التقديم الناجح للاغتراب في مسرح بيتر هاندكه (1-2)

التقديم الناجح للاغتراب  في مسرح بيتر هاندكه (1-2)

العدد 640 صدر بتاريخ 2ديسمبر2019

تبدأ افتتاحية مسرحية (بيتر هاندكه) “كاســبار” بالكلمات التالية:
 لا توضح مسرحية “كاسبار” كيف هي فعلا، أو كيف كانت فعلا مع “كاسبار هاوزر“. إذ توضح كيف يمكن جعل شخص مــا يتكلم خلال الكلام. ويمكـن أن تسـمى المسرحية أيضـا “معــاناة الكلام“.
 تنتهي افتتاحية (كاسبار) بهذه الملحوظة: (بينما يدخل المشاهدون وبينما ينتظرون المسرحية أن تبدأ، يمكن قراءة هذا النص بنعومة عبر الميكروفون، ويتكرر مرارا ). وتبعا لذلك يمكن أن تكون الجمل التالية، مرة أخرى، أول جمل المقدمة: “مسرحية “كاسبار” لا تعرض كيف هي فعلا أو كيف كانت فعلا مع “كاسبار هاوزر” .... ويمكن تسمية المسرحية أيضا “عذاب الكلام “. وتستمر الافتتاحية في تقديم وصفا مفصلا لصيغ عرضها لكي تتوظف في الأداء، واستخدامها للتعبير عن هذا العذاب . ومن بين الصيغ الأصوات التي تنادي البطل، الأصوات التي يجب أن تكون طريقة كلامها هي الأصوات التي لها في الواقع وسيط تقني يفرضها بينهم وبين المستمعين (الهواتف والأبواق والتسجيلات والميكروفونات). وقيل لنا أيضا أن المشاهدين لا يرون خشبة المسرح باعتبارها تمثيل لغرفة موجودة في مكان ما ... فخشبة المسرح تمثل خشبة المسرح . وتظهر الأشياء علي خشبة المسرح مسرحيا، لكي يتم التعرف عليها فورا باعتبارها أدوات. فالأشياء لها تاريخ . علاوة علي ذلك لا يستطيع المتفرجون أن يتخيلوا، من خلال الموجود، أنهم قبل أن يدخلوا ويروا خشبة المسرح، سوف يشاهدون قصة ما تحدث فعلا، ولا أن يتخيلوا أنه سوف تكون هناك خاتمة للقصة . اذ يجب عليهم أن يدركوا أنهم لن يعايشوا قصة بل انهم يشاهدون حدثا مسرحيا .
 المضمر في هذه المقدمة هو عدة أفكار مترابطة عن طبيعة التمثيل المسرحي وصلتها بحياتنا . والمشار اليه أيضا أن هناك نوع من الانغلاق بين المشروع الذي يجري تنفيذه في المسرحية والنظرية الفلسفية في المعنى الموجودة في كتاب (لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein) “بحث في فلسفة المنطق Tractatus Logico Philosophicus “) . فالصلة بين ( هاندكه ) و (فيتجنشتاين) غالبا ما تكون ملحوظة . ولكن بحسب معلوماتي لم يحاول أحد أن يدرس نظرية المعني في كتاب “بحث في فلسفة المنطق “بهدف كيف يمكن تقييم أهداف وبنية وأفكار مسرحية ( كاسبار) وبالتالي توضيحها . وسوف أجادل بأن قراءة المسرحية في ضوء كتاب “بحث في فلسفة المنطق “يقدم لنا وسيلة للتعبير عن أهداف (هاندكه) في المسرحية ونوضح كيف تنجز بنيتها هذه الأهداف . وسوف أجادل أيضا بأن فهم الطرق التي تكون من خلالها نظرية المعنى غير كافية سوف يوفر لنا طريقة لقياس انجاز هذه الأفعال . وسوف أجادل علي وجه الخصوص بأن القيود التي يضعها (هاندكه) علي التمثيل المسرحي، وهو حدود تشارك فيها نظرية المعنى في كتاب (فيتجنشتاين)، تمنع (هاندكه) من فحص أهم ملامح ذلك الاغتراب عن اللغة الذي كان يرغب في اكتشافه في المسرحية .
