العدد 841 صدر بتاريخ 9أكتوبر2023
بعد عودة الزوجين - نجيب الريحاني وبديعة مصابني – من أمريكا الجنوبية، انضمّا إلى أمين صدقي وكونوا جميعاً – بالإضافة إلى المطربة «فتحية أحمد» - فرقة مسرحية جديدة أطلقوا عليها «فرقة دار التمثيل العربي»، وكانت تُسمى في إعلانات الصحف بثلاثة أسماء: فرقة أمين صدقي، أو فرقة نجيب الريحاني، أو فرقة أمين والريحاني!! وهذا يعني علو كعب أمين صدقي على الريحاني، أو أن نصيب أمين كان الأكبر من نجيب في تأسيس الفرقة!! بهذا التكوين الرباعي تم تجديد «دار التمثيل العربي» القديم - بوجه البركة أو بالأزبكية - ليكون مسرحاً ثابتاً للفرقة، كما كتب أمين صدقي مسرحية «قنصل الوز» لتكون العرض الأول للفرقة، وقام بتلحين أغانيها ثلاثة ملحنين، هم: داود حسني، وإبراهيم فوزي، ومحمد عبد الوهاب، وكل الصحف أعلنت عن العرض في منتصف ديسمبر 1925، بطولة الريحاني وبديعة وفتحية أحمد، وعبد اللطيف جمجوم، وعبد الحميد زكي، وشرفنطح.
فتحية أحمد
في هذه الفترة – كما أوضحنا من قبل – نشطت حركة النقد المسرحي بصورة لافتة للنظر، بسبب انتشار وظهور المجلات الفنية، وكذلك الصفحات الفنية في الصحف اليومية والأسبوعية، وبناء على ذلك ظهر النُقاد الأوائل المؤثرين في الحركة المسرحية، ومنهم «محمد علي حماد» الناقد الفني لجريدة «البلاغ»، الذي كتب عن مسرحية «قنصل الوز» ثلاث مقالات – في ديسمبر 1925 - الأولى كانت تمهيدية قبل العرض، والثانية والثالثة كتبهما بعد العرض!!
المقالة الأولى خصصها الناقد للحديث عن أبطال المسرحية، وتحديداً عن «فتحية أحمد»، لأن الريحاني وأمين صدقي وبديعة مصابني، الجمهور يعرفهم جيداً ولا يحتاج إلى أي حديث عنهم، خلافاً لفتحية أحمد! لذلك اهتم بها الناقد وكتب ملخصاً عن حياتها المسرحية، قائلاً: اليوم أقص عليكم طرفاً يسيراً من تاريخ حياتها وعملها المسرحي، ولكن قبل ذلك أقدم لك منها صورة حقيقية حتى تعرفها بالخيال إن كنت لا تعرفها بالسمع والنظر .. هي ليست بالطويلة ولا القصيرة، ولا البدينة ولا النحيفة - وخير الأمور الوسط - لها نظرة ثابتة وفراسة لا تخطئ في تقدير الأمور، ذات خلق رفيع ونفس عفيفة أبية، صوتها جذاب حتى في حديثها العادي، فإذا استمعت إليها لم تجد ما يشغلك عن استيعاب نبرات حنجرتها الهادئة السلسة. تمشي مشية الرجولة القوية الجادة، لا تتبختر ولا تتمايل بل خطوة جد وعزم. تؤمن بالله إيمان عابد متقشف، ولا يفارقها قرآن من الحجم الصغير، وهي تحرص عليه كل الحرص، وأنت بين يديها تحترمها قبل أن تعجب بها وتحتاط في لفظك قبل أن تنطق به، وتكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والأولياء الصالحين رضي الله عنهم أجمعين إذا أردت استجلاب رضاها. تقضي أوقات فراغها إما في مراجعة أدوارها وقطعها الغنائية، أو في العناية بمنزلها مدبرة له، أو متعهدة أطفالها الثلاثة – الباشا، وجمال، والبرنس - برعايتها وعنايتها فهي زوجة صالحة وأم رؤوم ومطربة مشجية وممثلة قديرة.
