حقيقة مسرحية العشرة الطيبة!!

حقيقة مسرحية العشرة الطيبة!!

العدد 837 صدر بتاريخ 11سبتمبر2023

نستكمل اليوم ما ذكره – زكي طليمات أو - ناقد جريدة «المقطم» عام 1923 عن مسرحية «الليالي الملاح» لفرقة الريحاني، قائلاً: يلوح لي أن الريحاني شاء أن يفتتح عمله بعد غيابه في الشام برواية تحمل مؤثرات جديدة لجذب الجمهور، فقدم رواية أشرك في حوادثها الإنس والجان، وجمع إلى الهزل منها ما نسمعه في الحكايات من غريب الأخبار عن تدخل الجان في شؤون الآدميين، وما نقرأه في الأساطير من مدهشات مغائر المردة والشياطين، ثم أضاف إلى ذلك المغامز المعهودة التي تتملك عواطف الجمهور فتبعثه إلى التصفيق والإعجاب. وتنتسب هذه الرواية في كثير منها إلى ذلك النوع من الروايات المُلحنة المعروفة في الأدب (...) [مكلمة غير مقروءة وأظنها الغريب أو الغرائبي أو الخرافي .. إلخ]. وهو نوع يشترط في بنائه أن تقع حوادثه في أرض الجان. وكما نرى يكون مجال الخيال واسعاً في هذا النوع إلى إيراد المدهش من الأفعال والحوادث، وكذلك يتخذ أحياناً من هذا الجو الخيالي قناع لتقديم حادثة واقعية!!
ويستكمل الناقد موضوعه، قائلاً: اشتراك الموسيقى في هذا النوع يكون غالباً لإيراد النغمات الجديدة والألحان العربية، واشتراك التمثيل – بما يحتويه من صناعة الممثل ورسم المناظر وقطع الأثاث وتنسيق المسرح – يكون للتعبير عن مدهش الأطوار وإيجاد ذلك الجو الغريب الذي يبدو في مخيلتنا عندما نفكر بمنازل أولاد النيران. ولعل أقرب اسم نطلقه على روايات هذا الصنف هو لفظ «جِنيّة» نسبة إلى أشخاصها من الجان. ورواية اليوم ليست جنية صحيحة لوقوع بعض حوادثها في منازل الأنس كما أنها ليست قطعة عادية من الأوبريت، وتقوم حوادثها على أسطورة شائعة معروفة باسم «علاء الدين والمصباح العجيب»، رغماً من أن واضع الرواية «بديع أفندي خيري» حاول إخفاء ذلك بإيجاده جواً جديداً للرواية يخالف الجو الذي وقعت فيه حوادث الأسطورة وهو بلاد الصين، وبتغيير أسماء أبطال الأسطورة واقتضاب بعض وقائعها. الجو الذي أوجده بديع للرواية يكاد يكون مفقود اللون! ففي حين نفهم من كلام المحاورة في الفصل الثاني وأن الحادثة في بلاد العجم إذ تأخذ من أحاديث الفصل الرابع أننا في «سمرقند» عروس بلاد التتار، مع أن منظر هذا الفصل وهو بهو الحاكم ليس إلا قسماً من السراي التي شاهدنا دار الحريم فيها في الفصل الثاني! إذا أخذنا على مناظر الرواية بُعدها عن تصوير ذلك الجو الخاص ببلاد التتار رغم جمال تلوينها وزخرفتها، فلنا أن ننحي باللائمة على بديع أفندي لتغييره جواً صينياً رسم بجلاء في كلام الأسطورة بجو لا يعرف هو شيئاً عن مجتمعه وعوائد سكانه!! ولعل هذه آخر مرة يجنح فيها المسرح الهزلي إلى هذا الوهم، فلا تعد ترى مشاهد يزعمون أنها تقع في بلاد كالهند مثلاً - كما وقع في رواية «كان زمان» - التي وضعها أمين صدقي، في حين تتبادل النكات فيها على الطريقة المصرية، ويؤدي الممثلون التحية على النمط البلدي المعروف في مصر، ولا تمثل المناظر جواً هندياً. أما سياق الرواية فغير منقطع بشيء دخيل عليها وحوادثها مرتبة بشيء من المهارة مما لا يجعل الملل يتسرب إلى الجمهور المشاهد، وكذلك أزجالها فإنها بلباقة وظرافة. والذي يلفت نظر المشاهد لهذه الرواية أنه لا يجد أثراً لشخصية «كشكش» المعهودة التي لبسها الريحاني طول حياته في المسرح الهزلي. وهذا أمر جدير بالاعتبار فقد كان التصاق هذه الشخصية بكل رواية يبرزها الريحاني جعل هذه الروايات قريبة من مشاهد «الكافيه كونسير» أو المشاهد التي رأيناها من المهرجين «علي كاكا» و«كامل الأصلي» و«فهيم الفار».