أولا – قصد (هاندكه) المسرحي ومشكلات مسرحية (كاسبار) :
 الأصوات التي يجب أن تتحدث الي “كاسبار” في المسرحية هي الأصوات التي يبدو وكأن هناك وسيط تقني بينهم وبين المستمعين . ونريد أن نناقش تضمينات الوسيط التقني ؛ ولكن لاحظ أولا أن الأصوات التي تتحدث والمستمعين الذين يسمعون ليسوا شخصيات في المسرحية . فلا يوجد بمعنى ما شخصيات في مسرحية “كاسبار” . فالمسرحية لا توضح كيف كانت فعلا مع “كاسبار هاوزر” ... انها توضح كيف يكون ذلك ممكنا مع شخص ما . وهو سوف يكون شخص مجرد الي حد كبير، لأنه مثل اسمه التاريخي، فان النموذج الدرامي في المسرحية ليس له تاريخ . وارتباطا بفكرة أن الأشياء يجب التعرف عليها باعتبارها أدوات علي الفور ... فهي لعب ... وليس لها تاريخ أيضا . وقد قيل لنا ان هذه العناصر موجودة لكي تمكن المؤدين من تشكيل الاحتمال الذي نوشك أن نشاهده – وهي موجودة أيضا لكي تمنعنا من تخيل أننا علي وشك معايشة قصة ولكي تنبهنا أننا سوف نشاهد بدلا من ذلك حدثا مسرحيا . فما الذي في ذهن ( هاندكه) هنا، والذي يتسم بأنه حدث مسرحي ؟ .
 في خلال شهر من العرض الأول لمسرحية “كاسبار” نشر (هاندكه) مقالا نقديا موجزا يلقي الضوء علي القصد المعبر عنه في افتتاحية “كاسبار” . ويركز (هاندكه) في المقالة علي ما يسميه “القيود المميتة لمجال الأداء وعلاقته “مدعيا أن مجال علاقة المسرح تتحدد القدر الذي يكون فيه كل شيء جاد ومهم وقاطع خارج المسرح يصبح لعبة . هنا يميز (هاندكه) بين العالم خارج خشبة المسرح – حيث تحدث أشياء جادة – والأحداث داخل المسرح – حيث يتحول كل شيء الي لعبة . تصبح هذه النقطة هي أساس نقده لـ ( بريخت)، الذي لم تكشف مسرحياته عن التناقضات داخل طريقة تفكيرنا بل تقدم أيضا حلولا للظروف التي تنتج مثل هذا الفكر المتعارض . ويجادل (هاندكه) بأن الحلول المطروحة في أعمال (بريخت) المسرحية من حيث الشكل هي لعبة، وبالتالي فهي حلول في مسرحية . عند هذه النقطة فان ما يسوق الحجة هي العلاقة التي يقيمها (هاندكه) بين “المسرحية “و”الشكل “. فالمسرح يشكل كل لحظة وكل تفصيلة بسيطة، وكل كلمة، وكل صمت ؛ وليس من المفيد علي الاطلاق عندما يتعلق الأمر باقتراح، أن تكون في الغالب جيدة للعب مع المتناقضات . وحتى الآن، يبدو أن الحجة هي :
 (أ) كل شيء يقدم علي خشبة المسرح يتم تشكيله وبالتالي يصبح لعبة، لعبة الأشكال، ولعب بالأشكال، ولعب علي الأشكال .
وبالتالي :
 بقدر ما يحاول المسرح أن يمثل أحداثا من خارج المسرح، فان  ذلك تزييف لكـل من الواقـع الذي يمثله شكـليا،والبنيـة الشكليـة  للمسرح الذي يحدث فيه التمثيل .
وعندما نطبق هذه الحجة علي الممارسة المسرحية البريختية، يمكننا أن نستنتج : محاولات، مثل محاولات (بريخت) لتقديم قضايا مهمة في المسرح  من خلال تمثيل الظروف في العروض المسرحية وحلول للظروف  من خارج خشبـة المسـرح، مفيدة، ولكنهــا تثبت في النهايـة أنهـا مضللة بشكل خطير .
ويقترح (هاندكه) بالمقارنة شكلا بديلا للمسرح .
 ما يمكن أن يكون جيدا (وما كان جيدا في السابق) هو مجال اللعب لابداع طوية المتلقي، وهي مناطق لعب لم تكتشــف حتى الآن في مجال اللعب، باعتباره الوسيلة التي لا يصبح بها وعي الفرد أوسع نطاقا، بل أكثر دقـة كوســيلة لأن تصبح حساسـة وسريعــة التأثـر للدخول الي العالم .
 وعندما يفعل (هاندكه) هذا، يزعم أن المسرح عندئذ لا يصور العالم ...
