العدد 842 صدر بتاريخ 16أكتوبر2023
ربما لم تتح لي الظروف مقابلة الناقد الراحل «نزار سمك» أحد ضحايا محرقة بني سويف الآثمة- لكن من خلال حديثي مع أصدقائه ورفاق رحلته تأكد عندي أنه كان من هؤلاء الذي يملكون ما يسمى «يقين التمرد» رغم شخصيته المسالمة والهادئة، والطيبة المصرية التي تفوح من ملامحه التي تشبه ملامح طفل بريء رغم تجاعيد الزمن.
ولد نزار سمك في 17 أغسطس 1953، بمدينة «نبروه» بمحافظة الدقهلية، حيث كان يعمل والده –في تلك الفترة- موظفا بالإصلاح الزراعي، والذي لم يمهله القدر طويلا فمات في ريعان شبابه، تاركا أسرة مكونة من خمسة أبناء هم “فهر” والذي كان يعمل في إدارة مركز المعلومات بوزارة الشئون الاجتماعية،ـ و”تيسير” بجهاز محو الأمية وزوجة الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد، و”تماضر” زوجة المترجم الراحل عبد السلام رضوان، أما الأخ الأخير “قصي” فيعمل مستشارا في الحكومة الكندية لشئون البيئة منذ عام 1973، بالإضافة إلى نزار والذي تخرج من كلية الزراعة عام 1978م.
وقد شهدت حياته محطات عصيبة بداية من وفاة الأب ثم خروجه إلى مجال العمل مبكرا ليرعى الأسرة مع أخيه الأكبر “فهر” والذي ارتبط به كثيرا وعوضه عن حنان الأبوة المفتقد.
يصف “فهر” قائلا: “نزار صديقي وأخي الصغير الذي وقف معي بجوار الأسرة منذ عام 1968 بعد وفاة والدي.. لم يكن متعاليا في يوم من الأيام على أحد فهو شخص هاديء محب للآخرين يعرف كيف يكتم غضبه وحزنه بداخله”.
ولعل تجربة اليتم التي عاشها جعلته يبحث عن بدائل في الحياة فانهمك في القراءة وتثقيف نفسه، وهو ما أهله بعد ذلك للانخراط في الحركة الطلابية في مصر في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، والتي قام فيها بدور بارز مع زملائه أحمد بهاء الدين شعبان وحمدين صباحي ورضوان الكاشف وسمير حسني وفريد زهران، والذي كان العقل المفكر لأسرة “عبد المجيد مرسي” بكلية الزراعة وشارك نزار في صياغة رؤى الأسرة الطلابية حاشدا لمؤتمراتهم وهاتفا ومناديا بالحرية، مما عرضه للاعتقالات الكثيرة والمتكررة حتى بعد تخرجه من الجامعة، وكان ممن اعتقلوا في حملة سبتمبر 1981، ثم أفرج عنه عقب اغتيال السادات مباشرة مع مجموعة كبيرة من زملائه، وقد طلب بعدها لأداء الخدمة العسكرية، إلا أنه بعد أسابيع قليلة من استدعائه أعطته إدارة التجنيد شهادة بتمام خدمته لضمان الأمن- على حد تعبيرها- ومخافة أن يؤثر هو وزملائه بفكرهم الثوري على قطاع عريض من الجنود، ثم عين بعد ذلك في وزارة الزراعة والتي لم يتسلم العمل بها نظرا لإيمانه العميق بأن الدراسة شيء والعمل الذي يريده شيء آخر، فطلب تحويله إلى وزارة الثقافة، وبالعل تم له ذلك فعمل بقطاع الثقافة الجماهيرية حتى وصل إلى درجة مدير إدارة التخطيط والمتابعة.
والمتأمل لسيرته الوظيفية يرى أنه لم يستقر في منصب معين، ربما لطبيعته المتمردة التي ترفض كل ألوان الروتين الوظيفي من ناحية، ومن ناحية أخرى لإيمانه العميق بأن رسالة الفنان هي التلاحم الحقيقي مع المثقفين ومع المجتمع.
آمن “نزار” منذ شبابه المبكر بفكر الاشتراكية وضرورة العمل الثوري فكتب المقالات السياسية الداعية إلى التغيير من خلال التأكيد على المطالب الديموقراطية والاجتماعية والسياسية للإصلاح، ولعل كتابه الأخير “الوطن المباح” والصادر عن دار المحروسة عام 2004، أي قبل وفاته بأشهر قليلة، أصدق دليل على هذا التوجه، حيث رصد من خلاله ما آلت إليه الثقافة والسياسة المصرية، وتحولات النخبة المثقفة، قدم ذلك عبر لغة نقدية تتسم بكشف عميق وحاد للوضع الصعب الذي وصل إليه حال المثقف في ذلك الوقت.
