العدد 543 صدر بتاريخ 22يناير2018
رؤية الشيء وكأنه
لعل أكثر الصياغات تفصيلا لما أسميه نظرية التمثيل المنتمبة إلى الفلسفة الجديدة المنسوبة إلى (فيتجنشتاين) هي النظرية التي يعلنها (كيندال والتون Kindall Walton) في كتابه (المحاكاة باعتبارها تظاهرا Mimesis as Make believe) والتي يبتعد فيها عن نظرية (جومبريتش) ويتبع (ريتشارد فولهايم) في التأكيد على نقطة حاسمة هي أننا عندما نرى صورة في لوحة ننتبه إلى اللوحة والمحتوى التمثيلي للمضمون، وهما ليستا تجربتين منفصلتين، بل صورتين يمكن تمييزهما لنفس الصورة. ويرى (والتون) أن هذه الثنائية تنشأ من حقيقة أننا نستخدم الصورة باعتبارها دعامة في لعبة بصرية: يتخيل أحدهم صورة لطاحونة، ويفعل آخر نفس الشيء لأنه يلاحظ ملامحها في اللوحة.
الأهم من ذلك أن (والتون) حين يؤكد على الطريقة التي يستخدم بها المشاهدون العمل الفني يترك نظرية (فولهايم) ويتبع نظرية كل من (فيتجنشتاين) و(جومبريتش). وتسمح لنا نظرية (والتون) أن نستنتج العلاقة بين مشاهدة ممثل باعتبار أنه «هاملت» ومشاهدة رسم باعتباره بطة، بواسطة تصنيف أمثلة “رؤية الشيء وكأنه” المنسوبة إلى (فيتجنشتاين) داخل ظاهرة “تخيل الشيء وكأنه” الأوسع. وحجر الزاوية في هذه النظرية هو افتراض أن الأعمال الفنية توظف وكأنها «دعامات» في ألعاب التظاهر. إذ يعرّف (والتون) الخيالية fictionality بأنها تتكون من دعاوى التخيل، ويحدد الفرق بين مختلف صيغ التمثيل (الوصف والسرد... إلخ) في طبيعة الألعاب التي يمكن أن تستخدم فيها الأعمال الفنية بمختلف أنواعها والأدوار التي تؤديها. فمثلا، صورة الوجه لا تشير إلى الوجه بل تدعونا إلى تخيل أننا نرى وجها، حتى يمكننا أن نجعل كل جزء في الصورة ملائما داخل هذا الإطار، وأن أسأل نفسي بعضا من نفس نوع الأسئلة عن الصورة التي ربما أسأل نفسي إن كنت أمام وجه حقيقي من عدمه. يجسد (والتون) إشارة نظرية (فيتجنشتاين) في وصفه للأطفال أثناء اللعب. وبشكل عام، تذكرنا محاولة (والتون) في تفسير الأعمال الفنية بالشغف بالألعاب التي نلعبها مع هذه الأعمال من خلال محاولته تفسير الكلمات والجمل والاحتكام إلى دورها في ألعاب اللغة.
ومن المنطقي أن تعد استعارة (والتون) – وهي استعارة الدعامة - استعارة مسرحية. ومع ذلك لم يكن لدى (والتون) بالمقارنة الكثير ليقوله عن المسرح كشكل فني. فالممثلون بالنسبة له نوع آخر من أدوات الألعاب التي يلعبها المشاهدون، ولا سيما أنه يسميهم «الأدوات الانعكاسية» مثل صندوق (فيتجنشتاين) وحصان (جومبريتش): لا يحثنا الممثل على تخيل أن ما نراه هو الشخصية، بل يحثنا أن نتخيل أنه هو نفسه الشخصية، فهو يرى:
“يتخيل المتلقون أن (لورانس أولفييه) عندما يلعب دور (هاملت) أنه أمير الدنمارك، وأن أمامهم شخص حقيقي
يتخيلون أنه في مهمة للانتقام لمقتل أبيه، وأنه يتردد في تنفيذها، بذلك تصبح التخيلات أكثر حيوية في حضور
الممثلين. واقتراحي هو أن حضورهم مهم لأنهم موضوع هذا التخيل”.