 يبدو أن محاولة انجاز ما هو جيد بالنسبة للمسرح يمكن أن يتطلب ابداع مسرح غير تمثيلي، ربما هو تناظر مع التصوير الزيتي عير التصويري . فما سيبدو عليه هذا قد تم اقتراحه وتوضيحه فعلا من خلال مسرحية (هاندكه) “قطعة كلام Sprechstuck” التي كتبها وعرضها في موسم 1965-1966. ويسمي (هاندكه) هذا “عروض بدون صور، لا تقدم صورا للعالم “. انها أعمال للمسرح بقدر ما تستخدم أشكال التعبير الطبيعية الموجودة في الواقع ... تعبيرات مثل التعبيرات الطبيعية في الكلام الحقيقي ... إنها أشكال الكلام التي تقال شفهيا في الحياة الحقيقية، ولذلك تحتاج لشخص واحد يسمع علي الأقل . لاحظ هنا، كما هو الحال في مسرحية “كاسبار”، أنه لا توجد شخصيات بالمعنى المعتاد، بل مستمعين فقط . ولن يكون لمسرحية “قطعة كلام “أي حدث درامي، لأن كل حدث درامي علي خشبة المسرح هو صورة لحدث درامي آخر، وعلي هذا النحو يمكن أن يكون تشكيلا – تزييفا – لكل من الحدث المصور واللعب الشكلي للمسرح أيضا. و(هاندكه) بالتأكيد علي صواب هنا اذا كان يعتقد أن هناك ظواهر مترابطة. يتطلب وصف فعل شخص ما، أو وصف شخص ما وهو يتصرف بطريقة معينة، اشارة الي ميول ونوايا ذلك الشخص . ونظرا لأن التصرفات والنوايا ليست من السمات المميزة لحظيا، بل مؤلمة نسبيا، فان وصفها يجب أن يشير بدوره الي الشخص في السياق الزمني للتفاعل مع الآخرين – باختصار، في القصة . فالشخصيات والأحداث والقصص غائبة، وما يتبقي هو الكلمات ... الكلمات التي لا تقدم صورة للعالم ... والتي لا تشير الي العالم باعتباره شيئا موجودا خارج الكلمات، بل تشير الي العالم في الكلمات نفسها ... التي لا تقدم صورة للعالم بل مفهوم له .
 باختصار، لكي نخلق مسرحا لا يخلط بين الواقع خارج المسرح والتحول في لعب كل شيء داخل المسرح، يدفعنا (هاندكه) إلي انكار الوسيلة المعيارية للتمثيل المسرحي : الشخصيات والقصص والاستخدامات الاشارية للغة التي تصاحب تمثيل الناس في سياق قصصهم . ولكن (هاندكه) يعقد الأمور نسبيا عندما ينتقل من مسرحية “قطعة كلام” إلي مسرحية “كاسبار” . ففي الأولي يجرب مسرحا يتجنب التمثيل السردي . وفي مسرحية “كاسبار” رغم ذلك، هناك سلسلة من الأحداث يبدو أنه صاغ حبكتها بشكل كفء لدرجة أنها أغرت بعض النقاد لتقديم ملخص المسرحية في شكل قصة مجردة . ومع ظهور الحبكة، يأتي ظهور الشخصيات – فهناك، في النهاية بطل للمسرحية . وأن البطل له أسم ونوع جنس . علاوة علي أن له اسم له سابقة تاريخية ومسرحية تثير التوقعات فيما يتعلق بسلوكه، جانب ما من حياة . لذلك يمكن أن يبدو أن كل الوسائل المعيارية للتمثل المسرحي التي تم تجنبها في مسرحية “قطعة كلام” توجد فعلا في مسرحية “كاسبار” برغم أن المقولات الصريحة في الافتتاحية التي تشير الي العكس من ذلك.
 والجزء الربع من هذه المقالة سوف احتج بأن دراسة مسرحية “كاسبار” في ضوء كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” سوف تساعدنا أن نرى كيف أن “كاسبار” يمكن أن يكون لها شكل وتأثير البنية المحبوكة بدون أن تتضمن شخصية، أوحدث فعلي، أو سرد أساسي . ولاثبات هذه القضية يجب أولا أن أقدم سردا لتسلسل الأحداث في مسرحية “كاسبار” وأن أقدم ملخصا لمشروع ( فيتجنشتاين) في كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” واخفاقاته .
ثانيا – تتابع الأحداث في مسرحية «كاسبار»:
 عندما نقرأ “كاسبار” يتضح لنا أن العمل مقسم الي خمسة وستين قسم. [والتشابه المثير بين نصي “كاسبار” و“بحوث في فلسفة المنطق” هو حقيقة أنهما يظهران في شكل الأقسام المرقمة]. ولكن الأقسام المرقمة في “كاسبار” ليست مترابطة في أي نص مكتوب للمسرح . ولهذا السبب، نحتاج أن ملاحظة اشارات النص الي اجراء التغييرات في اضاءة خشبة المسرح. وهذا يقدم لنا أقسام العمل كما يعايشها المشاهد: بعد الافتتاحية التي تضاء بعدها خشبة المسرح، هناك خمسة مشاهد تليها مجموعة من ستة عشرة مشهدا قصيرا، ثم مشهد سادس تليه استراحه ثم مشهدين أخيرين .
