العدد 812 صدر بتاريخ 20مارس2023
المقدمة :
موضوع هذه المقالة هو أن المحاكاة العفوية والمحاكاة اللاشعورية لإيماءات شخص آخر، وموقفه الجسدي، علاوة علي كلامه، وهي قوة في الأداء المسرحي. وتخلق مثلث الإيماءات التالي « من الممثل إلى المشاهد، ومن المشاهد إلى الممثل، ومن المؤلف إلى الممثل . والمحاكاة هي استجابة اجتماعية طبيعية، أحيانا علنية، ولكنها غالبا غير ملحوظة وغير مقصودة، ولا يلزم أن تكون واضحة . وهي الأكثر بروزا كلما تم تحديد المشاركين وما يتم محاكاته . ويظهر نفس المثلث في التمثيل السينمائي مع التقاطعات والتعديلات الضرورية . وسوف أتناول السينما في نهاية المقال، بعد شرح المثلث وما يحدث حوله في المسرح .
تظهر محاكاة إيماءة الكلام علي ضلع في المثلث . ولعل إحدى النظريات المتعلقة باللغة هي أن، الدلالة – العلامات التي تستخدمها أو تسكن فيها – تتضاعف : هناك نوعان من العلامات هما الإيماءات والشكل اللغوي، ويجسدان في نفس الوقت وحدات الفكر . وكل نطق هو هكذا . ففي القاع ،يتحول الكلام إلى وحدات هي عبارة عن إيماءات وشكل مشفر . وهذا صحيح حتى لو كانت الإيماءة الصريحة مفقودة . وتظل الإيماءة حاضرة كتشبيه . والصورة هي أهم جوانب الإيماءة، والحركة الخارجية هي تجسيدها المادي ، ولكن بما أن الجدارة الإخبارية الأقل تستدعي مادة أقل، فان غياب الإيماءة هو مجرد نقطة نهاية لسلسلة الاستمرارية ذات الأهمية . ويزال هناك دلالة ثنائية للتشبيه والشكل ( قدم فيجوتسكي عام 1987مفهوم الناقل المادي، في الرسم البياني للاستمرارية في كل من الإيماءة والكلام .
ورغم ذلك، لا يختزل التشبيه والشكل اللغوي أحدهما إلى الآخر . فهما يحتفظان بهويتهما الدلالية في جدلية الصورة – اللغة . ولا تستقر الفكرة الواحدة في صيغتين في نفس الوقت . ويسعى عدم الاستقرار هذا إلى حل ويدفع الفكر والكلام إلى الأمام . وقد جادلت عن هذا النسق الدينامي في عدة مواضع، أحدثها في الارتباط باللغة الأصلية . ومساهمتي الآن هي أن المسرح يبدو أيضا أنه يجسد جدلية التناقضات الدلالية . إذ يوجد في المسرح أيضا شكلا مشفرا وتشبيها، هما جدليان . وبهذا المعنى، فان المسرح، في شكله العلني والبارز، هو لغة . انه لغة بمعنى أعمق مما نفترض ؛ انه يمنح المادة لعبارة « المسرح لغة « المبتذلة . وقد كتب مايكل تشيكوف في نصيحته للممثلين عن الشعور العام بطريقة توحي بهذه الدلالة المزدوجة . إذ يقول إنها دينامية وليست جامدة وتنشأ من تقاطع ماهية التناقض الدلالي، فالشعور العام، الذي هو شامل وتركيبي، يشبه صورة الإيماءة، وحركة الممثل وكلامه، اللذان هما بالضرورة متتابعان يتم إرسالهما خلال التدريب.
إن المقارنة بين اللغة والمسرح ليست كاملة بطبيعة الحال . وهذا ليس مفاجئا . فالمسرح يعلي من المفاهيم ويحط منها . ويعلق جاك ليكوك علي هذا فيما يتعلق بالكلام المسرحي . فهو مهتم بشكل خاص بكيفية احتواء الكلام علي صمت في المسرح، قبل الكلام وبعده علي حد سواء، والتراكم، ثم لا شيء آخر لتقوله . إذ يتم تقديم الكلام على أنه كتلة محصورة، وهذا أمر مسرحي بحت . والكلام اليومي العادي لا يأتي في كتل يفصلها الصمت . ويكافح المتحاورون لتجنبها .