يعد تحليل (والتون) مفيدا ما دام ملائما، ولا سيما لقدرته على الاعتراف بالصلة الوثيقة بين فن التمثيل المسرحي والأشكال الفنية التمثيلية الأخرى، ولكن النظرية لن تكون منصفة في ما يتعلق بالفروق. فمثلا، يؤيد (والتون) استبدال (فولهايم) لتعبير «أرى في الشيء seeing in» بتعبير «أرى الشيء كأنه seeing as» لكي يصف ما نفعله عندما نشاهد الصور التمثيلية. ويلاحظ (والتون) أننا لا نرى صورة الحصان باعتباره حصانا، فمن الطبيعي أن نقول إننا نرى حصانا في صورة لحصان. ولكننا نلاحظ أن التمثيل يختلف عن الرسم في هذا السياق. لذلك، من الطبيعي أن نصف تجربة مشاهدة أداء (هيلين هانت) لشخصية «فيولا» بقولنا “رأيت (هيلين هانت) وكأنها فيولا”، بينما يوحي تعبير “رأيت فيولا في صورة (هيلين هانت)” بشيء مختلف تماما، مثال ذلك أنني لاحظت التشابه بين (هيلين هانت) الممثلة و”فيولا” الشخصية الخيالية. عموما، يبدو أن «أرى في الشيء» تتطابق بشكل ملائم مع أشكال الفن غير الانعكاسية مثل الرسم والتصوير الزيتي، وتنطبق «أرى الشيء كأنه» على أشكال الفن الانعكاسية مثل الأداء الدرامي.
ويفشل (والتون) بشكل كبير في تمييز المسرح عن أشكال الفن الأخرى التي تستخدم الأدوات الانعكاسية مثل النحت. وبعكس النحت، الممثلون ليسوا مجرد أدوات في لعبة التظاهر عند أناس آخرين، فهم لاعبو اللعبة. لذلك، إن أغلب ما اضطر (والتون) أن يقوله عن تفاعل المشاهدين مع الأعمال الفنية التمثيلية ينطبق مباشرة على انغماس الممثل التخيلي في الحدث المسرحي. فالممثل يستوعب إلى حد كبير في الدور الذي يحدده (والتون) لمشاهدي الأعمال الفنية.
فما هو إذن دور مشاهد المسرح؟. على الرغم من أن مختلف أشكال المسرح تدعو المشاهد إلى المشاركة بمختلف الطرق، فإن ما يجعل المسرح – ولا سيما المسرح التمثيلي - مميزا كشكل فني، وفقا لمصطلحات (والتون) أن الشيء الذي يستخدمه المشاهد كأداة في لعبة التظاهر هو ذاته لعبة تظاهر. فالمشاهد لكي يلعب دوره بكفاءة لا بد أن يفهم قواعد اللعبة التي يلعبها الممثلون. ولكي يفهم اللعبة يجب أن يفهم الإطار الخيالي الذي تتجلى فيه اللعبة، بمعنى أن يفهم ما يسميه (ستانسلافسكي) الظروف المعطاة لتصديق عالم تظاهر الممثل. فمثلما يقدم مفهوم البطة والأرنب الخطوط التي ترتب إدراكنا لرسم «البطة/ الأرنب»، يقدم السرد الخيالي للمسرحية الخطوط التي ترتب إدراك المشاهدين للعبة التي يلعبها الممثلون.
تخيل مثلا مشهدا مسرحيا تحتاج فيه شخصية وليكن اسمها «جين» أن تعبر النهر، ويجب عليها أن تتملق رجلا في قارب وليكن اسمه «جاك». وترغب «جين» أن تعبر إلى الجانب الآخر من خشبة المسرح (أعني الجانب الآخر من النهر)، ومع فشلها، تسليما بأن رغبتها أن تمشي على القماش لكي تصل سوف تكون غامضة بالنسبة لنا إن لم نفهم السياق الخيالي الذي يؤسس قواعد اللعبة. ويمكن أن نحصل على نفس النتيجة في المسرحيات الطبيعية: الشخص الذي لا يفهم لعبة التظاهر الذي يؤديها الممثلون ربما لا يفهم معنى الألعاب العاطفية التي تحدث على خشبة المسرح، مثل رفض الممثل الذي يلعب دور “والتر يانجر” أن يوقع على ورقة في نهاية مسرحية “زبيبة في وجه الشمس”.