وينتقل الناقد إلى الموسيقى فيقول: كان نصيب الموسيقى كنصيب المناظر في رسم الصبغة المحلية للرواية، وقد كان الأجدر بملحنها أن يأتي ببعض ألحان تركية – لقربها من الألحان النثرية – ويمزجها بما كان ينشد في مجلس الأمير التتري وفي دار حريمه حيث لم أسمع غير ألحان مصرية شائعة وفرديات سورية، ولم يراع الملحن للرواية جو الفصل الثاني حيث مغاور الجان، فلم أسمع صرخات الجان وولولتهم الغريبة في ذلك اللحن الطويل الذي أنشدوه مهددين نوّاس ورفيقه. وفيما عدا ذلك كان للموسيقى بعض الجلاء في التعبير عن بعض العواطف.
ثم تحدث عن المناظر والرقصات، قائلاً: أضيف إلى ما ذكرت بخصوص المناظر، أن التي كونت مغائر الجان كانت ممثلة ما يهب في مخيلتنا عن كهف سحيق العمق يسكنه جني تخدمه زبانية. أما الرقص الذي قامت به المجموعة «باليه» فلم يكن عند المستوى الذي نود أن نراه في رواية من هذا النوع الذي يتطلب قبل كل شيء أُبّهة في الملابس وفخامة في الأثاث وسائر مظاهر الرواية. أما التمثيل، فكان مستواه أرقى مما كان عليه قبل الآن ولعل ذلك يرجع إلى وجود نفر من الممثلين الذين أثبتوا كفاءة لا بأس بها في التمثيل الجدي. وما مسرح الريحاني في دوره الجديد قادر على إضحاك الجمهور وتسليته كما كان شأنه في شخصية كشكش، ولا أستطيع أن أصدر حكماً على كفاءته ومواهبه الفنية قبل أن أراه منقلباً في أدوار مختلفة الشخصيات. والسيدة بديعة مصابني على كثير من المميزات التي تجعلها نجمة المسرح الهزلي، فهي ذات صوت قوي حاد إلا أنني ألفت نظر السيدة إلى ضرورة الاهتمام بختام النغمات، وهي «القنبلة» كما يقول أهل الغناء، وكذلك أَلَفتها إلى ترك تلك «الغنّة» المفتعلة المعهودة في منشدات الألحان التركية، و«العنابة» الشامية التي تمزجها بصوتها فيبدو في غرابة لا تستملحها الآذان المصرية.