المثلث إذن، هو نتيجة طريقة الإدراك المبنية داخل العصب الإنساني . وليس من المستغرب أن يستوعب التاريخ الطويل للمسرح والبلاغة هذا – فكيف يمكن أن يكون الأمر علي العكس من ذلك ؟ . انه شكل طبيعي من أشكال الفكر والمسرح الذي يتناقض معه أو يتجاهله فقط، ولن يستمر طويلا ( علي الرغم من التجارب المسرحية التي أصف بعضها لاحقا ) . وهذه الطريقة الإدراكية ليست فريدة في المسرح، علي الرغم من أنها تأخذ شكلها الخاص هناك . تختبر ديناميات كيفية معايشة الجمهور للممثل، ومعايشة الممثل للجمهور، ومن خلال الممثل يعايش الجمهور المؤلف، ويدور حول جوهر اللغة باعتبارها كل دينامي . لا أعني ببساطة أن الممثلين والمؤلفين يستخدمون اللغة الإيماءة، وهم يفعلون ذلك بالطبع، ولكن المسرح يعتمد علي طريقة الدلالة التي لا تكون مبالغا فيها غالبا و التي لا تختلف جوهريا عن الإيماءة كجزء مكمل للغة. ونبدأ تبعا لذلك بهذه الدلالة . ولكي نفهم الدلالة الثنائية في المسرح، من الأفضل أن نبدأ بالإيماءة واللغة نفسها .
ما هي الإيماءات ؟ وكيف تسلط الضوء التفكير في مقابل الكلام وأثناءه ؟
من بين العديد من مظاهر تجسيد لغة الإنسان وإيماءات الفكر، هناك مظاهر خارجية طبيعية عامة . فالإيماءة في الأساس ليست إضافية ( كما أطلق كيندون عام 2008 هذه الرؤية المعاكسة، وجادل بأنه يناقضها تماما ) . فالإيماءة هي جزء مكمل للغة، وهي حقيقة تم التغاضي عنها لأن الإيماءة ليست تقاليد مكتوبة ( علي الرغم من أنني سأجادل لاحقا بأن اللغة المكتوبة تتضمنها أيضا . وصورة الإيماءة هي المكون المكمل للكلام، وليست مصاحبة، ولكنها جزء منه فعلا . وتدعم هذه الفكرة المزيد من الأدلة ولكن مغزاها الكامل لا يُلاحظ دائما .
وعندما أتحدث عن الإيماءات، لا أشير إلى الإيماءات الأسلوبية، ولا أحاول التقاط إيماءات في فترة تاريخية، ولا أقصد الإيماءة بمعنى شد الجفن التي كثيرا ما يستشهد بها الذين يجمعون المعاجم، مثل “ الإيماءات الفرنسية “ و”الإيماءات الايطالية “ وما إليها . والتعريف الذي يفي بغرضنا هو : “ الإيماءة “ هي فعل تعبيري يجسد الصورة ( وليس بالضرورة باليدين فقط ) والذي يعد جزء لا يتجزأ من عملية الكلام . فالإيماءات هي جزء من الكلام مثل الصوت . والكلام نفسه في جانب منه إيماءة . وسوف نرى الآثار المترتبة علي هذه الحقيقة .
فكرة النمو : النموذج النفس لغوي الذي نتبعه :
عندما تتزامن الإيماءة والكلام ( كما يحدث في أكثر من 90% من النطق )، الفكرة الأولى هي في صيغتين دلاليتين متعارضتين، هما الصورة واللغة . والنتيجة هي وحدة الفكرة التي تتعايش فيها الصورة والكلمات، وهذا موقف دينامي بطبيعته . وأصغر وحدة في هذه الجدلية تسمى نقطة النمو growth point .
نقطة النمو هي أصغر وحدة في جدلية الصورة-اللغة . وتسمى نقطة النمو لأنه من المفترض أن يكون النبض الأولي للتفكير من أجل ( وأثناء) الكلام، والذي تنبثق عنه عملية تنظيم دينامي .