من داخل الخيال ومن خارجه
تقترح (بريندا لوريل Brenda Laurel) في كتابها «الكومبيوتر باعتباره مسرحا computers as theater» توازيا مستنيرا بين فن التمثيل وأجهزة الكومبيوتر. وتبرهن أن كل من الكومبيوتر والمسرحيات يخلقان أماكن افتراضية يمثل فيها الناس. فهي تقول «إن المشكلة في تصميم السطح المشترك في الكومبيوتر هو كيف يمكن أن يشارك الناس كوسطاء في السياق التمثيلي. ويعرف الممثلون الكثير في هذا الشأن، وكذلك الأطفال الذين يلعبون لعبة التظاهر. فغرائز اللعب الكامنة في داخلنا هي أعمق وأقرب مصادر المعرفة في ما يتعلق بالتمثيلات التفاعلية. والشيء المشترك بين الأداء الدرامي والسطح المشترك في الكومبيوتر والواقع الافتراضي هو أنهم يقومون بإعادة بناء مجازي للواقع. فمثلا، الطريقة التي يبني بها مجاز سطح المكتب السطح المشترك في برامج الويندوز والماكنتوش في الكومبيوتر. إذ بمجرد أن نتعلم الأشياء المهمة في برنامج الماكنتوش باعتباره ملفا متحركا – بمعنى الإشارة إلى أيقونة بعينها وسحبها باستخدام الفارة (الماوس) – ونحدد الملفات المطلوب إزالتها، نضعها في سلة المهملات. لاحظ أن تفاعلنا مع الكومبيوتر لا يحكي لنا قصة عن سطح مكتب خيالي بعيد عن جهاز الكبيوتر، بل إن مجاز سطح المكتب له معنى في تفاعلاتنا الحقيقية مع الكومبيوتر الذي نستخدمه. إن ما أقترحه هنا بالضبط هو أن الوظيفة التي يؤديها السرد الخيالي في التحكم في حركات الممثلين على خشبة المسرح تسمح للمشاهدين أن يفهموا تلك الحركات.
يصف (بول ريكور Paul Ricoeur) مفهوم المجاز المتضمن في هذا التحليل بأنه نظرية تفاعل المجاز في مقابل نظرية الاستبدال. فطبقا لرأي (ريكور) تعمل المجازات بطريقة مناظرة للصيغ العلمية: الأشياء نفسها هي التي «ترى وكأنها»، وهذا يتطابق مع الصفة الوصفية للصيغة. ولنلاحظ أن نموذج تفاعل المجاز يضع خطا فاصلا بين المعنى المجازي والمعنى الحرفي. ولنتأمل مرة ثانية مثال السطح المشترك في الكومبيوتر. فمثلا، يفترض مصطلح «ملف File» أو «حافظة أوراق Folder» معاني جديدة ترتبط بالمعاني القديمة عند استخدامهما بالإشارة إلى الكومبيوتر. إذ عندما نستخدم الكومبيوتر ربما نعتمد بكثافة على المعاني القديمة لكي نفهم المعاني الجديدة، لأن الكلمات لها خاصية مجازية قوية. ولكن بمجرد إجادتنا استخدام الكومبيوتر تفقد هذه الكلمات تضميناتها القديمة وتشير مباشرة وحرفيا إلى المعاني الجديدة. وبالمثل، في مسار الأداء المسرحي يتبنى «هاملت» معنى جديدا، فيصبح العلامة الملاصقة للممثل التي هي مجازيا أمير الدنمارك، وحرفيا أمير في لعبة تجري على خشبة المسرح.
ودعونا نسمي الخطوط الخيالية التي تبني الأداء «في الخيال infiction» الذي يمكن أن نميزه عن المضمون السردي أو القصصي الذي نستنبطه من حدث الأداء، والذي أسميه “من خارج الخيال outfiction”. فمن داخل الخيال هو مجموعة الفروض التي نتخيلها والتي تنشئ النزعة الخيالية وفقا لرأي (والتون). وبالنسبة للممثلين (كما هو الحال في ألعاب التظاهر عند الأطفال وعند المشاهدين في المسرح المشارك)، فإن فعل التخيل ليس مجرد تدريب ذهني، بل إنه يتخذ شكلا ملموسا: يتحكم الخيال في حركات الممثل البدنية في العالم الحقيقي. وبقدر ما يستخدم المتلقون السرد (القصة) باعتبارها خيالا، يتركز انتباههم على الأداء نفسه. فالخيال لا يوظف باعتباره الطرف الثالث الذي يوجد خارج الأداء، الخيال يتلازم مع الأداء نفسه، مثلما يتلازم تعبير الوجه مع الرسم الذي ذكره (فيتجنشتاين). والوصف المجازي لهذه الحركات هو ما أسميه “من خارج الخيال”. ووصف (فيتجنشتاين) للوجه الذي استشهدنا به آنفا هو “من خارج الخيال”، وينطبق نفس الشيء على قصة «هاملت» كما فهمتها من أداء عرض “هاملت” – هي أيضا من خارج الخيال.
