فلسفة العمارة في المسرح الحديث (1-2)

فلسفة العمارة  في المسرح الحديث (1-2)

العدد 747 صدر بتاريخ 20ديسمبر2021


في بحثه الدءوب عن جوهر المسرح يرى “جرتوفسكي” أنه يمكن للعمل أن يتم بدون ماكياج أو ديكور أو أزياء أو إضاءة أو مؤثرات لكنه لا يمكن أن يوجد دون تلك العلاقة الحية بين الممثل والمتفرج وهذه الدعوة تنبني ـ في الأساس ـ على رفض تام لكل آليات المسرح التقليدي لذا كانت دعوته المستمرة للخروج من أسر الخشبة أو “مسرح العلبة إلى فضاءات أرحب، فيرى أن أرض المسرح يمكن أن تكون بحرا أو مائدة أو مسند مقعد أو قاربا أو زنزانة سجن”.
وهذا التصور الشكلي يأتي من تصور مواز ينبثق من الروح الإنسانية حيث كان يهتم بـ “عرض العملية الروحية للممثل لا يشترط فيه أن يكون محترفا، فالمهارة التمثيلية إنما تتأتى بإقامة ورش فنية تهتم بطرق الأداء المختلفة في محاولة لبناء نسق جديد يعتمد على اختراق حاجز اللحظة الشعورية لدى المتلقي ولن يتأتى ذلك إلا بالاندماج الكامل أو على حد تعبير ستانسلافسكي “إن الممثل يجب أن يكون قادرا على التعبير ـ بالصوت ـ عن تلك الدفعات التى تتذبذب على الحدود الفاصلة بينه والحقيقة، إنه باختصار يجب أن يكون قادرا على أن يبنى لغة التحليل النفسي الخاصة به للأصوات علي نفس النحو الذي يبني الشاعر العظيم قصيدته من كلمات وهو يقصد بذلك القفز على الحواجز الفاصلة بين الممثل ـ باعتباره مؤديا وبين شخصيته الحقيقية في الحياة ـ من ناحية، ومن ناحية أخرى تفتيت الهوية بين شخصية الممثل والجمهور فى محاولة لإقامة جدلية مسرحية تتوازى مع العرض بفضاءاته المختلفة، دون طغيان معرفي لفكرة التكنيك.
“لم تعد خشبة المسرح التقليدية هي المكان الوحيد لعرض مسرحية، وكشفت عروض التجريبيين في كل العالم منذ الستينيات أن رحبة المسرح أو منطقة العرض لا تقتضي أن تكون مجرد خشبة مسرح محددة، فهذا مخزن إيواء السيارات(الجراج) الذي اتخذه للعرض المخرج الأمريكي المعاصر ريتشارد شكنر ليس فيه افتراضا خشبة مسرح محددة.. والكثير من المسارح البيئية تذهب إلى حد أن الحدث يقع في أي مكان في البناء وعلى الأرض ومع انتشار الممثلين في أرجاء المسرح عبر صفوف المشاهدين وجلوسهم في المقاعد الخالية – إن وجدت - .. وكل هذا بالطبع لم يكن جديدا ولكنه أوجد سلوكا مسرحيا كهربيا في مثل هذا الإنتاج المسرحي..”(1)
ظهرت في أوروبا و أمريكا في القرن العشرين كثير من الأشكال الجديدة للمسرح في أعقاب الاجتهادات التي لجأ إليها المخرجون لإيجاد حلول وسطى، كامتداد خشبة المسرح لتكون ملاصقة لجلوس المتفرجين لتحقيق الحميمية التي افتقدها المسرح زمنا منذ عصور ازدهاره.
وتوالت الأبنية الحديثة بحيث صار كل منها يتبع تقليدا أصيلا في المسرح .. ومن هذه المسارح أيضا ما بني على أساس تحقيق المرونة الكافية كي يتكيف ومسرحيات الزمن الماضي وأساليب عصرها.
“وثمة شكل مميز للمسرح شائع الاستخدام حاليا وهو “مسرح الدفع المحوري” ويسمى أيضا المسرح المفتوح أو مسرح المنصة ذات الأبعاد الثلاثة بمعنى أن خشبته لا يحدها إطار مسرح العلبة أما الجمهور فيجلس على ثلاثة أبعاد للخشبة .. وهذا المسرح الأخير قد يكون ذا بعد واحد هو فتحة المسرح الأمامية دون إطار.
وثمة شكل آخر من العمارة المسرحية الجديدة بدأ بسيطا في الثلاثينيات هو مسرح (الحلبة) وقد ازداد ثراء بتجهيزه بأحدث الطرز المعمارية والفنية”(2).
ومنذ مسرح الستينيات والمسرح المعاصر يشكل انفتاحا فنيا وجماهيريا تمثل في مخرجين عباقرة أمثال “جرتوفسكي” .. وما أحدثه جرتوفسكي في المسرح أثمر كثيرا بين الأوساط الفنية في العالم.. ولا ينبغي بحال أن نغفل ما قدمه هذا العبقري لفناني عصرنا .. ففي أعمال جرتوفسكي مواجهة حاسمة ضد المسرح البرجوازي أو ما سبق أن أسماه “ميرهولد” بالمسرح الاحتفالي – مسرح غايته المتعة فحسب.