 يبدأ المشهد الأول بنشاط وراء ستارة المسرح الخلفية يشير الي أن شخصا ما يحاول أن يدخل . وبعد جهد نسبي يظهر “كاسبار”. يقف ساكنا للحظة . تكفي مدة الوقفة المشاهدين حتى يروا أنه يرتدي قناعا يعبر عن الدهشة والاضطراب. (لا يتضح علي الفور أنه يرتدي قناعا). يتحرك، مثل اسمه المسرحي في عرض العرائس “بانش وجودي”، فهو غشيم وخارج السيطرة . بعد عدة لحظات محفوفة بالمخاطر ينجح في السقوط، بعد عدة لحظات، ينطق جملة “أريد أن أكون مثل أي شخص آخر كان موجودا ذات يوم “. يكررها عدة مرات – حتى يتضح للمشاهدين أنه لم يفهمها. وفي تتابع الحركات التالية، (1) ينطق الجملة بنبرة توحي بالأوامر، والأسئلة، وتعبيرات السعادة والراحة، ..Nلخ، (2) ينهض ويمشي بشكل أخرق ويكاد يصطدم بعشوائية في قطع الأثاث، ويوجه لكل منها جملة، (3) في النهاية بالصدفة، ينجح في فتح باب خزانة ملابس كبيرة . عند هذه النقطة يسمع المشاهدين أصواتا تتكلم من مختلف الاتجاهات فقرات قصيرة يضع لها “كاسبار” علامات الترقيم وهو ينطق جملته. وهذه الأصوات تسمى “الملقنون”.
 في المشاهد الأربعة التالية، يقوض الملقنون اقصاء جملة “كاسبار”، ويجبروه علي الكلام وفقا لأوامرهم، فيحدد قدراته الحالية باعتبارها قوة طلب الأشياء، ويعرب عن أمله في أن يكون قادرا علي أشياء مهمة في الجمل الموجودة تحت تصرفه، و يؤكد ذاته، فيهددونه . يخبره الملقنون أنه يمكن أن يكون مفيدا، حتى لو كانت هناك حدود، يستطيع أن يجذبهم لدرجة أنه يصبح هادئا ومنظما – ومرة أخرى يكون التأثير هو التهديد . وفي ألمع ضوء يقول الملقنون “لقد تم تدميرك”. يحدث اظلام . وبعد لحظة يقولون “لقد أصبحت حساسا للقذارة” .
 في أول تسعة اظلامات من الستة عشرة القصيرة، تظهر عددا آخر من شخصيات “كاسبار”، يرتدون مثل ملابس “كاسبار 1”، ويرتدون أيضا أقنعة تعبر عن الدهشة . يقومون بتمثيل عدة أشياء – حركات وألالام وأصوات، ثم يعيدون الأمور الي نصابها – بناء علي اشارة الملقنين (لا يرتبط أي منهم بالآخر بأي شكل واضح). وفيما تبقى يقوم “كاسبار 1” بمهام مختلفة (يفتح يد بالأخرى مع المقاومة للكشف عن يد فارغة، يطارد نفسه قليلا، ويغلق باب خزانة الملابس)؛ كل مهمة أو صورة يتخللها اظلام (ومن الجدير بالملاحظة أن الملقنين لا يظهرون ثانية ) .
 يبدأ المشهد التالي ب (كاسبار) في أضواء باهرة يقوم بعدة أوضاع . ثم يلتفت الي المشاهدين ويعلن أنه بصحة جيدة، وقوي، وذو ضمير حي، وصادق، ومقتصد، ومواطن نموذجي ...كل هذا، ويسيطر علي الكلام . يلتفت ليغادر، يبدأ في الرجوع يكرر المغادرة والرجوع مرتين : ثم يغادر بسرعة . وبمجرد أن يخرج ينفتح باب خزانة الملابس ببطء .
 أثناء الاستراحة هناك أصوات تصدر عبر مكبرات الصوت الي داخل القاعة، وحتى عبر الشارع في الخارج . وتتميز هذه الجمل آنيا بالدقة اللغوية المعتادة ونقص الوضوح اللغوي الفعلي . فربما كان موضوع هذه الجمل وتأثيرها هو العنف.