وهذا الكتاب –بلاشك- وبما يمتلكه من جسارة رؤيوية يعد مرجعا مهما للمهتمين بتاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية في مصر خلال الثلاثين عاما الأخيرة من القرن العشرين.
كذلك لم ينفصل “نزار” عما يجري حوله في العالم من متغيرات إقليمية ودولية، فقد كان مشغولا بقضايا الحريات في كل مكان، خاصة في الجمهوريات الصغيرة والمهمشة دوليا.
وقد ناقش في كتاب ربما لم يلتفت إليه الكثيرون عن “البوسنة والهرسك” التاريخ السياسي المهمش لتلك المنطقة في العالم والتي طفت أحداثها على السطح من الأجندة الدولية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث ظهرت الصراعات خاصة بعد تفكك وانهيار “الجدار الاشتراكي” بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في آواخر الثمانينيات.
ورغم أن البعد السياسي قد أخذ كثيرا- من التجربة الفنية لدى “نزار سمك” إلا أنه دخل المغامرة السياسية بروح الفنان الوثابة والمتطلعة إلى الأفضل والأجمل إنسانيا.
ولا يمكن لأحد أن يتغافل عن الدور النقدي الذي قام به في تحليل العروض المسرحية خاصة في أقاليم مصر المختلفة ومهرجانات نوادي المسرح، وعروض المسرح الحر وغيرها.
ولأنه كان أحد الداعين إلى وجود مسرح فقير على نهج “جرتوفسكي” بما يتناسب مع طبيعة المكان والموروث الشعبي المصري، فكان دائم التجوال في المهرجانات المسرحية في العالم والتي تهتم بهذا الشكل من الأداء المسرحي فكان ضيفا شبه دائم على “مهرجان زيورخ” بسويسرا الذي يقدم ألوانا مختلفة من العروض التي تتسم بطابع تجريبي يعتمد على جدلية الأنا والآخر وسبر أغوار الهوة الإعلامية بين الممثل والمتفرج، مما جعله –دائما- في مقالاته ومتابعاته مسكونا بالسؤال عن ماهية المسرح وأدواته. فنراه مثلا يشير إلى العلاقة الشائكة بين النص المكتوب والصورة البصرية التي ينتجها “فلم تعد قوة النص في مقولاته وإنما في قدرته على التحول “إلى معادل بصري، وقابليته المتعددة للتأويل والتغيير وإعادة التفسير والاستجابة لإعادة التفكيك والترتيب بحيث ينتج تركيبا جديدا وبالتالي يمنح معنى جديدا”.
وإذا كان “أرتو” قد ركز في مسرحه على تنمية “اللغة الشاعرية” بطابعها الكلاسيسكي جانبا، مع إعطاء الفرصة لعناصر بديلة تعتمد على الحركة والإيماءة واستنطاق الأشياء التي تصبح فاعلا حقيقيا بما تحمله من طاقات كامنة، فإن “نزار سمك” يؤكد على أن “سلطة المخرج قد تراجعت بل وتراجعت أيضا سطوة الممثل وأصبح العرض الآن هو الذي اختفت فيه سلطة المؤلف المقدس والمخرج المبدع والممثل النجم، فمعظم العروض الحديثة خالية من هؤلاء، وقائمة على أكتاف شباب ربما يمثلون لأول مرة، في المسرح الحديث المتلقي الأكثر إيجابية حتى أصبح المتفرج كما يقولون: هو صانع العرض الذي يعيد بناءه ويتابع علاقاته”.
وإذا كان المخرج الإنجليزي الشهير “رينهاردت” يقول:
«إن معيارنا ليس أن نقدم مسرحية كما لو كانت تمثل في عصر المؤلف وإنما كيف نجعلها تحيا في زماننا». فإن «نزار سمك» يتساءل بلهجته الثورية: «هل نمارس التجريب على تراث مسرحي لم نمتلكه ولم ننتجه؟، بل ربما لم نهضمه بعد؟، وهل هو تجديد أم مجرد تقليد وتبني نظريات وأشكال وتوجهات وأهداف أفرزتها تجربة مغايرة ومخالفة، وأنتجها واقع اجتماعي وثقافي مخالف، له مطالب وأهداف مختلفة، إن الواقع يقول: إن التجريب والبحث عمن صيغ جديدة كان نوعا من التمرد والخروج والثورة على النسق العام السائد الذي تفرضه وترعاه المؤسسات الرسمية من جهة، ومن جهة أخرى السعي إلى ربط الفن بالمجتمع وتوظيفه في نقد الواقع، وهدم المسرح المميت وخلق مسرح حي جديد يشتبك مع الواقع في جدلية هدفها إعادة خلق الواقع وإعادة صياغته».