الجسر .. رؤية من الأساطير القديمة تنفذ إلى الحاضر بدهاء

الجسر .. رؤية من الأساطير القديمة تنفذ إلى الحاضر بدهاء

العدد 527 صدر بتاريخ 2أكتوبر2017

التضحية بالحب والرحمة والألفة من أجل العمل أو المجد أو البناء ومصلحة شعب, وما بين المادة والروح صراع أزلي يحير العالم من آلاف السنين، أيهما أولى بالبقاء؟ ولمن الغلبة؟ تتسلل المشاعر الإنسانية داخل أجسادنا لتهيمن على قوانا وأقدارنا وأفعالنا. في المقابل، منا من يرى في المادة تأثيرا أقوى، فالواقع يفرض سيطرته لتغليب المصلحة المادية سواء أكانت خاصة أم عامة. في هذه الإشكالية تتمحور مسرحية «جسر آرتا» للكاتب اليوناني (جورج ثيوتيكا)، حيث قدمها فريق الجامعة الألمانية بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، بقاعة (زكي طليمات) بمسرح الطليعة، التي أخرجها (وليد طلعت) برؤية ملحمية أبرزت فكرة التضاد ما بين بناء الحضارة أمام انهيار القيم الإنسانية. هل يضطر الإنسان للتضحية بأعز ما يملك، بالروح، بالحبيب، ببعض القيم والمشاعر، من أجل نهوض مادي لمجتمعه يصب في صالح بلد بأكمله، لكن المشكلة هنا في مسرحية “الجسر” هل يملك البطل القرار وحده من أجل هذه التضحية؟ أم أنه ضحى بما لا يملك وليس له من الأمر شيء عليه؟ لذا كانت هنا الهوة النفسية والسقطة التراجيدية التي وقع فيها بطل هذا العمل رئيس البنائين، هل هو صادق في تضحيته من أجل شعب آرتا والصالح العام؟ أم أنه باحث عن مجد شخصي وهو ممتلئ بالإحساس بالعظمة والتفوق لإنجازاته كي يسجل التاريخ اسمه كأعظم بناء أو معماري عرفته البلاد؟
تدور القصة حول مدينة (آرتا) التي هي بحاجة لبناء جسر يربط بين ضفتي النهر، فيبدأ العرض بابن رئيس البنائين وهو يتحدث بعظمة عن أمجاد والده في بناء ذلك الجسر، لكن جدته عن أمه تخبره بأن مجد والده إنما هو مجد زائف وتسرد له ما حدث، حيث طلب الشعب من والده, باعتباره أفضل معماري في (آرتا)، بناء الجسر، فيقوم بمعاونة البنائين ببناء جسر عظيم وضخم يتباهون به، لكن الجسر انهار قبل افتتاحه بليلة واحدة، وسقط الكثير من الضحايا، فاندهش الجميع رغم دقة التصميمات، وأصر الرئيس على تحقيق المجد لنفسه، فيقوم ببنائه مرة أخرى ويتكرر البناء والانهيار أربع مرات، فيعتقد الجميع أن هناك لعنة ما خفية أصابتهم. وعندما يصيح رئيس البنائين مناديا ومتحديا القوى الخفية التي تفعل ذلك، يخرج له الشيطان ويقايضه مشترطا كي يترك لهم بناء الجسر أن يترك له زوجته ويدفنها حية تحت أحجار الجسر. بعد تردد وجدال بينه وبين البنائين الذين أصروا على الفعل ووعدوه باستمراره رئيسا لهم، يضحي بزوجته الجميلة الرقيقة المخلصة. وبمجرد تنفيذهم الجريمة يندم الجميع ويرفضونه رئيسا لهم لفعلته الشنعاء وقتله لتلك البريئة أعز إنسانة لديه مقابل علو شأنه ومجده الشخصي، فيخبرهم هو بندمه وانعدام رغبته في رئاستهم، ويطلب منهم إخفاء هذا السر بينهم وفقط أن يخبروا ابنه عندما يكبر بأن أباه هو من بنى هذا الجسر، ثم يعيش وحيدا