أول من رأى الشمس الاتحاد ضد الوهم وتحقيق الذات

أول من رأى الشمس الاتحاد ضد الوهم وتحقيق الذات

العدد 593 صدر بتاريخ 7يناير2019

ليس من اليسير علينا تحقيق – وبلوغ – رغباتنا كلها، لأن هناك قواعد المجتمع الصارمة من أعراف وقوانين وتشريعات تجعل أغلب ما هو مُبتغى صعب المنال. بالتأكيد أن لفظة «الرغبات» هنا تحمل بين طياتها الكثير والكثير من المعاني، فالرغبات ليست مقتصرة على الشهوات الجنسية أو البيولوجية فقط، بل تعني في مواضع أخرى رغبة التحكم، رغبة السيطرة، رغبة الامتلاك.. إلخ. بالمجمل، فإن تلك الرغبات هي أساليب نزعة «تحقيق الذات» للتحقق. ولكن ماذا لو فشل الإنسان في تحقيق رغباته داخل إطار مجتمعه؟ هنا يجيب علماء النفس ويطلقون عليه «فشل التكيف».
في سبيل مناقشة موقع الرغبة الفردية والتحديات الاجتماعية التي تقمعها وتقيدها، قدم فريق تمثيل كلية الألسن بقيادة المخرج (فادي أيمن) على خشبة مسرح جامعة عين شمس، عرض “أول من رأى الشمس”، ضمن فعاليات مهرجان الاكتفاء الذاتي لعام 2018؛ حيث يتناول العرض عالم مجموعة من الأشخاص يعيشون في (يوغوسلافيا) لكنهم يعانون من فشل في التكيف مع مجتمعهم بعد نشوب الحرب العالمية الثانية - أي فشل في التكيف مع الواقع الخارجي لهم - مما يدفعهم للبحث عن عالم آخر صالح للعيش.
يبدو الأمر في البداية وكأنهم يبحثون عن عالم بديل من أجل المحافظة على حياتهم والبعد عن الحرب ومعاونة إخوانهم الجنود ومدهم بالأسلحة، ولكن مع مرور الأحداث يتضح أن اختيار عالم آخر للعيش ليس للبعد عن الحرب ولكن من أجل «تحقيق الذات»؛ فكل منهم وجد ذاته داخل ذلك المجتمع الجديد الذي صنعوه، على الرغم من كونه «غرفة ضيقة» في بدروم أحد المنازل، لا تدخلها الشمس منذ خمس سنوات، إلا أنه حقق لهم ما لم يقدر مجتمعهم الخارجي على تحقيقه.
منهم من مارس سلطتِه ووجد في نفسه موهبة القيادة، ومنهم من أحب دور الجنرال وتحكم في الآخرين، ومنهم أيضا من فرض عليهم ذلك المجتمع الصغير أدوارا غير صالحة لهم، كالجندية الصغيرة التي لم تر نفسها يوما سوى أنثى رقيقة غير صالحة لملابس الجنود وطريقة كلامهم وحركاتهم، ومنهم من أراد الهروب فقط من الواقع المؤلم كالزوج والزوجة المُستشعرين طوال أحداث العرض بأن ابنهم الموجود بالخارج قد وافته المنية، ولكن هاربين داخل تلك الحجرة المُظلمة خوفا من مواجهة الواقع الأليم، ومنهم الزوجة التي وجدت فيها سبيلا للقرب من عشيقها، وكأنهم جميعا داخل لعبة مُمسرحة كانوا هم صانعيها ومؤديها وضحاياها أيضا، متمسكين جميعهم ببعض الشعارات مثل «الوطن يكون حيث يكون الحب، فليعش الوطن، الوطن وردة على الشباك، الوطن ليس ترابا على الأرض» يرددونها دائما ويعلقونها على جدران حجرتهم المعتمة.
لم يقدم المؤلف (محمد عادل) كل المعلومات الخاصة بذلك العالم الذي تدور فيه أحداث نصه بشكل مباشر أو دفعة واحدة، بل ظلت تُقطر المعلومات في كل دقيقة داخل العرض لتجعله أكثر إثارة وقدرة على جذب انتباه المتفرج. ومع توالي الأحداث ينكشف ما هو أبعد من ذلك، عن طريق كسر الجدار الرابع وظهور زوجين خارج الخشبة - الحجرة - يدور بينهما حوار عن هؤلاء الغفلة الذين يظنون أن الحرب ما زالت قائمة، مصرحين أن الحرب قد انتهمت منذ خمس سنوات وأنهم يصدرون لهم أخبارا مُصطنعة من أجل الاستمرار في إنتاج السلاح الذي يتاجر به الزوجان لتنكشف اللعبة كاملة أمام الجمهور ويظل هؤلاء في غفلتهم حتى النهاية.
ديكور العرض كان من أهم العوامل المساهمة في نقل حالة العتمة التي يعيشها هؤلاء الأفراد، والمقصود بالعتمة هنا ليست فقط حالة الظلام والقتامة التي شكلها الديكور لعالمهم الخارجي «الغرفة»، بل العتمة/ الظلمة الناضحة من واقعهم الداخلي «ذواتهم»، هي من تسببت في تلك الظلمة الخارجية؛ لذا فإننا نجد أن الديكور لم يكتفِ فقط بمجرد رسم لغرفة قديمة يسيطر عليها اللون البني القاتم نقلا عن القِدم والتهالك بسبب عدم رؤية الشمس لخمس سنوات متتالية، بل أيضا ساهم في عكس المكنون الخاص بذواتهم.
وكذلك الإضاءة التي سيطر عليها الاصفرار لتوحي بقِدم كل ما هو موجود على خشبة المسرح، حتى الشخصيات التي شحبت ألوانها بسبب الرطوبة وعدم رؤية الشمس حيث تحمل رؤية الشمس في جُعبتها معاني عدة داخل العرض، فهي لم تقتصر على الظلمة (الداخلية، الخارجية) ولا حتى على عدم رؤية الحقيقة، بل رؤية الذات، فالذات التي لم تعرف حقيقتها هي الذات التي لم ولن ترى الشمس في يوم ما.
 

 


منار خالد