تستوعب نقطة النمو سياقها – مجالها من التعارضات ذات المعنى – إضافة إلى البعد الدينامي للغة . وتوجد نقطة النمو باعتبارها نقطة تمايز داخل هذا السياق، الذي يتم بناؤه جزئيا لجعل التمايز ذي مغزى .
نقطة النمو هي مفهوم تجريبي . إنها فرضية تتعلق ببيانات الإيماءة- الكلام المستنتجة من مجمل أحداث الاتصال، مع التركيز بشكل خاص علي تزامن إيماءات الكلام مع التعبير .
ويتم تصوير هذه المبادئ مع أمثلة تجارب سرد القصص الموضحة في الشكل (1). والاختلافات البسيطة تروي قصة كبيرة . وكل متحدث يروي لمستمعه قصة رسم كاريكاتوري شاهده للتو . وقد كان نوع الكارتون، وهو مغامرات تويتي وسيلفستر، مألوفا للمتحدثين، ولكن الرسوم المتحركة المحددة، وهي «طابور الكناريا Canary Row» (من إخراج ايزادور فريز فريلينج 1950)، كانت جديدة. في الرسوم المتحركة، يجلس تويتي في قفصه علي حافة نافذة عالية تطل علي الشارع. ومشكلة سيلفستر هي كيفية الوصول إليه. الراوي في الصورة (أ) يصف كيف أن سيلفستر قد استخدم من قبل أنبوب ملائم للوصول إلى نافذة تويتي عن طريق القفز عليها، ليتم إعادته مرة أخرى إلى الشارع بواسطة جراني المخيفة. والراوي يصف الآن محاولة سيلفستر الثانية، وهذه المرة الاقتراب خلسة عن طريق تسلق الأنبوبة من الداخل. ويقول «صعد من داخل الأنبوبة هذه المرة» – تشير الأقواس إلى عبارة الإيماءة، والفعل التعبيري بأكمله، بخط عريض، وضربة الإيماءة هي الجزء ذو المغزى: التأكيد علي الإيماءة والحفاظ علي وضعية الضربة وموضعها ولكن بدن حركة، والخط الأكبر هو نقطة الكلام النمطي. يتضمن تناول الإيماءة والكلام المؤكد المتزامن معها فكرة أن اقتراب سيلفستر متضمن من الداخل، وأن هذه كانت معلومة ذات أهمية إخبارية. الراوي (ب) يصف أيضا الصعود الداخلي، ولكن بالنسبة له، هذه هي أول محاولات سيلفستر لتسلق الأنبوبة (إذ نسي الصعود الخارجي الأول). وبينما نرى أن إيماءاته وكلامه ينقصه الملمح الداخلي. وبدون التناقض مع المظهر الخارجي، فعلى الرغم من ملاحظة المظهر الخارجي، فانه ليس ذا أهمية إخبارية. فنحن نعرف أنه كان ملحوظا، لأنه استمر في وصف كيف أسقط تويتي كرة بولينج ضخمة داخل الأنبوبة. (يحاول التسلق أعلى برميل المطر ويراه الطائر تويتي وهو قادم ويرمي كرة البولينج أسفل برميل المطر، والذي يجعل للسرد معنى إذا لاحظ وتذكر أن سيلفستر كان بالداخل . يستجيب المتحدثان (أ) و(ب) بنفس الطريقة – نقطة النمو المبنية حول ماله أهمية إخبارية – ولكن بسبب أن السياقات المختلفة لها أفكار مختلفة عما هي عليه : (أ) يميز الصورة الداخلية، ويميز (ب) التسلق فقط .
الأوضاع المتناقضة :
حتى عندما تكون المعلومات الدلالية في الإيماءة والكلام هي نفسها، كما هو الحال في الشكلين (أ) و (ب)، فإنهما في أوضاع دلالية متناقضة .
