عرضهم المسرحي “نور” من تأليف أنس النيلي وأحمد ثروت سليم، وإخراج عصام إيهاب الذي نقل صراعا نفسيا متأججا في ذات (فؤاد/ محمود رفعت) الفنان الروائي الذي فقد زوجته/ محبوبته قسرا لاختلافات إنسانية تأججت دون انطفاء حتى إنه ارتأى راضيا أن ينهي حياته بالانتحار مرارا وتكرارا، وفشل بشكل حقيقي في الوصول إلى مبتغاه جسديا، إلا أنه نجح نفسيا في الإجهاز على حياته/ روحه، فاحتاج بطبيعة الأحوال إلى طبيب نفسي لمساعدته في الخروج من أزمته دون وجود حقيقي لطريق ممهد وحقيقي للوصول إلى ذاته التي أجهضها فراق الزوجة/ الحبيبة، ولم يتعافَ فؤاد -أو بشكل أدق لم يسعَ للتعافي فؤاد- إلا بتجسد (نور/ سهر عثمان) الشابة المعجبة برواياته وكتاباته، التي انجذبت للحياة من جراء سطوره الصادقة في رواياته الواقعية، فلعبت دور الحبيبة الناعمة الداعمة البريئة في خياله، وتجسدت روحا مرحة في جسد الزوجة المادية الصلبة الصارمة، فكانت نور الهينة اللينة المرحة هي الأمل والنجاة، وإن تدثرت تلك الروح في جسد ذات الزوجة، فاقترب الفنان من غايته وتصالح مع ذاته للحظات قليلة؛ هي تلك اللحظات اللي انتشى فيها قلب فؤاد بقلب نور في تجسد خيالي انتقل من اللاوعي عنده إلى وعي مزيف حقيقي متجسد بخيوط نورٍ قاومت ظلام النفس اليائسة المحبطة، حتى إذا أشار الطبيب النفسي (أحمد عباس) بماضي فؤاد وسبب فقدانه لشغف الحياة الحقيقي بانفصاله عن زوجته التي أحبها بعد أن امتطت حصاد الجد والصرامة، ووقفت على طرف النقيض من ذاته الحالمة برغبة حقيقية في الحياة بشكل منضبط اهتزت ثقته بالحياة فاختار مفارقة الزوجة، ومع الاختيار كانت الرغبة الذاتية بالانتحار، وتجسدت تلك الرؤى أمام النظارة لبيان الفارق بين روح نور وذات الزوجة، فالروح هي العشق والحياة والذات هي الجد والحقيقة، فتمزق فؤاد بين روحه الباحثة عن الحرية والانطلاق وذاته الباحثة عن الجذور والثبات.
جاء العرض الإنساني “نور” مناسبا لحالات الارتباك اللحظي للمرحلة العمرية التي تصدت لهذه التجربة، فبدا الصدق واضحا في التناول حينا، واقترب التناول من الواقع حينا، والتصق بالحقيقة حينا، وتقاطع أحيانا عدة بالممنوح والممنوع للشباب في ذاك العصر المضطرب فكريا واجتماعيا. وجسدت موسيقى (مازن أباظة) حالات الخلل النفسي الذي أحاط بفؤاد، فجاءت الموسيقى صاخبة ساعية للتطهير من غبن الواقع، ودلالات الانسحاب من الحقيقة، والانتزاع من المادة، للتحليق في أفق الشعور، فتمزقت أجساد الممثلين/ الراقصين/ العشاق بين الواقع والخيال بخطوط حركة ارتجالية منضبطة صممها (سهر عثمان ومحمود رفعت) وهما ذاتهما (نور وفؤاد)، فجاءت الرقصات صادقة/ داعمة/ متأججة المشاعر، فالتحمت الأنفس لتجسد روحا واحدة تقاوم الذات الممزقة بين النور والظلام، والنور هو نور القلب والظلام هو مسئوليات ومتطلبات الحياة/ الواقع، مع تجسد اللوحة المهترئة (أميرة طارق) المتارجحة بين النفس والذات الصامتة دائما والظاهرة في عمق المنظور والمقتربة من جسد (نور) وجسد (الزوجة) في التشكيل والبناء، فبدت لوحة صامتة مفزعة.
وجاء ديكور (حسام عبدالحميد) قارئا جيدا لعقل فؤاد الذي حاصرته الحياة، فأفرغت محتواه، فتطايرت (البراويز الفارغة) في سماء خشبة المسرح، فبدا إطارا أطر الفراغ واحتواه، فبدت ذاته خاوية إلا قليلا، وذاك القليل تجسد في بعض البراويز الطائرة والإطارات الهائمة في سماء خشبة المسرح، ولكن كانت حاوية ومحتضنة صورة حديثة لنور ذاك الحلم الحقيقي الذي سعى إليه فؤاد، فاحتوت البراويز الطائرة/ الإطارات صورة لوجه نور بابتسامة صافية/ بريئة/ داعمة، فكانت كهدف هائم أو ملاك حارس وداعم لفؤاد في كل وقت. وجدير بالذكر، أن هاتيك الإطارات لم تحوِ صورا لنور بكامل جسدها لنقل مادية الحدث والحديث، ولكنها حوت الوجه فقط بابتسامته الصافية وعيونه المنيرة. وساهمت إضاءة (أحمد بلطة) في وضوح الرؤية ونعومة التناول دون أن يشغل المسرح أو العين بنقلات قسرية للدراما، فأراح التلقي وأنار المسرح بشكل ناعم.
إن تناول المخرج (عصام إيهاب) للنص تناول يتفق بطبيعة الأحوال مع المرحلة العمرية التي يمر بها، والصراعات الثقافية والاجتماعية والعاطفية التي تمزق الشباب عنوة، فجاءت البساطة في الطرح والتناول هي السبيل الأكثر اتساقا مع مقتضى الحال، فتجلى الصدق بالضرورة شاخصا واضحا وجليا، حتى إن خطوط الميزانسن بدت مرتجلة بانضباط ومبتعدة عن تحميل جسد الممثل دلالات ثقافية ودرامية مكثفة، فساهم بالضرورة في راحة جسد الممثل، وابتعد عن تحميل وعي الممثل عبء تنفيذ التشكيلات المعقدة الناقلة لصراعات النفس وتمزقها، فتجلى العرض بشكل بسيط واقترب من العقول والأفئدة، وتجاوز الضعف الدرامي في مناطق، وتجاوز ضعف التشكيل السيمولوجي في مناطق أخرى، لينير الدلالات الإنسانية والنفسية والعاطفية لجيل الشباب الذي تماس العرض مع واقعه وحاضره بشكل حقيقي، فامتلك بالضرورة إيقاع العرض، وخرج به إلى حيث أراد.
العرض المسرحي “نور” تأليف أنس النيلي وأحمد ثروت سليم، ومن إخراج عصام إيهاب، وبطولة: محمود رفعت، سهر عثمان، أحمد عباس، أميرة طارق، وموسيقى مازن أباظة، وديكور حسام عبدالحميد، وستايلست منى حسام عبدالحميد، واستعراضات سهر عثمان، ومحمود رفعت، ومكياج ناردين فايز، وإضاءة أحمد بلطة، ومساعدا الإخراج: أمجد الربع، ومحمد أباظة، ومخرج منفذ محمود رفعت.