يحول فعل تفسير التلقي أو التفسير النقدي الذي يقدم “خارج الخيال” العمل الفني إلى علامة. ولنتذكر أن (بيرس) يصف الدلالة بأنها «علاقة ثلاثية»، أعني باعتبارها العلاقة غير القابلة للاختزال بين ثلاثة عناصر هي العلامة وباعثها ومفسرها. ويقول (بيرس) توجه العلامة شخصا ما، بمعنى أنها تخلق في ذهن ذلك الشخص علامة مساوية، أو ربما علامة أكثر تطورا. فالعلامة التي تخلق أسميها مفسر العلامة الأولى. وما أعرّفه بأنه «خارج الخيال» يحقق الدور الذي يرسمه (بيرس) للمفسر. فبقدر ما يستخدم المتلقون القصة باعتبارها خيالا يكون تركيز انتباههم الأساسي هو الأداء. فالخيال لا يوظف باعتباره الطرف الثالث الذي يوجد خارج الأداء، فهو ملازم للأداء، مثلما يتلازم تعبير الوجه المرسوم في مثال (فيتجنشتاين) مع الرسم. تمثل هذه الظاهرة ما يصفه (بيرس) «الثنائي الطرف». وهو يرتبط بالعلاقة بين طرفين: المتلقي ونوع معين من الأداء، مثل عرضي “أنتيجون” أو “نهاية اللعبة”، حيث تندمج القصة والأداء معا لتكوين ما يسميه (نيلسون جودمان Nelson Goodman) التضمين الدلالي في مكان واحد. فعندما يستخلص المتلقون المضمون السردي من الأداء المسرحي، ألا تكون لدينا علاقة ثلاثية بين المتلقي والأداء والعالم الخيالي. وعندئذ لا يعايش المتلقي أداء لشخصية «أنتيجون» بل يعايش أداء لمسرحية «أنتيجون».
وأرى أن العلاقة بين السرد (القصة) والأداء تسير في طريقين: من السرد إلى الأداء، ومن الأداء إلى السرد. وتميل نظريات التمثيل المسرحي، وبالطبع نظريات التمثيل في الفن عموما إلى تحويل نظرتها في أحد هذين الاتجاهين، ويلزمون أنفسهم بالمعنى الذي نستنبطه من الأعمال الفنية. ويتضح هذا الميل في نظريات السيميوطيقا. فمثلا، تؤكد (جوليا كريستيفا Julia Kristiva) على الباعث السيميوطيقي لاختزال الأعمال الفنية إلى خيالها الناتج عندما تؤكد أن التصوير الزيتي ليس إلا النص الذي يحلله. ورغم ذلك، من المنطقي أن يقع منظر أحادي مثل (والتون) في شرك السيميوطيقا. فبينما يعترف بوجود معنى غير تمثيلي في الفن، تفترض نظريته أن الهدف النهائي للألعاب التي نمارسها مع الأعمال الفنية هي ألعاب لتوليد مجموعة افتراضات خيالية.
ومع إدراك طبيعة أسلوبي العلاقة بين الأداء والسرد، وبالسماح أحيانا لاحتمال أن يستخدم الخيال أهم وظائفه في الدخول فضلا عن الخروج يمكننا أن نتجنب صعوبة المأزق النظري. فـ(والتون) يعرف ما يسميه الأسئلة السخيفة حول الأعمال الفنية، ومنها مثلا، لماذا يجلس كل الحواريين على ناحية واحدة من المائدة في لوحة (دافنشي) “العشاء الأخير”؟ ويكرس (والتون) أغلب هذه المشكلة لأمثلة من المسرح، رغم أنه نادرا ما يقترب من الأمثلة المسرحية في مواضع أخرى من كتابه، ولا سيما أنه يطرح أيضا نفس الأسئلة السخيفة مثل: كيف نجح «عطيل» ذلك القائد المغربي، الذي لا يكاد يتسم بالعقلانية، أن ينظم هذه الأشعار الرائعة فورا؟ وكيف يمكن أن يكون كل ما تقوله (ديكنسون Dickinson) وتفعله في قصيدة «فاتنة أمهريست Belle of Amherst» خياليا رغم ذلك، لأنها انعزالية؟ وعلى الرغم من أن مناقشة (والتون) دقيقة ومثيرة، فلم تقدم نظريته أي حل واضح. لأن كل ما يقدمه ليس إلا سلسلة من الحلول المتعلقة بتلك الأسئلة: في بعض الحالات يرفض العمل الفني أسئلة بعينها، وربما لا يؤكد على أسئلة أخرى، وقد يكون من الأفضل أن يقبل بعض الأسئلة ويؤكد الحقائق الخيالية التي تتصارع مع بعضها البعض من أجل تخفيف حدة الصراع من خلال إنكار خيالية اندماجها معا. فالنظرية لن تحدد المعايير التي يستخدمها المتلقون لتحديد المنطلق الذي يجب أن يتبنوه تجاه أي سؤال بعينه.