العشرة الطيبة
بعد نشر مقالة الناقد السابقة – أو زكي طليمات - اعترض بديع خيري كون الناقد تجاهل اسمه في كتابة مسرحية «العشرة الطيبة»!! ومن هنا نشر ناقد جريدة «المقطم» مقالته الثالثة، قائلاً فيها: «أخذ عليّ صديقي الأديب «بديع أفندي خيري» في مقالي على روايته «الليالي الملاح» إني لم أذكر اسمه كشريك المرحوم محمد بك تيمور في وضع رواية «العشرة الطيبة» التي اعتبرتها في نفس المقال أول مَثل فني ظهر على مسارح الهزليين، ثم رماني بعد ذلك بأني كنت أحاول إقناع القُراء بأن «العشرة الطيبة» رواية مؤلفة في حين كنت أنوه بأن «الليالي الملاح» ليست رواية مؤلفه، وتقوم على أسطورة معروفة. من المأخذ الأول أقول إنني كنت أكتب ذلك المقال وأنا أحاول الاختصار ما استطعت ولذلك أغفلت حتى ذكر مُلحن تلك الرواية الشيخ سيد درويش، مع أهمية مركزه. ولم أذكر غير واضعها المرحوم تيمور بك الذي أعتبره جديراً بكل تنويه كلما ذكر المسرح الهزلي، لأنه أول من «وضع» ولا أقول «ألف» لهذا المسرح رواية حقّاً كلامها الملحن جزء من موضوعها وسياقها، ووضع أول حد لفوضى الاستعراض والمهازل الكسيحة، التي كان مُصاباً بها هذا المسرح في دوره الثاني. وما كان يخطر ببالي أن بديع خيري مؤلف «الإجبسيانة» سيهب في وجهي هذه الهبة مطالباً بحقه، رامياً إياي بالجهل أو التجاهل. نعم .. إن له حقاً في «العشرة الطيبة»، وإني أعد صديقي المؤلف بأني سأكتب ذلك في كل مرة أذكر فيها اسم تلك الرواية ولكن بشرط، ألاّ أكون مضطراً إلى المحاسبة الدقيقة في الورق الذي أملأه بمواد قلمي!! ومع كل هذا فإنني أخشى كثيراً أن لا أرضي بديع أفندي خيري، لأنه يطلب أكثر من ذلك، كما نأخذ من كلمته التي قال فيها إنه «شريك» للمرحوم تيمور في «تأليف» تلك الرواية. والذي يدهشني هو موضوع تلك الشركة وأن صديقي بديع رغم معرفته بأني حضرت تجهيز تلك الرواية وأني واقف على كل دقيقة تحوم حولها، يحاول أن يقنعني بوجود هذه الشركة بما يصح أن يقنع به شخص لم يتصل بتلك الرواية إلا من طريق المشاهدة لتمثيلها على المسرح. وإن كان يقصد بهذه الشركة قيامه بما نوهنا عنه الآن فحسب .. فأقول – وأرجوه المعذرة – إنه أخطأ التعبير لأن ما ذكرناه له لا أراه مُكسباً إياه حق الوقوف كواضع للرواية إلى جانب تيمور، الذي قام بمفرده بهذه المحاولة الناجحة في «تمصير» رواية إفرنجية! ولأن قيمة «العشرة الطيبة» ليست فيما خلفه فيها من أزجال سبق أن ملأ بها مهازله بالإجبسيانا، ولم نأبه لها أو نذكرها بخير من حيث الوجهة الفنية في بناء الرواية، وإنما هي كائنة في حبكة موضوعها واتصاله مع ألحانها وفي رسم أشخاصها وفق ما يتطلبه نوع «الأوبرا بوف» الذي تنسب إليه هذه الرواية، ثم في الصبغة المحلية التي ختم بها مشاهد هذه الرواية، فجعلها تبدو في جو مصر في عهد المماليك. أما إذا كان يرمي إلى أكثر من ذلك فيدعي لنفسه حقاً أكثر مما ذكرناه له كاشتراكه في بناء الرواية فليسمح لي أن أنبهه بهذا السؤال: «إذا كانت لك تلك المهارة التي بقيت بها «العشرة الطيبة» فلماذا لم تقدم لنا ضمن ما قدمت من مهاراتك العديدة التي أخرجتها قبل ظهور هذه الرواية ما يصح أن يثبت وجود هذه المقدرة؟ وإذا كان الريحاني يعتقد فيك هذه الكفاءة فلماذا وكّل إلى شخص لم تسبق له مؤلفات عن المسرح الهزلي بوضع «رواية كهذه»؟!» وهذا مأزق أضن بصديقي أن يتورط فيه. وقبل أن انتقل من هذه النقطة أبين إظهاراً للحقيقة أن تيموراً لم يسمح لبديع أفندي بكتابة أزجال الفصل الأول والثاني لجهله بصياغة الأزجال .. كلا فقد كتب هو أزجال الفصل الثالث، ولكن سمح له بذلك لسببين الأول أنه كان يود إنجازاً سريعاً للرواية وذلك لإلحاح الريحاني المتواصل. 