شريدا بين أحضان الجسر منبوذا من الناس محاولا التكفير عن جريمته، تنتهي هنا القصة التي تحكيها الجدة لابنه، مما يثير حفيظته فيغضب ويذهب إلى الجسر عازما على قتل أبيه للانتقام لأمه، ويقابل رئيس أسبق للبنائين يخبره بأنه رفض عرضا مماثلا للشيطان من قبل أثناء زعامته للبنائين، ويتجه الابن لقتل أبيه لكنه يكتشف موت أبيه فوق الجسر تاركا إياه لشقائه. هذا ملخص الأحداث كما أعدها (محمد الخيام)، مستبعدا الكثير من التفاصيل، لكنه إعداد محكم ومكثف تضمن الأحداث الرئيسية بالنص.
برؤية شبه ملحمية بدأ العرض بأفراد الجوقة يمثلون شعب (آرتا) وقد اصطفوا في تناغم واحد يطلبون من رئيس البنائين البدء في بناء الجسر، ثم اصطفوا في الخلفية طوال العرض مراقبين للأحداث ومعلقين عليها بشكل جماعي في ريستاتيف غنائي بسيط. اعتمد المخرج بشكل كبير على التشكيلات الحركية الجماعية من خلال تعبير حركي للبنائين في لوحات عدة بدأت بأوفرتير يعبر عن تعاونهم وتضافرهم معا يد واحدة في عملهم، ومشيرا إلى قوتهم ومهارتهم في البناء، وعلى مدار العرض حتى نهايته كانت تلك الدراما الحركية التي صممتها (شيرين حجازي) هي العمود الفقري للعمل بشكل رائع ومنظم ومعبر أجاد المخرج في توظيفه بشكل جمالي بديع. كما أحسن المخرج توزيع المجموعات على خشبة المسرح التي تضمنت ديكورا ضخما صممه (شادي قطامش)، بالإضافة لعدد كبير من الممثلين وأفراد الجوقة، فجاءت الحركة المسرحية مركبة ومتشابكة ما بين جنبات المسرح ومستويات عدة، فنرى الجوقة في الخلفية وراء الجسر تعبر عن الشعب السلبي الذي لا يجيد سوى المشاهدة والغناء والتشجيع، وفي وسط يمين المسرح وأعلاه توجد كوة ذات درج مؤدية إلى جزء من الجسر يخرج منها الشيطان ليعبر عن سطوته وسيطرته في دراما حركية بديعة، وفي أسفل اليمين قطع تمثل جزءا من الصخور تم استغلالها في تكوين بعض المشاهد، أما يسار المسرح فنرى فيه بناء من الطوب يعبر عن بيوت (آرتا)، يتم فتحه ليتغير إلى داخل منزل رئيس البنائين، حيث أجاد المخرج توزيع الحركة المعقدة ما بين التكوينات الجماعية والثنائيات بين كل مناطق التمثيل. أما الديكور فكانت ضخامته مع جماليات تفاصيله موحية بعمق المأساة، وواضعا كل التفاصيل المطلوبة في مشهد واحد لا يتغير، استغله المخرج بشكل جيد يعبر عن وعي بمتطلبات التكوين السينوغرافي. اعتمدت ألوان الديكور غالبا على اللون الأبيض ليسهل تغييره مع سقوط ألوان الإضاءة عليه، مع الألوان ذات الطبيعة البنية ومشتقاتها لتعبر عن طبيعة الصخور والحبال للإيحاء بالطبيعة المكانية لمدينة (آرتا).
جاء تصميم الملابس لـ(شيرين حجازي) جيدا وموحيا بالبيئة التي تعيشها هذه الفترة مع توحيد ملابس البنائين بأقمشة من الخيش، وملابس الجوقة بألوان الإضاءة الخضراء عليها كانت تعبر عن مدى السلام والأمان الذي يعيشه شعب (آرتا).