ولا يرجع السبب في اللجوء إلى الفقر المادي في المسرح إلى اتجاهات جمالية معينة، ففي منتصف الستينيات ظهرت رغبة في البحث عن المتفرج الحقيقي أينما كان خاصة أن هذا المتفرج قد عزف عن دخول الأماكن المخصصة تقليديا للعروض المسرحية.
وقد عضد من تلك الرغبة ظهور فرق تناضل من أجل إثبات وجودها ولا تملك سوى روح الكفاح، وعائدة بالمسرح إلى العرض على المنصات في الشارع بما يستلزمه ذلك من وجود نسق رمزي.(3)
في الثلث الأول من القرن العشرين بدأت في ألمانيا ثورة شاملة ضد فكرة المسرح التقليدي، فتم تنفيذ عدد كبير من مشروعات المسرح غير التقليدي، وتم ذلك “من خلال البحث عن جوهر المسرح الفني، لا في الابتكارات التقنية، ولا في هذه الخدع أو تلك، ولا في هذه المعدات أو غيرها، وإنما في حل هذه المشكلة تحديدا، المتعلقة بالبنية الداخلية الخالصة التي يمكن أن تسمح للفنون الجميلة أن تضع أفضل الأطر للعمل المسرحي للفنان، أو توفير أفضل الظروف لإدراك المشاهد”(4)
وقد أطلق المخرج الألماني “فوكس” على المسرح التقليدي اسم ة”صندوق التصوير المسرحي”‘ معتبرا أنه قد استنفد إمكانياته الفنية‘ ومن ثم لم يعد مفيدا للمسرح الدرامي المعاصر”.
وضع فوكس مفهوم “الشكل البارز”‘ “الخشبة البارزة”‘ أساسا لفكرته المعمارية عن المسرح‘ وهو المفهوم الذي تحدث عنه المعماري شينكيل في مطلع القرن. يرى فوكس أن الممثلين في أثناء أدائهم للعمل المسرحي يحرصون دائما على أن يكونوا قريبين من الأضواء الأمامية لخشبة المسرح، كما أنهم يصطفون دائما بمحاذاتها، مكونين شكلا بارزا. وهنا يطرح سؤال حول ما إذا كان من الضروري الوقوف ضد رغبة الممثل في الاقتراب من الجمهور، تاركا وراءه الديكورات التي صممها الفنان، لعل الأمر هو عكس ذلك، فيكون من الضروري عندئذ موائمة هذه الرغبة لصالح خشبة المسرح ذاتها، وكذلك لصالح مقدمتها ولصالح الإضاءة فيها، بعد أن يتم تجهيز الخشبة المعدة لميزانسين بارز يكون بالإضافة إلى ذلك مؤثرا على نحو كبير:” فكلما زاد عدد الممثلين الذين يقدمون أدوارهم وقد اصطفوا على سطح واحد، كان أداؤهم أكثر قوة بوصفهم شيئا ما مترابطا”.(5)
بعد ذلك جاء المعماريان الفرنسيان الأخوان جوستاف وأوجست بيرية عام 1925، فقاما ببناء خشبة مسرح خالية من الديكور، ويعد “أوجست بيريه” واحدا من مؤسسي العمارة الحديثة، لكونه نجح في تحرير العمارة من النزعة إلى الضخامة الثقيلة بفضل الشجاعة واستخدام أشكال إنشائية غير متوقعة تماما.
“رأى بيريه المسرح المعروف بالمسرح ذي الأقواس الثلاثة، والمعروف حتى الآن باسم الخشبة ذات البوابة الثلاثية حلا لمشكلة اختصار الوقت اللازم لعملية تبديل الديكور بين المشاهد المسرحية.
في هذا المسرح تتصل الخشبة بقاعة العرض لا بقوس واحد، وإنما بثلاثة أقواس، كل قوس مجهز بستارة منفصلة، وهكذا تتكون لدينا ثلاث خشبات مسرحية مستقلة يمكن أن تدور فوقها أحداث العمل المسرحي”.(6)

الهوامش:
د. أحمد زكي: اتجاهات المسرح المعاصر – الهيئة المصرية العامة للكتاب –القاهرة 1996 –ص13.
د.أحمد زكي: مرجع سابق ص15.
جون  دوفينيو وجون لاجوت: المسرح المعاصر ثقافة وثقافة مضادة –ترجمة نورا أمين – مركز اللغات والترجمة – أكاديمية الفنون القاهرة،ص 193.
فاديم بازنوف: عمارة المسرح في القرن العشرين – ترجمة د.أنور إبراهيم – مطبوعات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي؛ ص71.
فاديم بازنوف: مرجع سابق ص72.
مرجع سابق ص80.


عيد عبد الحليم