وينتقل الناقد إلى نقطة أخرى مهمة، قال فيها: بقيت المسألة الثانية وهي محاولتي خداع الجمهور بأن «العشرة الطيبة» رواية مؤلفة مع أنها تقوم على رواية «صاحب اللحية الزرقاء». وتفنيد هذا الزعم أمر هين لأني لم أذكر في مقالي أن تيموراً «ألف» الرواية بل قلت إنه «وضعها»! وأظن الفرق واضح بين مرمى اللفظين في الاصطلاحات الخاصة بفن التمثيل. ولا أدري كيف تسرب إلى ذهن «بديع أفندي» إني أحاول طمس الحقيقة وهو يعلم إني أعرف أن «صاحب اللحية الزرقاء» هي الأصل لرواية «العشرة الطيبة»!! عرفت الصديق «بديع» يقظ الضمير .. إذاً هو وهم طارئ أخذ عليه مسالك التفكير. وقبل أن أختم كلمتي أجاهر ثانية أن «العشرة الطيبة» هي أول مَثل فني أخرجه التمثيل الهزلي، وأن هذا المسرح مدين بتطوره الحديث إلى هذه الرواية، ولكن ذلك لا يمنعنني أن أقول عنها إنها ليست الرواية الكاملة التي يجب أن تقف عندها الرواية المُلحنة البسيطة «الأوبريت».

الشاطر حسن
نجاح الريحاني في عرض «الليالي الملاح»، شجعه على تكرار التجربة في عرضه الجديد «الشاطر حسن» الذي عرضه بالإجبسيانة طوال شهر كامل منذ أواخر مايو إلى أواخر يونية 1923، حيث قام الريحاني بدور «الشاطر حسن»، وبديعة مصابني بدور «حياة النفوس»، وكتب الموضوع بديع خيري. ولاحظ أحد النقاد – ولعله زكي طليمات – أن الريحاني أحدث تغييراً في شخصية كشكش بك في هذا العرض تحديداً، فكتب كلمة ونشرها في جريدة «المقطم» ووقع عليها باسم «ناقد»، قال فيها تحت عنوان «ارتقاء التمثيل الهزلي»: حضرات الأفاضل أصحاب المقطم .. لما عاد الممثل القدير نجيب أفندي الريحاني من رحلته السورية، وعزم على إحياء فن التمثيل الهزلي ثانية على مسرح الإجبسيانا تساءل الناس عن الضرب التمثيلي الجديد الذي ابتكره ووعدهم به، ولا سيما بعد الانحطاط الذي وصل إليه التمثيل الهزلي إبان الحرب وبعدها. فلما ظهرت روايته الأولى «الليالي الملاح»، تبين للجمهور تماماً أن الريحاني يريد نشل هذا النوع من التمثيل من هوته، والأخذ به إلى مستوى يليق به، اعتقاداً منه أن التمثيل الهزلي ولا يخلو من الفائدة عدا ما يقدمه من التسلية. وقد تحقق أن الجمهور يقبل عليه أكثر من إقباله على أي نوع آخر كان. وقد قابل الكُتّاب ومحبو التمثيل عمل الريحاني هذا بالمدح الجزيل للخدمة الجليلة التي أداها للفن الجميل، والتي وضعت حداً لأقوال الحاسدين. وكأن الريحاني أراد أن ينزع كل ما بقي من آثار التمثيل الفودفيلي القديم، فنزع في روايته الثانية «الشاطر حسن» لحيّة كشكش، واتخذ له لباساً يوافق دوره في الرواية، كما إنه عزم على تغيير ملامحه وملبسه في كل رواية جديدة. أما الروايــة الجديدة «الشاطر حسن» التي نحن بصددها الآن فتشبه بنوعها رواية «الليالي الملاح» وتفوقها باستعدادها الفني وحُسن مناظرها، وفخامة ملابس القائمين بأدوارها، وبتلحين أناشيدها، وبمُلحها الرقيقة التي قالت عنها إحدى السيدات المتعلمات: «إن كل فتاة تستطيع أن تسمعها دون أن تعلو وجهها حُمرة الخجل».
 


سيد علي إسماعيل