«باب عشق».. شياطين الشعر وتراجيديا السلطة

«باب عشق»..  شياطين الشعر وتراجيديا السلطة

العدد 753 صدر بتاريخ 31يناير2022

باب عشق- هذا هو النص المسرحي الفائز بجائزة ساويرس 2022، لمؤلفه المتميز إبراهيم الحسيني، الذي يواجهنا بحالة إبداعية نادرة الجمال، غزيرة الرؤى والأفكار، تثير الوهج والإبهار، تكشف عن بشاعة الحقيقة وعن وجه العالم المحكوم بالمؤامرة وجنون السلطة، كما أنها تشتبك بقوة مع تناقضات الأعماق حين يتحول الإنسان إلى كيان ناري باحث عن الذات والطموحات بعيدا عن الأخلاقيات والقيم وعن قداسة الحب والروح والجسد، وعلى مستوى آخر تنتمي المسرحية إلى الأعمال السياسية الكبرى، حيث تطرح صراعا عارما ضد الديكتاتورية والسلطة والقهر، تدين الاستبداد والغياب، تعلن موت الحب وسقوط الأحلام، تعانق العبث في أبهى صوره، ويأتي ذلك عبر صياغة درامية عالية القيمة، أسلوبها مغرق في الجمال الشاعري الذي يتجه إلى عمق المأساة الإنسانية، وإذا كانت الأبعاد العميقة  لباب عشق تطرح خطابا ثوريا تقدميا، يخرج من أسر السائد والكائن ويبحث عما يجب أن يكون، إلا أن المؤلف إبراهيم الحسيني قد اشتبك جماليا مع أجواء الأساطير، ووقار التراجيديا، والكلاسيكيات العبقرية، حيث أصداء هاملت وأشباح ماكبث وعذابات لير، فتفجرت تيارات المشاعر الإنسانية والأبعاد النفسية، وتضافرت مع الوجود والعدم، مع المثالية والقيم، والواقعية السحرية الوحشية، وعلاقات الحب والجنس والعشق والدم والجريمة، تلك الحالة التي مكنت المؤلف من إظهار كل ما هو ملحمي وغنائي، تراجيدي وكوميدي، نثري وشعري، حواري وخطابي، فلسفي وأسطوري وخرافي، وذلك عبر الرؤى الجروتسكية الساخرة للواقع الإنساني . 
يأتي نص باب عشق كابن شرعي لواقعنا العربي عبر تاريخه في الماضي والحاضر، وهو يمثل منظومة فنية خلابة ترتكز على أبعاد درامية مسكونة بالمفاهيم العلمية للمسرح، من حيث الشخصيات والتقاطعات واندفاعات الفعل والأحداث، الزمن يدور في أوائل الدولة العباسية، عهد هارون الرشيد وقد يكون كما يشير المؤلف في أي زمن مشابه، ورغم أنه لا شيء تاريخي داخل المسرحية، إلا أنها تستند على بعض الآثار الأدبية والتاريخية، الأشعار مأخوذة من القصيدة الدعدية، والعمل مكون من أربعة وعشرين مشهد لكل منها عنوان خلاب، الشخصيات تبدو أسطورية إنسانية مثيرة وقاسية، رسمها إبراهيم الحسيني بألوان الحب والرغبة والدم والسقوط، فكانت تموج وعيا وجدلا وتناقضات «دوقلة» الشاعر العبقري المغمور يخطف القلوب، يدرك المعنى والقيم وينسج الأحلام و يعرف أسرار المعاني ويمتلك البيان، لكنه يعرف قليلا عن أطماع البشر، أما الأميرة دعد فهي فراشة تثير العشق، ويمكن لجناحها إن اهتز أن يحدث خللا في الكون، بينما يأتي غيلان كبطل أسطوري تدفعه سقطاته الوحشية إلى الجحيم، هو فنان يهوى تشويه الجمال، يشبه الصحراء وله من اسمه نسيب،، الإيقاعات الدرامية تتصاعد عبر حضور الملك رخاء الدين، صاحب السلطة والسطوة وأبهة الملك وعذابات مرض خطير، وزير البلاد كان يجيد المؤامرات ويترقب فرص الخيانة، أما رئيس الجيش فهو محارب قوي ومتآمر أقل قوة، ويظل راشد السياف هو صخرة صماء وسيف مشهر دائما، وهكذا تكتمل ملامح هذا العالم عبر وجود طاهر التاجر المغامر المسكون بالجموح والطموح، وهارون العبد القوي الباحث عن الحرية، وأخيرا نتعرف على خازن السر الوزير السابق المسجون في السرداب السري، والذي يعرف عن المستقبل أكثر مما يهتم بالماضي . 
تتخذ الأحداث مسارها في السوق الصاخب ببغداد، الحوارات السريعة اللاهثة ترسم ملامح الواقع السياسي والاجتماعي، طاهر التاجر المغامر يندفع إلى الشاعر دوقلة، يطلب منه قصيدة سيدفع فيها ألف دينار، لكنه يرفض مؤكدا أن الشعر كالعشق لا يباع ولا يشترى، وفي هذا السياق يأتي هارون العبد يعرض خدماته على التاجر، مؤكدا أنه يفعل ذلك مع كل الناس كي يجمع ثمن حريته ويعطيه لسيده إبراهيم البرمكي، وحين يمضي العبد يستوقفه طاهر مؤكدا أنه سيعقد معه صفقة . 