 يلي هذه الاستراحة يدخل “كاسبار” من جديد بثقة الي خشبة المسرح المزدحمة بشخصيات “كاسبار” الأخرى . يبدأ أول محاولاته المتعددة لوصف تعليمه في حوار في اطار تشريفي . ولكن شخصيات “كاسبار” الأخري ينهضون ويتقدمون اليه باصدار ضوضاء متقطعة بشكل متزايد . مرة أخرى يعود “كاسبار” كما كان عندما تم اقصاء جملته الأصلية، قد تم اختزالها إلي كلام متقطع .
 في المشهد الأخير المختصر يقف “كاسبار” مثقلا باستحالة موقفه وحتميته – لا أستطيع أن أخلص نفسي من نفسي بعد الآن “. اذ يتم اختزاله الي مقارنات هزلية : شموع ومصاصي دماء : ثلج وبعوض، خيول و وقطط . تنتهي المسرحية مع “كاسبار “يكرر عبارة “ماعز وقرود “( جملة يأس عطيل علي طمع الانسان ) . ومع كل تكرار تهتز الستارة الي المنتصف حيث يقف “كاسبار”، في النهاية تسقطهم . وتنتهي المسرحية .
ثالثا – حجة فيتجنشتاين في كتابه “بحوث في فلسفة المنطق “واخفاقه :
 المشروع كما يصفه فيتجنشتاين هو :
 لوضع حد للتفكير، أو بالأحرى عدم وضع حد للفكر، بل التعبير عن الأفكار: لأننا لكي نكون قادرين علي وضع حد للتفكير يجـب  فلا بد أن نجد جانبي الحد القابل للتفكير(أي يجب أن يكــون لدينـا القدرة علي التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه) ولذلك لن يتم تعييـن الحد الا باللغة، وما سوف يوجد علي الجانب الآخر من الحد هـو  الهراء، ببساطة .
المشروع بوضوح في التقاليد المنسوبة الي “كانط Kant”، ليس فقط في محاولته لوصف ظواهر الفكر واللغة من داخل اللغة فقط، بل أيضا لأنه يفسر الوظيفة الأولية للغة بأنها تمثيل الأفكار . وهذه الأفكار أيضا لها علاقة : حددت طريقة فهم (فيتجنشتاين) لتمثيل الأفكار في اللغة كيفية صياغة حدود الفكر واللغة .
 وفي هذا السياق نواجه “نظرية صورة المعنى “الشهيرة عند (فيتجنشتاين): الخطوة الأولى الحاسمة في تعليل (فيتجنشتاين) للتمثيل هي معالجة كل أشكال التمثيل علي أنها تصويرية في الصفة والمنطق. والخطوة الثانية هي ملاحظة أن الصور، بمعنى معين، ليست صورا لأشياء علي الاطلاق بل صور لمواقف (ترتيب الأشياء). وهاتان الفكرتان تؤديان الي مفهوم أن الجمل وليس الأسماء هي الأساسية في المعنى اللغوي . “نحن نصور الحقائق لأنفسنا “. ولكن، “يمكن وصف المواقف ولكن دون اعطائها أسماء “. (الأسماء مثل الأفكار ؛ الاقتراحات مثل السهام – لها معنى . لذلك، الفرضيات لها معنى ؛ وبالنسبة للفرضيات فان الأسماء فقط لها معنى .
 هذه العلاقة بين الصور والفرضيات – الجمل التي تستخدم لوصف العالم وتفسيره – تحتاج الي مزيد من التفسير . هذا التفسير في المقابل سوف يصنع بارزة تصبح مركزية لوضع حدود لما يقال : “فكرة الشكل المنطقي “. ما يضعه (فيتجنشتاين) في اعتباره من خلال التعبير والاقتراح، يمكن فهمه من خلال النظر في حقيقة أن المحتوى نفسه يمكن تأكيده في الكلام المبني للمجهول والمبني للمعلوم، فالاقتراح الذي نقوله يشترك فيه تعبيران عن الفرضية . ولا تساعدنا نظرية الصورة علي التوضيح فقط بل أيضا تساعدنا علي توسيع الفكرة . فما يمكن أن يسمى عناصر الصورة يتطابق مع الأشياء : وتمثل هذه الأشياء . ولكن الأمر الحاسم هو أن ما يؤسس الصورة هو أن ترتبط عناصرها ببعضها البعض بطريقة محددة، وليس تقديمها بطريقة معينة . والتأكيد علي علاقة العناصر في الصورة بالطريقة التي يتم بها تقديم العناصر يتم تفسيره في الملاحظة التالية : حقيقة أن العناصر في الصورة مرتبطة ببعضها البعض بطريقة محددة تمثل أن الأشياء مرتبطة ببعضه البعض بنفس الطريقة . ومن هذا نستطيع أيضا أن نرى كيف يمكن أن يقال ان الصورة حقيقية أو مزيفة – يعتمد الأمر علي ما اذا كان الموقف المحتمل الذي تمثله يحدث فعلا من عدمه . وهكذا يقول ( فيتجنشتاين) “ان ما يشكل علامة الفرضية هو أن عناصرها (الكلمات) تقف في علاقة محددة بالنسبة لبعضها البعض . فالفرضية هو صورة الحقيقة .. انها نموذج الحقيقة كما نتخيلها .