ثم عاد الناقد إلى ما كان ينتويه من ذكر مشوارها المسرحي السابق، قائلاً: أحدثك بإيجاز قصير عن عملها المسرحي .. فقد سلكت هذا السبيل صغيرة فتية وبدأت بمرتب صغير قدره 4 جنيهات في فرقة نجيب الريحاني!! ولم تمض ستة أشهر حتى كان مرتبها 15 جنيهاً وكانت قد بدأت في الظهور وبدأ الشعب يهتم بها، وعُنيّ بها مديرو الفرقة فأخذها أمين عطا الله إلى الإسكندرية بضعف مرتبها، ثم عادت إلى فرقتها الأولى بمرتب أربعين جنيهاً، وبدل أن تكتفى بغناء مقاطع فردية أعطيت أدواراً مهمة في الروايات، فقامت بإخراجها بجد وإحسان تامين، فطلبها أمين صدقي بمرتب ستين جنيهاً حيث أخرجت رواية «راحت عليك» تلحين فقيد الموسيقى الشيخ سيد درويش، ولا نزال نذكر هذه الرواية الخالدة بموسيقاها وبمطربتها الأولى السيدة فتحية، ثم لظروف خاصة طلبها محمود جبر لتمثل روايات السيدة منيرة المهدية فأخرجت في ثلاثة أسابيع ثلاثاً منها: «التالتة تابتة، وكلام في سرك، وكلها يومين» ونالت فيها من النجاح ما لم يكن منتظراً مما جعل محمود بك جبر يفكر في عمل رحلة إلى بلاد سوريا فسافر الجوق بأكمله إلى هناك حيث أخرجوا أيضاً مسرحيات «كرمن، وأدنا، وروزينا»، ومثلوا أيضاً روايات المرحوم الشيخ سلامة حجازي مثل: «عائدة، وروميو وجوليت، وضحية الغواية، واليتيمتين» وغيرها من تلك الروايات الخالدة، ونالت كلها نجاحاً وفوزاً بفضل ممثلة الفرقة الأولى ومطربتها السيدة فتحية أحمد، وألفت هناك في سوريا مع الأستاذ جورج أبيض فرقة «أبيض وفتحية» فمثلت مع الأستاذ في مسرحية «لويس الحادي عشر» دور ولي العهد، وغير ذلك من الأدوار المهمة التي تشهد لها فوق براعتها في فن الغناء والطرب بمقدرتها في فن التمثيل، ولظروف خاصة اضطرت إلى ترك المسرح إلى الغناء، على التخت فحفظت كل أدوار المرحوم الشيخ سيد درويش وغيرها، وكل من له إلمام بالموسيقى يعلم المشقة التي يكابدها المغني في التخت من ضرورة إجادة الكثير من أصول الموسيقى وفنونها والإحاطة التامة بمختلف ضروبها وشعابها. من كل هذا قد نستطيع أن نتخيل صورة واضحة للسيدة فتحية أحمد التي سافر خصيصاً أمين صدقي إلى بلاد سوريا للاتفاق معها على الحضور إلى مصر، وتأليف هذه الفرقة التي ستبدأ عملها هذا الأسبوع، وأظنك تعجب معي إذا علمت أن مرتبها الحالي هو 170 جنيهاً فقط لا غير في الشهر الواحد، وهو مرتب لم يُسمع به في مصر قبل اليوم، وليست له سابقة في عالم المسرح المصري، ولكنها تستحقه عن جدارة ومقدرة.
وفي المقالتين المتبقيتين المنشورتين تحت عنوان «قنصل الوز على مسرح دار التمثيل العربي» تحدث الناقد عن النص الذي كتبه أمين صدقي بصورة جيدة كونه مليئاً بالنكات الطريفة المستملحة والمفاجآت المسرحية التي تباغت الجمهور فتثير فيه عاطفة التشويق والتتبع لكل ما يحدث أمامه على المسرح، بالإضافة إلى الألحان الجميلة التي يستعيدها الجمهور مراراً وتكراراً. أما مناظر الرواية الفخمة، فقد بُذلت فيها الأموال الطائلة والأثاث والاستعداد المسرحي الذي ينم عن ذوق سليم واختيار حسن، ثم الملابس المنتقاة، ودع عنك روعة المكان نفسه وجماله فقد زُين كل البهو بالورق البديع وعُلقت به القناديل الكهربائية الملونة البديعة، فأصبح المكان ساحراً يجذب الجمهور إلى دار التمثيل العربي كل ليلة وكل مساء.