لم يتوقف طاهر عن مطاردة الشاعر، الذي قرر أن يعرف سر إصراره على القصيدة، اللحظات تتصاعد والتاجر يخبره، أن دعد أميرة نجد هي أجمل جميلات هذا الزمان، امرأة بارعة الحسن وشاعرة بليغة، هي ابنة الملك التي سترث الحكم من بعده، وزوجها الذي ستختاره هو من سيجلس على عرش البلاد، وقد اشترطت الأميرة أنها لن تتزوج إلا من شاعر يستطيع وصف جمالها وصفاتها في قصيدة تلمس أعماقها، هكذا بشعر دوقلة بإغراء الحكاية، ويدرك أن التاجر يفتح بابا للسطو على العرش، وهدفه هو القفز على حكم نجد، وعلى الفور يعلن أن الحكاية راقت له و وسوف يكتب القصيدة لنفسه.
في بيته الصخري الفقير جلس الشاعر يكتب قصيدته، بينما العبد الذي امتلك ثمن حريته يهاجمه ويحاول أن يقتله، النقلات السريعة تأخذنا إلى قصر الملك رخاء الدين الناصر وابنته الأميرة، الأب يشعر بالملل والمرض والشابة المدللة تلتقي بطابور الخطاب، بحثا عن فارسها الشاعر المنتظر، وفي هذا الإطار تحكي الأميرة لأبيها عن الكابوس المخيف الذي يطاردها، والوزراء ينقلون للملك تهديدات الأمراء، بينما تشهد الصحراء الممتدة لقاء الشاعر وصديقة العبد بالفنان الجبلي القاسي غيلان، تراتيل ما قبل الطوفان تبعث فيض الدلالات والوردة السوداء تنذر بصراع مخيف، الشاعر دوقلة 
يحكي لغيلان عن قصيدته والأميرة والسلطة والعرش، اللعنة تنظم قصيدتها، وغيلان يسرق القصيدة التي اكتملت ويندفع إلى دوقلة يطعنه طعنة نافذة في القلب، الطعنات تتوالى والشاعر يصرخ مؤكدا أن القصيدة ستقتل غيلان ولو بعد حين، الضوء يكشف الأرواح والأشباح ونرى الشاعر يتحرك وهو مقطوع الرأس، بينما يظهر سارق القصيدة القاتل وهو يتهيأ لدخول القصر، يقدم هداياه للملك والأميرة، يقرأ الشعر فيثير دهشة الجميع، عيون الأميرة تلمع بالفرحة والملك يأمر المنادي أن يعلن في أرجاء المملكة أن ابنته اختارت من تريده زوجا، وفي هذا السياق تتصاعد دوافع ومؤامرات الوزراء ويشعر الأب بالخطر القادم، بينما يصل هارون صديق دوقلة الشاعر المقتول، إلى نجد يطلب مقابلة الملك لتوصيل رسالة شفهية للأميرة وأبيها . 
تمتد إيقاعات الوهج، الملك المريض يخبر ابنته أنها النهاية، وأنه خائف من ضياع الملك فالكل يطمعون فيه، يعطيها وسادة بداخلها خنجر وقائمة بمن يؤيدونه وأخرى بالمعارضين، يحدثها طويلا عن الملكة الخيرزان – الجارية التي حكمت الدولة العباسية، فتعد أباها أن تكون قوية تمتلك كل شيء في مملكة أبيها وأجدادها، ولو من وراء الستار، وفي تلك اللحظات يموت الملك، وتقرر ابنته أن تخفي ذلك الخبر، بينما كان هارون في حضرة الوزراء يروي لهم حكاية غيلان راعي الغنم القاتل، الذي سيتزوج الأميرة ويجلس على العرش . 
كان غيلان في مخدعه الملكي الأنيق يقف أمام المرآة يتأمل نفسه، صورة دوقلة تنعكس أمامه، الرعب يحاصره فيرفع سيفه ليقتل الشبح، بينما تأتي الأميرة تخبره عن موت الملك وترجوه أن يظل الأمر سرا، حتى تتم مراسم زواجهما في موعده، وكذلك مراسم تتويجه ملكا للبلاد، وهكذا تبدأ القصيدة  في البوح بكل أسرارها، الوزراء يعدون الجنود ليخونوا العهد، يقطعون لسان هارون كي لا يتكلم، ومأمونة الخادمة تسمع كل الأسرار وتخبر الأميرة بحقيقة غيلان . 
تأتي اللحظات الأخيرة حاسمة فاصلة ومفزعة، القصر يشهد العرس الملكي المهيب، الراقصات والجواري والحراس في القاعة، دعد ترتدي فستان العرس وغيلان يقبلها، يجلسان في صدارة المشهد، صليل السيوف يتصاعد في إيقاع مخيف، الوزراء يتجردون من السلاح، الأميرة تواجه بقوة مؤامرات السقوط، تعلن للجميع  أن الملك سيصل بعد قليل ليبارك الزواج، ويعلن غيلان نائبا له في حكم البلاد، الوزير بكر يندفع ليعلن للجميع حقيقة غيلان، والأميرة تنفي، الحراس يرفعون السيوف والأميرة تبعث بعينيها أشواق اللهفة لغيلان، وتأمر رجالها بالقبض على الوزيرين لحين قتلهما . 
يعود الغناء والرقص وغيلان يعيش أقصي أمنيات وجوده، دعد تطلب منه أن يقتل الوزراء، فيفعل ويعود شاهرا سيفه وهو يقطر دما، طيف الشاعر المقتول يتبعه كظله، بينما تقترب الأميرة وتتحسسه في اشتهاء، تطلب منه أن يغمض عينيه وتطعنه بالسيف في قلبه، يموت وهو يلهث قائلا - - لو عاد بي الزمن مرة أخرى لفعلتها فربما تنجح وأصير ملكا، وهكذا تنتهي المسرحية، ترتفع نغمات الموسيقى وترقص الأميرة بجنون، بينما يفرد الشاعر ذراعيه ويتأرجح كموجة تائهة . 


وفاء كمالو