العدد 711 صدر بتاريخ 12أبريل2021
تعريف المسرحانية Theatricality أو خصوصية المسرح , ليس فقط محاولة لتعريف ما يميز المسرح عن الأنواع الفنية الأخرى فحسب , بل أيضا من أجل تعريف ما يميزها عن أشكال الأداء الأخرى – الرقص وفنون الأداء والفن متعدد الوسائط . الأمر اذن يتعلق بدراسة طبيعة المسرح علي خلفية الممارسات المسرحية ونظريات الأداء وعلم الجمال . انها محاولة للوصول الى معايير مشتركة من خلال الأعمال المسرحية بداية من العصور القديمة . وعلي الرغم من أن مشروعا مثل هذا ربما يبدو طموحا , الا أن ارتباطه يحتاج الى محاولة لترسيخ هذا التعريف . وتسعى هذه المقالة الى تأسيس نقاط المرجع لرد الفعل اللاحق .
أثناء القرن العشرين , انقلبت أسس المسرح رأسا علي عقب . ومثل سائر الفنون الأخرى , وما كان يعرف بأنه علم الجمال المسرحي في القرن التاسع عشر, الذي حدد الممارسة المعيارية . فقد أعيد تأمل المسرح منهجيا خلال القرن العشرين. وفي نفس الوقت بدأت الممارسة المسرحية تنأى بنفسها عن النص . ووضعته في مكان جديد في المشروع المسرحي . ولم يعد النص , بعد وضعه تحت الحصار, قادرا علي ضمان مسرحانية خشبة المسرح , وبالتالي بدأ المهتمون بالمسرح الاستفسار عن خصوصية الفعل المسرحي ذاته , ولاسيما منذ أن بدأت هذه الخصوصية تؤثر في الممارسة المسرحية أيضا – الرقص والأوبرا وفنون الأداء الأخرى .
ويبدو أن ظهور المسرحانية في مجالات ترتبط بشكل متماس مع المسرح هو نتيجة طبيعية لذوبان الحدود بين الأنواع الفنية , والفروق الشكلية بين الممارسات الفنية بداية من الرقص والفنون متعددة الوسائط , ومن بينها مسرح الوقائع Happenings والأداء باستخدام التقنيات الجديدة . وتزداد صعوبة تعريف خصوصية المسرح , لدرجة أن المسرحي والمشهدي قد اكتسبا أشكالا جديدة . واضطر المسرح , الذي ابتعد عن المركز , أن يعيد تعريف نفسه . ومنذ ذلك الحين لم تعد خصوصية المسرح واضحة . فكيف اذن نعّرف المسرحانية اليوم ؟ وهل يجب أن نتحدث عنها بصيغة المفرد أم بصيغة الجمع ؟ وهل المسرحانية خاصية تنتمي بشكل فريد الى المسرح , أم أنها يمكن أن توجد في الحياة العادية ؟ .
أعني المسرحانية هنا باعتبارها خاصية مفهومة وفقا للمصطلح المنسوب الى كانت Kant – أي ... هل توجد المسرحانية مسبقا في الموضوع المسرحي , علي أساس أن هذا الموضوع يصبح شرطا لوجودها ؟ أم هل المسرحانية نتيجة عملية مسرحية معينة , سواء كانت مرتبطة بالواقع أو مرتبطة بالذات ؟ . وهذه هي الأسئلة التي أود تأملها .
السياق التاريخي :
يبدو أن مصطلح المسرحانية ظهر في وقت ظهور مصطلح أدبية المسرح (بمعنى انتماء المسرح الى الأدب) . ومع ذلك فقد كان انتشاره بطيئا في الأدب النقدي . وفي الواقع , يرجع تاريخ النصوص التي يمكنني أن أتمثلها , والتي تتعامل مع المسرحانية الى عقد مضى . وهذا يعني أن محاولات وضع مفهوم المسرحانية في تصور يرتبط بالاهتمام الحالي بنظرية المسرح . وربما يعترض شخص ما مؤكدا أن أعمال مثل “ فن الشعر “ لأرسطو , و و”مفارقات كوميدية” لدينيس ديدرو , و” مقدمات “ لراسين وفيكتور هوجو , من بين أعمال أخرى , هي جهود لتنظير المسائل المتعلقة بالمسرح . ولكن التنظير المفهوم وفقا للاستخدام المعاصر , وباعتباره انعكاسا للمفاهيم المجردة (العلامة والدلالة والتمثيل والتشظي والمسافة والازاحة) هي أكثر من مجرد ظواهر حديثة . وقد أشار رولان بارث الي أن محاولة تعريف نظرية المسرح هي نفسها علامة دالة علي عصر مفتون بالتنظير .
ويمكن أن يقودنا الانتشار الحالي لمفهوم المسرحانية لأن ننسى تاريخها القديم . اذ يمكننا في الحقيقة أن نميز نصوص ايفرنوف المبكرة (1922) التي تتحدث عن المسرحانية وتؤكدها حتى نستطيع تحديد أهمية اكتشافه . ولكي نتحدث بشكل مفرداتي , فانه يتم تعريف المسرحانية بشكل غامض لغويا . اذ بدت أنها أقرب الى المفهوم الضمني الذي يُعّرفه مايكل بولاني بأنه فكرة مادية يمكن أن نستخدمها مباشرة , مع أنها توصف بشكل غير مباشر بأنها المفهوم الذي يرتبط بالمسرح بشكل مميز .