ثم تنصل الناقد من ذكر موضوع المسرحية حتى يدفع القُراء لمشاهدة العرض، قائلاً: لن ألخص لك الرواية فهذا لا يجدي ولا يفيد، بل أنه يذهب برونقها وبهجتها ولا يدنيها إليك! فهي قطعة لا تتجزأ ولا يمكن أن تنعم بها إلا إذا شاهدتها وأعجبت بها كما أعجب جميع الذين حضروها حتى اليوم وخرجوا وهم بين ثناء وحمد للفرقة ولمؤلفها ولممثليها وممثلاتها وملحنيها وللجميع. والآن نتكلم على إخراج الرواية تمثيلاً وتلحيناً، وأرى من الحق وقد حدثتك عن السيدة فتحية قبل الآن أن أبدأ اليوم فأحدثك عن السيدة بديعة مصابني التي لا تكاد تظهر أمام الجمهور حتى تسترعي كل انتباهه وعنايته، وتبعث فيه نشاطاً وحمية، فهو يتتبعها بشوق واهتمام، كونه بين يديها لعبة تفعل به ما تشاء وتملك عليه حواسه وشعوره وهو لا يزداد إلا حباً لها وتقديراً لمقدرتها الفنية وروحها الجذابة خفيفة الظل، التي تملأ المسرح إذا خطرت عليه حياة وقوة ولا تدع مجالاً لسأم أو ملل، لا تهاب جمهوراً ولا تخشاه فهي واثقة من مقدرتها في الإجادة والإحسان فقدمها ثابتة وشخصيتها تتجلى تماماً في كل مواقفها المختلفة التي يملأها بتفوق ظاهر وفوز لا يدانيه فوز.
وبعد هذا المديح، بدأ يتحدث عن دورها في المسرحية، قائلاً: قامت في رواية «قنصل الوز» بدور زوجة وكيل قصر البارون. ولست أدري ماذا يمكنني أن أقول عنها في هذا الدور. لها مواقف مختلفة في فصول الرواية الثلاثة فتارة هي جادة تعمل لخلاص نفسها من القنصل الذي يريد اختطافها، وتارة هي هازلة مازحة معه تستصبيه وتشعل فيه حرارة الرجل ونشاط الرغبة، وفي مواقف أخرى هي فتاة لعوب وامرأة هوائية تعبث بزوجها وتضحك منه، وفي كل هذا استطاعت السيدة بديعة أن تنال كل ما تطمح إليه ممثلة من رضاء الجمهور وتقديره وكل ما تستطيع فتاة أن تصل إليه من الفوز والنجاح، وفي النهاية كانت السيدة بديعة .. بديعة حقاً!
ثم تحدث الناقد عن الريحاني فمهد له بمديح كبير ذاكراً شيئاً من بداياته قائلاً: أما نجيب أفندي الريحاني «كشكش بك» فقد كان حياة الرواية وروحها ومحورها الذي تتشعب حوادثها وتفترق لتتجمع ثانية بين يديه وتلتئم. ما كاد يظهر في الليلة الأولى أمام الجمهور حتى تعالى التصفيق والهتاف، ولم يكن في الإمكان كبح جماح هذا الجمع الحاشد الذي تعالت أصواته بالنداء الحار مُرحباً بالممثل الذي لا يُجارى، والفنان الذي تفرد بنبوغه في مصر وشهد له الجميع بالمقدرة والمهارة. ونجيب الريحاني له تاريخ مجيد في عالم المسرح وأذكر بهذه المناسبة حديثي الذي عملته مع مسيو أستفان روستي وقد جاء فيه ذكر صديقه نجيب الريحاني الذي بدأ حياته الفنية صغيراً وبقطع صغيرة في مسرح الأبيه دي روز، فما زال يرتقي ويجد ويتقدم يوماً بعد يوم .. فهو عصامي بنشأته، بنى مجده شيئاً فشيئاً وأسسه متيناً عالياً، واليوم ها هو اسمه يعرفه الخاصة والعامة ويشيد بذكره أفراد الشعب كله ورواد الملاهي ومُحبي الفن الجميل، وليس بعد هذا فخر لممثل ومجد لفرد.