 مما سبق تظهر الآن فكرة “الشكل المنطقي”. وفيما يتعلق بالصور، فسر (فيتجنشتاين) الفكرة بهذه الطريقة : اتصال عناصر الصورة يسميها “بنيتها”؛ واحتمال هذه البنية يسميه “الشكل التصويري للصورة”. وبربط هذه المصطلحات بالملاحظات التي ذكرناها سابقا تنتج فكرة أن “الشكل التصويريهو احتمال أن الأشياء ترتبط ببعضها البعض بنفس طريقة ارتباط عناصر الصورة . والتطابق مع الشكل التصويري للصورة هو الشكل المنطقي للفرضية . والشكل المنطقي، مثل الشكل التصوري، هو احتمال أن ترتبط الأشياء ببعضها البعض بالطريقة التي تمثلهم الفرضية .
 ما يجب أن تكون عليه الصورة، سواء كانت مشتركة مع الواقـع من حيث الشكل أم لا، وحتى نكون قادرين علي وصفها – بشكل صحيح أو غير صحيح – بأي طريقة علي الاطـلاق، هي شكــل  منطقي، أي شكل الواقع .
الشكل المنطقي للفرضية اذن، هو أن ملمح الفرضية الذي يعكس احتمالات الحال في العالم والذي هو أحد احتمالاتها يٌستخدم للحصول عليها بواسطة فرضية معينة لدينا .
 ولا يمكن المبالغة في تأكيد أهمية نظرية أفكار الشكل التصويري والمنطقي المنسوبة الي كتاب (فيتجنشتاين) . فهما من ناحية أساسيان في مفهومه للفلسفة باعتبارها دراسة للممكن . ومن الناحية الأخرى فانهما مفهومان جوهريان في فكرة تحديد ما يمكن أن يقال . ومرة ثانية، نتأمل الصور أولا . لقد قلنا ان ما تصفه الصورة هو موقف، في حين أننا عندما نفعل ذلك، فانها تعرض أيضا امكانية أن ترتبط الأشياء بالطريقة المصورة . ما يلاحظه (فيتجنشتاين ) هنا هو أن هناك فرق أساسي بين الوصف والعرض . ويقدم حجته علي النحو التالي :
 يمكن للصورة أن تصف أي واقع تملك صورته . فالصـورة  المكانية تصف أي شيء مكاني، وتلون أي شيء ملون الخ  الخ. ولا يمكـن للصـورة، رغــم ذلك، أن تصـور شكــلها  المصور: بل تعرضه. الصورة تمثل موضوعها من موضع  خارجها . (منطلقها هو شكلها التمثيلي) . لهذا الســبب تمـثل الصــورة موضـوعها بشكل صحيح أو غــير صحيح .
 الصورة لا يمكن أن تضع نفسها خارج شكلها التمثيلي .
وبالتالي، فان الشكل المنطقي للفرضية، مثل الشكل المصور، يعرض شكل العالم – بمعنى احتمالاته – بينما الفرضية نفسها تؤكد الحصول علي موقف معين . ومثل الشكل المصور للصورة الذي لا يمكن وصفه بل عرضه فقط، فان الشكل المنطقي للفرضية هو شيء لا يمكن تأكيده ( قوله ) بل عرضه فقط . “فهو يعرض نفسه في الفرضية “.
 محاولة قول ما يمكن أن يٌعرض سوف تؤدي الي الهراء .
 سوف تنشأ أمثلة الهراء الفلسفي، في هذه الرؤية، من محاولات تأطير الفرضيات التي تصف أو تفسر الصلات بين الشكل المنطقي للفرضية وشكل العالم. والحالة الملحوظة لهذا الهراء سوف تكون بالطبع في جزء كبير من كتاب “بحوث في فلسفة المنطق “:
 سوف تكون فرضياتي بمثابة توضيحات بالطريقة التالية : أي  شخص في النهاية سوف يتعرف عليهم باعتبار أنهم بلا معنى،  عندما يستخدمها – كخطوات – للقفز الي ما ورائها. (يجــب  عليه، ان جاز التعبير أن يرمي السلم بعد القفز عليها).