المسرحانية باعتبارها خاصية للعادي :
بفحص الشروط التي تصاحب مختلف مظاهر المسرحة , خارج خشبة المسرح وداخلها , يمكننا أن نؤكد أن المسرحانية ليست ظاهرة مسرحية بالمعنى الدقيق . ولننظر الى بضعة سينايوهات محتملة .
السيناريو الأول :
ندخل الى المسرح ولم تكن المسرحية قد بدأت بعد . وأمامنا خشبة المسرح , والستارة مفتوحة , والممثلين غائبين . والمشهد عاري من أي ديكورات . ونبدو في انتظار المسرحية أن تبدأ . فهل تعمل المسرحانية هنا ؟ واذا أجبنا بأنها تعمل بالتأكيد , فهذا يعني أننا ندرك أن هذا المشهد وحده يمكن أن ينقل مسرحانية بعينها , رغم أن العملية المسرحية لم تبدأ بعد . اذن هناك قيود مفروضة فعلا , وعلامات موجودة في المكان فعلا , ويعرف المتلقي ما الذي ينتظره من اعداد المشهد – يتوقع مشاهدة مسرحية . ولأن دلالة المكان حدثت بالفعل , فان المتلقي يعرف ذلك من مسرحانية خشبة المسرح والمكان الذي يحيط به . ولذلك يمكننا استخلاص أول نتيجة , هي أن حضور الممثل ليس شرطا أساسيا لوجود المسرحانية . فالذات تفهم علاقات معينة داخل هذا المكان , اذ أنها تعرف الطبيعة المشهدية المثيرة لخشبة المسرح . ويبدو أن المكان أساسي في المسرحانية . وأن المرور من الأدبية الى المسرحانية يجب أن يتم أولا وقبل كل شيء عبر ادراك مكاني للنص .
السيناريو الثاني :
ربما نشاهد في عربة المترو نقاشا بين راكبين , أحدهما يدخن والآخر يعترض بقوة . ويذكر الراكب الأول أن التدخين في المترو ضد القانون , فيرفض الراكب الثاني الانصياع . فيحدث تبادل للاهانات والتهديد ويتصاعد التوتر . والمتلقي هنا يشاهد هذا التراشق ويشاهد ذلك أيضا الركاب الآخرين باهتمام . ونسمع التعليقات علي هامش هذا الجدال . ثم يدخل المترو الى المحطة ويتوقف أمام لوحة اعلان سجائر كبيرة , فيخرج المدخن من المترو ويشير الى كل المراقبين المهتمين الى عدم تناسب حجم لافتة «ممنوع التدخين « الصغيرة داخل القطار مع الاعلان الضخم عن السجائر الذي يغطي أغلب رصيف المحطة . فهل المسرحانية حاضرة في هذا المثال ؟ ربما يقول شخص انها ليست حاضرة , لأن النقاش لم يعُرض علي خشبة المسرح , ولم يستدع أي من المشاهدين للفرجة , علاوة علي أن الحوار المتبادل ليس موقفا خياليا , لأن الطرفين منغمسين في مشادة فعلية . ورغم ذلك ربما يكتشف المتلقون الموجودون في المحطة أن المتصارعين كانا فعلا ممثل وممثلة يشاركان فيما يسميه أوجستو بوال «العرض المسرحي الخفي « . وبمعرفة ذلك , ومع الوضع في الاعتبار أن مشاركة المشاهدين لم تكن تطوعية , فهل يدعي شخص أن المسرحانية كانت حاضرة هنا ؟ يبدو أنها حاضرة فعلا . وربما نخلص الى أن المسرحانية في هذا المثال تنبع من وعي المتلقي بالقصد المسرحي الموجه اليه . وهذا الوعي يغير الطريقة التي ينظر بها الى ما يحدث . انها تجبره أن يرى المسرح في المكان الذي رآه فيه بالمصادفة ؛ وبهذه الطريقة يحول المتفرج ما يظن أنه حدث عادي الى خيال . وباضفاء دلالة علي عربة المترو , استطاع المتفرج ازاحة العلامات وفهمها بشكل مختلف , ويكشف الطبيعة الخيالية لسلوك المؤدين , وحضور الايهام حيث كان من المتوقع أن يكون ذلك حقيقة عادية . وفي هذا المثال تظهر المسرحانية نتيجة القصد المسرحي المؤكد للمؤدين , ويجب أن يفهم المتلقي سر المؤدين , وبدون هذا الوعي يحدث سوء فهم وغيب المسرحانية .