وبمجرد أن ندرك أن الدخول في الخيال وحده كافٍ لمنح المعنى للحظة بعينها في المسرح، تتلاشى الحاجة لإثارة دفاعات مضادة للأسئلة السخيفة. فمثلا، تخيل عرضا مسرحيا يرتدي فيه الممثلون أقنعة ساخرة مبالغا فيها، وتضع ممثلة أنفا ونظارة ضخمتين وتعكس النظارة صورة قدمين من جانبي وجهها. وافترض أن جميع الممثلين لا يعترفون بهذا المظهر المبالغ فيه. إذ يبدو أن العناصر المبالغ فيها توظف باعتبارها تعليقات على صفة الشخصية أو طرازها الاجتماعي، ولا توظف باعتبارها توضيحا حرفيا للشخصية في عالم الخيال. وكل ما قلته حتى الآن عن العرض المسرحي الافتراضي ييسر من عملية تفسيره باستخدام التحليل السيميوطيقي. ولكن تخيل الآن أن الممثلة في لحظة معينة من المسرحية حاولت أن تخرج من الباب، ولكن النظارة كانت أضخم من الباب، فتحاول أن تخرج من الباب بشكل مائل، ولكن أنفها الأكبر من الباب يمنعها أيضا. وفي النهاية، تدفع جسمها بالقوة من خلال ثني الأنف بيدها بجهد كبير حتى تخرج. وبمجرد أن تمر من الباب تعيد الأنف إلى وضعه السابق مع صوت فرقعة مسموعة. فماذا يجب أن يصنع المشاهد مع هذا الحدث؟ وما الذي يمكن أن يحدث للعالم الخيالي؟ تصبح حركات الممثلة بلا معنى إن لم يتخيل المشاهد أن الشخصية لديها فعلا مشكلة في الخروج من الباب، وقد تشير هي أو أي شخصية أخرى إلى مظهرها المضحك. وقد يكون التفسير البديل هو أن نفهم أن المسرحية تقدم عالما فنتازيا أو عالما خياليا علميا يختلف فيه التشريح البدني للإنسان عن عالمنا. ولكن تبدو هذه القراءة حرفية.
ولنتأمل مثالا آخر من المسرحية الموسيقية «سيدتي الجميلة My fair lady» حيث يحتفل «هنري هيجنز» و«إليزا دوليتل» و«كولونيل بيركينج» بنجاح «إليزا» في تعلم نطق اللغة الإنجليزية الفصحى برقصة على أنغام أغنية «المطر في إسبانيا». فما الذي يفترض أن يحدث لعالم الخيال أثناء هذا المشهد؟ بالطبع، تلزم تقاليد المسرحيات الموسيقية أن يغني المؤدون ويرقصون أثناء أداء أدوارهم لتمثيل عواطفهم. ولكن أغنية دوليتل التالية “يمكنني أن أغني طوال الليل» توحي بأن الشخصيات يرقصون فعلا في عالم الخيال. لذلك يصبح السؤال هو: هل رقصوا نفس الرقصة التي رقصها المؤدون؟ يبدو من المستحيل أن ننسب مهارة وضع الألحان الراقصة والرقص إلى تلك الشخصيات. ولذلك لا بد أن نسأل كيف رقصوا بالضبط؟ وكم من الوقت استغرق هذا الرقص؟ علاوة على ذلك، يضع غموض الرقص مكانة المصاحبة الموسيقية في موضع السؤال. ففي الوقت الذي نفهم فيه أن المصاحبة الموسيقية ليست عنصرا سرديا في العالم الخيالي – لا تصور المسرحية واقعية سحرية زاخرة بوسائل خفية – فإن أسلوب رقصة التانجو المتناغمة هي الشيء غير القابل للتصديق إذا تخيلناها بدون مصاحبة موسيقية. ويعقد الغموض المحيط بالرقص والموسيقى تفسيرنا لغناء الممثلين الذي يمكن تفسيره من الناحية الأخرى بأنه تفسير أسلوبي للحوار المنطوق. فهل يفترض أن تغني الشخصية الأغنية التي نسمعها، أو حتى صياغة مبسطة لها؟ لا مفر من تحديد الإجابة على هذه الأسئلة.