ولكن كل التقاليد الميتافيزيقية في الفلسفة الغربية سوف تندرج ضمن فئة هذا الهراء أيضا. سوف يتم اعتبار التصنيفات الأنطولوجية القديمة للمادي والتصادفي (أو الشيء والخاصية، باستخدام اللغة الفلسفية الحديثة) غير منطقية، ولاسيما لأنها مستمدة من محاولة قول ما يجب أن تكون عليه أكثر السمات العامة للعالم لكي نفهمه بما هو كذلك. ويمكن أن يكون توليد هذه التصنيفات في الفلسفة نتيجة لتأكيد العالم أنها يجب أن تتوافق مع بناء الفاعل والمفعول في قواعد اللغة . وفي مقابل وضوح التصنيفات الأنطولوجية، رأى (فيتجنشتاين) أنه لا يمكن قول شكل العالم: بل إنه يجب أن يعرض .
 من الموثق جيدا الآن أن كتاب (فيتجنشتاين) “بحوث في فلسفة المنطق” لم يكن يهتم في المقام الأول بهذا النوع من الهراء – مثلما اعتقد الوضعيون في حلقة فينا واتباعهم بشكل خاطئ . اذ كان التركيز الفعلي لاهتماماته علي الفرضيات التي يمكن أن يؤدي التعبير عنها في شكلها الافتراضي الى هراء أيضا، ولكنه يهتم بتلك الفرضيات التي لها علاقة بأهم الأشياء في الحياة : معنى العالم والأخلاق والجماليات والتصوف . وهنا يكون لدينا الحد الثاني من المقطع اللفظي أو، ربما، وجه ثان للحد الذي وصفناه للتو . علي أي حال، الفقرات الأخيرة من الكتاب يتم تناولها مع الحجة التالية : لأن كل الفرضيات تختص فقط بما هو حقيقي أو زائف، فان كل الفرضيات لها قيمة متساوية . ولكن هذا يعني أنها فرضية لا غنى عنها ، فلا يمكن أن تعبر الفرضية عن شيء له قيمة . ومرة أخرى، ولكن مع فرق أساسي، نصل الى الشيء الذي لا يمكن أن يقال ويجب أن يعرض . بالطبع الفرق هو أن هناك دور ينبغي أن تلعبه اللغة في عرض القيمة . والتأثيرات ذات الصلة هنا هي ( كيركيجارد Kierkegard) ( الذي اعتقد مثل فيتجنشتاين أن أكثر المسائل قيمة يمكن مناقشتها ولكن بشكل غير مباشر فقط، من خلال وسيط القصص التي لها قدرة علي التوضيح) و (تولستوي) ( الذي اعتبر فيتجنشتاين قصصه مهمة في حياته ) .
 يرتبط بحدي القول هذين ( أو جانبي الحد ) حد ثالث وهو ما أطلق عليه (فيتجنشتاين) “الموضوع الميتافيزيقي metaphysical subject” . ويمكننا أن نفهم هذا مرة أخرى باعتباره ملمحا للصور . مثلما لا يمكن تصوير الشكل المصور بل يٌعرض فقط بواسطة الصورة، فكذلك أيضا لا يمكن للشخص الذي يصور لنفسه الحقائق أن يظهر في داخل الصورة . يستخدم (فيتجنشتاين) العين والمجال البصري لتوضيح الفكرة .
 لا شيء في المجال البصري يسمح لك باستنتاج أن ذلك مرئي  بالعين .... لأن شكل المجال البصري ليس كذلك بالتأكيد .
 وفي هذا الصدد، يدلي (فيتجنشتاين) بملاحظات مفادها أن الوسيلة الأنانية صحيحة تماما، ولكن لا يمكن قولها وأن حدود اللغة (التي أفهمها وحدها) هي حدود عالمي . وما لم يذكر عادة عند اقتباس هذه السطور هو أن وضع (فيتجنشتاين) لا يستتبع أننا لا نستطيع أن نقول أي شيء عن البشر . فمن أجل تلك الذات الميتافيزيقية تصمد تلك المقولات :
 هناك فعلا معنى تتكلم فيه الفلسـفة عن نفسـها بطريقة غير سيكولوجية . وما يظهر الذات في الفلسـفة هي حقيقــة أن العالم هو عالـمي . فالذات الفلســفية ليســت الانســان أو جسم الانسان أو روحه، الذين يتعامل معهم علم النقس، بل بالأحرى الذات الميتافيزيقية، وحدود العالم - وليس جزء منه .