أما الموسيقى لـ(محمد الصاوي)، حقيقة كانت متناغمة ومتناسقة مع جماليات العرض وعمق المأساة، فكانت من أجمل عناصر العرض، إلا أنها أحيانا كانت تستخدم بإسراف في بعض المواضع، كما أنها تعلو أحيانا فوق أصوت الممثلين مما يحتاج لدقة في التنفيذ ليكون صوت الممثل مسموعا بشكل واضح. ومن جماليات العرض تلك الجمل الغنائية التي يغنيها الجوقة لأشعار (أحمد شاهين)، بدون موسيقى بألحان بسيطة ومعبرة، أضافت جوا خاصا لطبيعة العرض.
أضفت الإضاءة تأثيرات جمالية موحية في بعض المشاهد في اللحظات الخاصة، كما كان لها بعض التعبيرات والدلالات والتأثيرات، مثل إسقاط اللون الأخضر على الجوقة في الخلفية، واستعمال الفلاشر الأحمر لكوة خروج الشيطان من الجسر، وتوظيف إضاءة أمامية للتشكيلات الجماعية للبنائين أضفى تعبيرا بالقوة والثقة، لكن شاب الإضاءة بعض العيوب حيث نرى إفراطا واستخداما عشوائيا للألوان في مشاهد عدة، تتغير باستمرار دون دلالات واضحة، بالإضافة لعدم وضوح وجوه الممثلين في أكثر من موضع لعدم فرش إضاءة خشبة المسرح كما يجب، وقد يكون ذلك لضيق الوقت الذي أتيح للفرقة لتنفيذ خطة الإضاءة الخاصة بالعرض.
يثير العرض تساؤلا هاما حول هل قصد المخرج الإسقاط أو الترميز للفترة المعاصرة؟ حقيقة لم يطرح المخرج هذا الطرح بطريق مباشر. لكن الإعداد المحكم والواعي للنص الأصلي الذي تم فيه تجريده من عدة تفاصيل بهدف التكثيف نحو الرؤية، فإن ذلك يقودنا في الخفاء نحو تلك الفكرة، حيث تم التركيز في مشهدين منفصلين على رئيس البنائين السابق، الذي رفض التضحية للشيطان مقابل إتمام بناء الجسر، رغم أنه كان يمكن اقتصاص المشهد الثاني منهما أثناء الإعداد للتركيز والتكثيف المطلوبين، هذا بالإضافة للتساؤل عن اختيار طرح هذا النص في وقتنا المعاصر، هل فقط لمجرد عرض مأساة التضحية الإنسانية؟ ربما. عموما الإجابة عن هذا التساؤل تكمن لدى المخرج ولدى كل متلقٍ على حدة بحسب فكره وثقافته وعوامل تلقيه للعرض المسرحي.
أجاد الممثلون أداء أدوارهم بلا استثناء معبرين عن مواهب ممتازة، واستطاعوا جميعهم التعبير عن كل المواقف الانفعالية بشكل مناسب، لا سيما الممثل الذي أدى دور رئيس البنائين السابق الذي حاول إنقاذ الزوجة من الذهاب للجسر واستحق كثيرا من تصفيق وتشجيع الجمهور، أما الممثلون فهم: أحمد هاني – أحمد يسري – أمينة عمر – حاتم علوي – خالد أحمد – دينا محيي – رنا فرج – عمر خيري – عمر شناوي – عمر وليد – فرح أسامة – كامل الشافعي – مؤمن الصاوي – محمد حبيب – محمد عطوة – ندى فؤاد – نها مصطفى – ياسمين النهري – يوسف على. ورغم تمكنهم جميعهم من الأداء باللهجة الفصحى، فإنه كانت هناك بعض الأخطاء النحوية في تشكيل بعض الكلمات.
وأخيرا، فنحن هنا أمام عمل مسرحي ضخم، أبدعه مخرج متميز وله رؤيته وخبرته في قيادة وتكوين أعداد كبيرة من الفنانين على خشبة المسرح، كما كان واضحا المجهود الكبير المبذول من الجميع، وروح الفريق الواحد والالتزام لكل فناني وعناصر العمل في عرض قوي استحق أن يمثل الجامعة الألمانية في أكبر مهرجان للمسرح المصري.

أحمد محمد الشريف

 


إبراهيم جلال

Ibrahim@gmeil.com