بينما تبدو هذه الأسئلة منطقية إلى حد بعيد من منظور السيميوطيقا، فإنها لا تزعج الذين يشاهدون المسرحية الموسيقية. وأرى أن السيميوطيقا مهما كانت قيمتها كأداة نقدية، فإنها ليست النموذج الملائم لوصف الطريقة التي يعايش بها المشاهدون المسرح. فالمتلقون لا يتعاملون مع الأداء المسرحي باعتباره نصا يستنبطون منه تفاصيل العالم الخيالي، بل يتركز انتباههم على الأداء نفسه، وعلى مغزى وقوة حركات المؤدين داخل العالم الذي يخلقه هؤلاء المؤدون على خشبة المسرح. ويتناظر سؤال ما يمثله القناع أو ما تمثله الموسيقى مع سؤال أي نوع من أعمدة الأيقونات التي يمكن نقلها من سطح المكتب الافتراضية على شاشة الكومبيوتر يتطابق مع تلك الموجودة على سطح المكتب الفعلية. تخلق تقاليد الأداء المسرحي وتقاليد العمل السردي الخيالي معا بنية يختار من خلالها المخرج والممثلون حركاتهم التي يؤدونها. ويكمن الاهتمام بكل من مشهد القناع الافتراضي ومشهد مسرحية «سيدتي الجميلة» في الطريقة الإبداعية والحيوية التي يلعب بها المؤدون لعبتهم المسرحية. بمعنى آخر، يوظف السرد باعتباره داخل الخيال وليس خارجا منه.
وربما نتهم الأداءات التي تميز داخل الخيال على حساب الخارج منه الذي يتسم بالانغماس في شكلية مضحكة. ومثال الكوميديا الموسيقية مثال هش بالنسبة لهذه التهمة، لأن ذلك قد يحدث بشكل مختلف في بعض أعمال مخرجي الطليعة المسرحية، مثل (روبرت ويلسون) و(ريتشارد فورمان). ورغم ذلك، لفهم وظيفة داخل الخيال، فإنه يسمح لنا أيضا أن نقيم بشكل أكبر القوة الكامنة في الأداء باعتباره مختبر التغيير الاجتماعي. فمثلا، ورشة مسرح المنتدى Forum theater عند (أوجستو بوال Augusto Boal) بدون ممثلين محترفين تقوي أعضاء الجماعات المقهورة – مثل عمال المزارع والأزواج والزوجات المنفصلين - من خلال تقديم الزمن والمكان والبنية لهؤلاء المشاركين لتبني أدوار جديدة واستراتيجيات جديدة لحياتهم. ويرى علماء النفس أن هذه الوظيفة تستخدم في ألعاب الأطفال. ومفهوم المسرح الذي أؤيده هنا – باعتباره تجسيدا لبنية واقع بديل – يتضمن مفهوم (جيل دولان Jill Dolan) «الأدائي المثالي Utopian Performative»، ويقدم أساسا فلسفيا للتأكيد المثالي بأن الأداء – وليس الدراما فقط – هو أحد الأماكن القليلة الذي تكون فيه التجربة المثالية ممكنة.
تأليف: ديفيد سولتز
ديفيد سولتز يعمل رئيسا لقسم دراسات السينما والمسرح بجامعة جورجيا منذ عام 2009. وقد سبق أن قدمت له جريدة “مسرحنا” دراسة مترجمة بعنوان “الأداء المسرحي وخطأ تفسير النص” في العدد 513 - 2017/ 6/ 26.
هذه الدراسة مأخوذة من كتاب (فلسفة الأداء المسرحي Staging Philosophy) من مطبوعات جامعة ميتشجان – الولايات المتحدة الأمريكية. وهي تمثل الفصل العاشر من الكتاب وتقع في الصفحات 203 - 220.