 والفرق الذي يستنتجه (فيتجنشتاين ) هنا يدين للفرق الكانطي بين الذات التجريبية والذات المطلوبة للوحدة الموضوعية للذات لوعي الذات الاستنباطي . ويمثلون بالطبع وظائف مماثلة في بنيات نظرياتهم المعنية .
 وقل أن تنحول الي استخدام ( هاندكه) للنظرية المنسوبة الي كتاب “بحوث في فلسفة المنطق “التي قدمتها، نحتاج أن نفهم مزيد من الحقائق عن رؤية اللغة باعتبارها لغة ثانية . وفكر في الكيفية التي نتعلم بها معنى أي رسم تخطيطي للصوت . توحي لنا مسرحية “كاسبار” ببديل واحد : بعد فقدانه لجملته، يبدأ (كاسبار) ببساطة في أن يكرر أجزاء من جمل الملقنين حتى يفعل ذلك بنفسه بدون تلقين . ولكن كيف لنا أن نعرف أنه يقولها بشكل صحيح ( والأهم من ذلك ، أن يعرف ) ؟ . فنحن نعرف لأننا نراه يستخدم كلمة “طاولة “مثلا، بأحد الطرق المألوفة لنا فعلا . ولكن هذا لا يفسر كيف له أن يعرف . في الواقع هذا يبقي بدون معالجة في المسرحية ؛ وأن هذه الفجوة نفسها تساهم بشكل ملحوظ في الشعور بأن مهام المعنى عشوائية وبالتالي تحت سيطرة الملقنون . ورغم ذلك، من الواضح أيضا أن الطريقة البدائية التي تستخدم بها هذه الكلمات في المسرحية هي في اشارة الي الأشياء المقدمة لنا . وهذا الاستخدام للكلمات التي ذكرتها هو باعتبارها “أحد الطرق المألوفة لنا” وهذا يتوافق تماما مع صورة المعنى المنسوبة لكتاب “بحوث في فلسفة المنطق” حيث يمكن أن يكون معيار ترسيخ المعنى هو الوضوح الملزم للأشياء المسماة في مواقف مؤكدة من أجل الحصول عليها .
 ولكن من الواضح أن الوضوح ليس اجراء ذاتي التصديق . فكما أوضح فيتجنشتاين في كنابه “بحوث فلسفية Philosophical Investigations”، يحتاج الوضوح نفسه شيئا مثل الفهم المسبق لنوع الملمح الذي يشار اليه . فاذا أشرت الي كتاب وقلت “كتاب “، كيف للطفل أن يعرف أنه الشيء نفسه، وليس لونه أو شكله الذي أشير اليه ؟ . فان لم يكن لدي الطفل الاستعداد الملائم لا يمكن أن ينجح الزعم ببساطة . يشمل الاستعداد اللازم ليس فقط الالمام بأنواع الملامح بل أيضا الالمام بايماءات الاشارة نفسها . وهذا يمكن أن يٌرى بتأمل السؤال، “عندما أشير، كيف له أن يعرف أن يتتبع خط اشارة السبابة وليس الابهام ؟ هذا الاستعداد هو في الواقع تدريب علي امتلاك بعض السلوكيات اللغوية بالفعل، أو علي الأقل لغوية أولية proto – linguistic . انه يشارك في نوع من القصدية التي يجدها المرء في التعبير عن الفرح والأمل والفضول وما الى ذلك . الوضوح باختصار، يمكن أن ينجح فقط بالنسبة للناس الذين يملكون فعلا لغة ما ( بدائية علي الأقل ) (أو سلوك لغوي). ولهذا السبب فان الوضوح هو تقنية فعالة تستخدم في تدريس لغة ثانية . ولكن النتيجة المهمة في السياق الحالي هو أن نظرية صورة المعنى ملتزمة بتقديم تعليم اللغة نتيجة للوضوح، ولأن الوضوح يفترض فعلا سلوكا لغويا ما، فان الرؤية التي نتأملها يجب أيضا أن تلزم بأن كل لغة هي لغة ثانية .
 ولكن الأمر ليس كذلك بالطبع .
-----------------------------------------------------------------
• جيمس هاميلتون يعمل رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة كانساس في منهاتن . وقد سبق أن قدمت له جريدة مسرحنا عدة مقالات في اعداها السابقة .
• نشرت هذه الدراسة في مجلة Journal of Dramatic theory and literary criticism .


ترجمة أحمد عبد الفتاح