الإيماءة شاملة، ويعتمد مغزى أجزاءها (اليد والحركة والمساحة .. الخ) علي معنى الكل . وتحديد المعنى يتم من أعلى الى أسفل . في الشكل (أ) اليد هي تسلق سيلفستر، والمساحة المفتوحة هو داخل الأنبوبة، والاتجاه هو صعوده لأعلي . هذه المعاني لا توجد خارج هذه الإيماءة، ولكن بمعرفة الكل، يمكننا أن نرى معاني الأجزاء .
وأنها تركيبية، وهذا يعني أن إيماءة واحدة تتضمن المعلومات المنقولة بالكلام علي مكونات مختلفة . وتمزج الإيماءة هذه المعني في شكل رمزي واحد .
واللغة هي العكس في كل نقطة . إنها تحليلية واندماجية . إذ يتم تكسير الحدث إلى مكونات ( يذهب + لأعلى + خلال + الأنبوبة ) والتي تمتزج إذن وفقا لنموذج التركيب اللغوي لكي تصنع الكل، وهو وضع مختلف تماما للدلالة . فالكلمات لها معاني مستقلة عن الجزء التي يتم سرده، وتحديد المعنى هنا يكون من أسفل إلى أعلي .
ولذلك عندما تتضمن الإيماءة والكلام نفس الفكرة في نفس الوقت، فانهما يخلقان شروط جدلية الصورة – اللغة.
- السياق :
هناك مصدر آخر للدينامية هو أن نقطة النمو وإيماءاتها لا يوجدان بدون سياق. وهذا أمر دينامي لأن السياقات، ولاسيما سياقات الكلام الفورية، تتغير باستمرار. ونقطة النمو هي نقطة تمايز داخل هذا السياق . أنها ما يسميها فيجوتسكي المحمول النفسي psychological predicate . وفي الشكل (أ)، حيث ضاعف شكل إيماءة الصعود الداخلي، وقدمه وكأنه تعارض ذي أهمية إخبارية مع الصعود الخارجي، وقد كان السياق شيئا أشبه بطرق الإمساك بتويتي عن طريق الأنبوبة، والمحمول النفسي ونقطة التمايز ذات الأهمية الإخبارية هي باتجاه الداخل . ولا يمكن فصل التمايز عن السياق . انه لا يختلف عن المفهوم الإدراكي للكل، والشكل الذي يوجد في مفارقة مع الخلفية . فالإيماءة هي الشكل الكلي للفعل، والتمثيل كنقطة تمايز في خلفية الاحتمالات . ويختلف شكل معنى شكل الأرضية عن لنظريات التي يتراكم فيها المحتوى، علي سبيل المثال كمرجع وترابط، والمفاهيم التقليدية للمعنى في علم اللغة والفلسفة وعلم النفس . والمتحدث في الشكل (ب) الذي لم يذكر الصعود الخارجي، لدية سياق أو خلفية مختلفة، رغم أنه يصف نفس المشهد، شيء يشبه طرق الإمساك بتويتي، والمحمول النفسي، وجهة نظره في التمايز الجدير بالاهتمام، كان تسلق الأنبوبة ( أول ذكره لها ) . هذه النقطة – المعنى لا ينفصل عن السياق – سوف تكون ذات أهمية فيما بعد عندما نتأمل المحاكاة في المسرح .
كيف تلقي نقطة النمو الضوء علي مثلث النقل من الممثل إلى المشاهد، ومن المشاهد إلى الممثل، ومن المؤلف الى إيماءة الممثل :
يمكننا تطبيق منطق نموذج نقطة النمو علي المسرح والى أضلاع مثلثنا . أولا، من المهم أن نلاحظ أن نفس المنطق لوحظ مرارا من خلال منظري الأداء بداية من كوينتليان Quintilian حتى الآن . ومرة أخرى، ليس الممثلون فقط هم الذين يتحدثون ويقومون بالإيماء، ولكن المسرح والأداء عموما يجسدان نفس الدلالة الثنائية كلغة .
.....................................................................................
• نشرت هذه المقالة في Journal for Cultural Research عام 2014 والتي تصدر عن دار نشر Tylor & Francis .
• ديفيد ماكنيل يعمل أستاذا بقسم علم النفس بجامعة شيكاجو في الولايات المتحدة الأمريكية .