السيناريو الثالث :
تجلس في مقهى تشاهد المارة الذين يرغبون الأ يراقبهم أحد , وليست لديهم أي نية للتمثيل . وبينما يمرون وهم لا يقدمون أي تظاهر أو قصة , ولا يتصرفون كأنهم مرئيون , وبالمصادفة يلاحظون العيون وهي تتابعهم . ورغم ذلك تعرف عيناك نوعا من المسرحانية في اشكال المارة وايمائاتهم , وكذلك أيضا الطريقة التي يشغلون بها المكان . وكمشاهد , تبع عليهم هذه المسرحانية في المكان الحقيقي المحيط بهم , ذلك أن تمرين المشاهدة البسيط هو الذي يضفي علي المكان المسرحي الايماءات .
وبتأمل القيود التي يفرضها المكان علي المتلقي , نجد أن هذا المثال الأخير هو أكثر الأمثلة هامشية . ومع ذلك يمكننا أن نستخلص منه نتيجة هامة : المسرحانية لها علاقة بطبيعة الموضوع المستغل – الممثل والمكان والشيء والحدث . وهذا ليس بالضرورة نتيجة لمظهر الايهام أو الخيال .فهل هذه الشروط متطلبات أساسية للمسرحانية , الت نستطيع تحديدها في الأحداث اليومية . تبدو المسرحانية , باعتبارها أكثر من مجرد خاصية ذات سمات قابلة للتحليل , وكأنها عملية لها علاقة بامعان النظر الذي يخلق مساحة افتراضية منفصلة تنتمي للآخر الذي تنبعث منه القصة . وقد خُلقت هذه المساحة , في الأمثلة الأولى , بواسطة الفعل الواعي للمؤدي , المفهوم هنا بأنه الممثل والمخرج ومصمم الديكور ومدير الاضاءة . وفي المثال السابق خُلقت نظرة المتلقي كوسيلة نقل بين الأحداث والسلوكيات والأجسام المادية والفراغ , بغض النظر عن الطبيعة الحقيقية أو الخيالية لوسيلة النقل .
المسرحانية هنا حدثت تحت شرطين : الأول اعادة تحديد المؤدي للفراغ العادي الذي يشغله . والثاني منخلال نظرة المتلقي التي تضع اطارا لفراغ عادي لا يشغله. ومثل هذه الأفعال تحدث شرخا يقسم الفراغ الى داخل المسرحانية وخارجها . وهذا الفراغ هو المكان الآخر . وهو المكان الذي يحدد التبادلية والمسرحانية . فالمسرحانية تظهر كعلاقة تبادلية من خلال شرخ في المكان العادي , وهذا الشرخ يمكن أن يكون نتيجة سيطرة الممثل علي المكان العادي وتحويله الى مكان مسرحي. ويمكن أن يكون ذلك أيضا نتيجة لنظرة المتفرج التي تؤسس الفراغ كمكان مسرحي وباقامة تعديل كيفي منسوب الى هوسرل للعلاقة بين الذوات وهذه النظرة الفعالة تتأسس شروط ظهور المسرحانية . وفي الحالة التي ينتمي فيها التمهيدي الى الممثل , فان الآخر يصبح ممثلا من خلال فعل التمثيل المعترف به , من خلال النظرة التي تضيفها عليه المسرحانية في المكان المحيط به .
نستخلص من ذلك أن المسرحانية تكمن في وضع شيء أو آخر في مكان مسرحي محدد , كما يحدث في تحويل الشيء البسيط الى علامات تجعله عرضا . وعند هذه المرحلة من تحليلنا , تبدو المسرحانينة أكثر من مجرد خاصية . ربما نسميها في الواقع ادراك الذوات أثناء تفاعلها . انها عملية الرائي والمرئي , وهي فعل يبدأ في أحد مكانين محتملين , اما من جانب الممثل أو من جانب المتلقي . وتخلق في كلتا الحالتين شرخا في المكان العادي الذي يصبح مكانا لشيء آخر . وبدون هذا الشرخ يظل المكان العادي كماهو , وبالتالي يعوق امكانية المسرحانية .
يبدو أن المسرحانية عملية ادراكية خيالية توضع في حركة , اما بالنسبة للمراقب (المتفرج) أو المراقب (الممثل) . انها فعل أدائي يخلق مساحة الآخر الافتراضية , انها المكان الانتقالي Transitional spaceكما يشرحه وينيكوت , والعتبة threshold التي شرحها فيكتور تيرنر , والتأطير framing الذي شرحه جوفمان . وكلها توضح طقوس المرور التي تسمح لكل من المؤدي والمتلقي أن ينتقلا من مكان الى آخر .
ولا تعبر المسرحانية عن نفسها بأي طريقة اجبارية , كما أنه ليس لها خصائص كيفية تسمح لنا بتعريفها بدون أدني شك . فهي ليست معطا تجريبيا , بل انها تفوض الذات فيما يتعلق ببعدي العادي والمتخيل . ويبدو أن الأخير يتأسس علي الحضور في مكان الأول . وفي هذا الاطار تطرح المسرحانية سؤالا حول طبيعتها الترانسندنتالية .
................................................................................
نشرت هذه المقالة في عدد خاص عن « المسرحانية « أصدرته جامعة ويسكنسون عام 2002 .
جوزيت فيرال Josette Feral تعمل استاذا للمسرح والدراما في جامعة كوبيك في مونتريال – كندا .