بعد هذه المقدمة، تحدث الناقد عن دوره، أو هكذا حاول، ولكننا فوجئنا بأن يزيده مدحاً، قائلاً: كان يقوم بدور «القنصل» فكان موفقاً وفي قمة الفوز والنجاح، وكان مبعث سرور ومتعة لكل المشاهدين الذين طالما قاطعوه من حين إلى حين بالهتاف والتصفيق، وكانت له مواقف غاية في القوة والجمال أداها كأحسن ما يكون وكان فيها محط أنظار الجميع الذين لمسوا فيه مقدرته الفنية التي لا تبارى! لو سمعت مدح زملائه الممثلين في مختلف الفرق على الكيفية التي أظهر بها دوره في هذه الرواية لأخذك العجب ولعلمت حقاً أن الفنان الحق يعترف به الكل ولا يستطيع فرد مهما كان مغرضاً أو متحيزاً إلا أن يعترف بالحقيقة ساطعة جلية وليس له إلا أن يعبر عن آراء هذه المئات التي تجتمع كل ليلة في دار التمثيل العربي فلا تزال تصفق للريحاني وتحييه حتى لا تبقي زيادة لمستزيد، فمرحى أيها الأستاذ وأيها العصامي وإلى الأمام دوماً أبداً فأنت خليق بما نلت من مدح وثناء.
وتحدث الناقد بعد ذلك عن بقية الممثلين قائلاً: وهناك أيضاً «عبد الحميد أفندي زكي» الذي قام بدور «البارون»، وأنا ممن يعجبون بهذا الممثل النشط البارع كل الإعجاب وقد تكلمت عنه يوم كتبت على «الغندورة» - [وهي إحدى مسرحيات منيرة المهدية] - فأثنيت علية ثناءً جماً وأراني هنا أيضاً أطربه وأهنيه على ما بذل من مجهود وما تكبد من مشاق في سبيل إظهار الشخصية التي رسمها له المؤلف بمهارة ودقة، فكان أميناً في إخراجها بارعاً في تجسيمها على المسرح. ولشد ما سر الجمهور وانشرح من حركاته وإشاراته التي يأتيها عفواً بلا تكلف فيسمو بمقدرته إلى منزلة سامية رفيعة. وقام «عبد اللطيف أفندي جمجوم» بدور «وكيل القصر» فأداه كما يجب، وكان في كل وقفاته على المسرح مجيداً مبدعاً. وجمجوم ممن زاملوا الأستاذ الريحاني زمناً طويلاً في العمل وشاركه في المجهود وكانت له أدوار على المسرح لا يزال جمهورنا يذكرها بالإعجاب والثناء، وإنّا لنأمل أن نراه دائماً في مثل هذا الاتفاق وهذه المقدرة. ومثّل «فؤاد أفندي شفيق» دوراً بديعاً وهي شخصية رجل كثير النوم حتى وهو واقف على قدميه «زنهار»، والشخصية بديعة تحبها وتعشقها وتعجب بمقدرة الممثل في إظهارها واضحة بارزة. وفؤاد أفندي شاهدنا له قبل اليوم أدواراً أخرى من غير هذا النوع، ولكن يظهر أن استعداده يتفق تماماً في مثل هذه الروايات! فقد بدا فيها مجيداً إلى مدى بعيد. بقي من الممثلين محمد أفندي كمال المصري «شرفنطح» وله دوران في هذه الرواية «عسكري» في الفصل الأول، ثم «خادم حانة» في الفصل الأخير، وقد أستطاع أن يكون في أحدهما غيره في الآخر، وكان أهم دوريه هو الأخير فكان مجيداً تماماً وصور الشخصية بمهارة واتقان فكان مثال العته والبله، ولقد كان مبعثاً لسرور كثير للجمهور وسبب انشراح له. ثم «أصلان أفندي مراد» لا ننسى أن نزف له تهانينا كاملة فقد أجاد القطعة التي عُهد إليه القيام بها إجادة يُغبط عليها.
توضيح مهم
أعتذر لك عزيزي قارئ مسرحنا لأنني أصبتك بالملل من نقد الناقد الشهير «محمد علي حماد»، كونك لم تقرأ نقداً بقدر ما قرأت مدحاً لكل شيء وفي كل شيء وعن كل شيء، دون أن تقف على شيء أو تخرج بأي شيء!! وهذا في مقالته الثانية عن مسرحية «قنصل الوز»، وسأضطر إلى زيادة جرعة الملل في مقالتي القادمة، لأن الناقد سيستكمل موضوعه في مقالته الثالثة!! وأرجو ألا تغضب – عزيزي القارئ - إذا قلت لك إنني حذفت كثيراً من عبارات المدح رغم كثرة ما نقلته من كلام الناقد!! والغرض من ذلك هو اطلاعك على بداية النقد الفني الذي صاحب عروض الريحاني، لأن هذا الأسلوب النقدي سيتغير كثيراً وسيتطور بصورة ملحوظة .. فيما بعد!!