مسرحية الدموع لفرقة الأوبريت المصري

مسرحية الدموع لفرقة الأوبريت المصري

العدد 783 صدر بتاريخ 29أغسطس2022

واضح أن مسرحية «الدموع» - التي أنهينا مقالتنا السابقة بملخص عنها، والتي عرضتها «فرقة الأوبريت المصري» في كازينو العائلات بطنطا – كان لها تأثير كبير على الكتابات النقدية والصحافية في هذه الفترة! فقد كتب عنها الناقد «جبر» مقالة في جريدة «الممتاز» في نهاية أغسطس 1927، تحت عنوان «التمثيل في طنطا .. فرقة الأوبريت .. رواية الدموع»، قال فيها:
أحسنت الفرقة أيما إحسان باختيار رواية «الدموع» لعرضها على المسرح عقب ليلتي الحداد اللتين أضربت فيهما عن التمثيل، حزناً على فقيد الوطن والأمة المغفور له «سعد زغلول باشا»، فكان هذا الاختيار من جانبها رمزاً قائماً ودليلاً قاطعاً على صدق تقديرنا لمجموعة الفرقة، ولما ضمت بين جوانح أفرادها من أخلاق سامية، وعواطف تتأجج حماساً وتفيض غيرة على صالح الوطن، وصالح الأمة التي تلقي بين يديها دروس العظة والاعتبار بما تمثل من روايات وما تبدي من حكم وآداب. ولقد صادفت رواية الدموع بين يدي الفرقة نجاحاً غريباً تحدث به جمهور المتفرجين، من مصريين وأجانب، وراحوا يلهجون بالثناء على الفرقة والإشارة بذكرها. ولعل أبرز بطل في ميدان الرواية كان جمال بك وكانت زوجته. فقام بدور جمال بك عباس أفندي الدالي، مدير الفرقة فأظهر الجمهور على ما يجيش بصدر الرجل الذي يصدم صدمته من آلام وأحزان، والنتيجة السيئة التي يؤول إليها أمر رجل تلك حالته، فكان عباس مبدعاً في دوره مجيداً في تمثيل العواطف المتنوعة التي تخللها الدور. ومصوراً المفاجآت الغريبة التي مرّت عليه في جميع أدوار حياته في حال الزوجية وبعدها، وعند المقابلة الثانية، وعند علمه بما بين مطلقته ضياء، وابن أخيه أمين بك (الذي قام بدوره حسين أفندي لطفي فأبدع فيه) من علاقة. كما قامت السيدة مرجريت بدور ضياء .. وضياء التي تنوعت حياتها، وتشكلت ألوان معيشتها، كانت مجهدة ومتعبة أن يقوم أحد بدورها، ولهذا لبثنا ننتظر مصير هذا الدور المتعب بين يدي مرجريت. ولم تكد تنتهي من دورها في نهاية الرواية وتصبح جثة هامدة بجوار ابنتها سعاد (التي قامت سنية بتمثيل دورها بشيء من البساطة)، حتى جزمنا أننا واقفون أمام ممثلة قديرة ومصورة بارعة، تعرف كيف تأخذ القلوب وتستولي على الحواس، فدهشنا ومن حقنا أن ندهش بعد أن كنا عبنا عليها موقفها في رواية «دقة المعلم»! واستفسرنا عن السر في هذا التطور الغريب في تمثيل السيدة مرجريت، تلك التي بتنا نؤمن بكفاءتها ونعتقد في قدرتها فتبين أن السيدة مرجريت تعتبر في العرف المسرحي «بريمادونة» الفرقة، وأنها لم تحقق في «دقة المعلم» عن عجز أو عن ضعف. وإنما عن تضررها بتقصير بعض الممثلين. واهتمامها بإرضاء جمهور المتفرجين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلأن الملقن كان قليل الانتباه لمهمته، ومن جهة ثالثة فلأنها بفطرتها تجيد الدرام عن الكوميدي بما حبت عليه من حشمة ووقار. ولهذا كانت مبدعة، وكانت فريدة في نوعها عندما مثلت الحياة الزوجية في بادئ أمرها. كما أجادت في تمثيل حياة المومس وقدرتها على إرضاء متنوع العشاق. وبراعتها في اقتناص الفرص. وأخيراً أبدعت واتقنت حياة التوبة، والترنح إلى الطهر. وكم كانت مقنعة ومشبعة عند مقابلتها لسعاد. ومفاجأتها بوجود أمين بك بمنزل عمه. وباختصار كان العبء الثقيل في رواية الدموع ملقياً به على رأس مرجريت. فتحملته بمهارة ونجحت في ليلتها تلك منتهى النجاح حتى استوجبت رضاء المتفرجين، وأعجب بقدرتها الذين حضروا تلك الرواية. وأما باقي الأدوار – إن كانت في ذاتها ثانوية – إلا أن القائمين منها أجادوا فأجاد حسين لطفي دور أمين بك، وأجادت سنية دور سعاد خطيبة أمين بك، كما أجاد توفيق إسماعيل دور العاشق الذي افتتن بضياء فبدد عليها ثروته حتى أصبح خادماً عندها بالرغم من احتفاظه بالحذاء الجديد وعدم التصرف فيه مع باقي أملاكه. ولهذه العوامل كلها خرجت الرواية على المسرح صورة طبق الأصل من الحياة التي من هذا النوع. وعلمنا بعدئذ كما نعلم من قبل أن الفرقة قوية. وأن أفرادها أكفاء نابهون، فنهنئهم جميعاً بهذا النجاح الكبير. ونتمنى لهم في طنطا طيب الإقامة وكثير الإقبال.
وبالرغم من أن مقالة الناقد كانت موجهة نحو مسرحية «الدموع»، إلا أنه اختتمها بالحديث عن عروض أخرى عرضتها الفرقة بعد الدموع، قال عنها تحت عنوان «سفير طوكر وبنت الشبندر»: وأعقبت الفرقة على رواية الدموع في ليلتين متتاليتين برواية سفير طوكر ورواية بنت الشبندر، فلقيت كلتاهما نجاحاً ورواجاً عظيمين، على يدي جميع الممثلين باضطراد. ففي الأولى أعجب الجمهور بتوفيق الذي قام بدور زعزوع بك، وافتتنوا بكريمته منيرة التي مثلت السيدة مرجريت دورها، فأظهرت فيه المعجز والمبدع المضحك والمبكي. وفي الثانية، كان الإعجاب والاطناب حليف مرجريت التي مثلت دور بنت الشاه، ومحمود عقل الذي مثل دور والدها، وبحسين لطفي الذي مثل دور قاووق الدولة، مما اضطر الجمهور معه أن (يهز له قاووق)! ولا تسل عن المهارة التي أبداها حسين أفندي الشماع في دور علاء الدين، وتشخيص غرامه وافتتانه ببنت الشبندر، وإيثاره السجن عن البوح بالغرام، وتعريض معشوقته للقيل والقال. كما كان موقف توفيق في دور ابن عم الأميرة لا بأس به (ولعل له عذراً وأنت تلوم). وكما أبدع عباس ومحمد يوسف في دوري زقزوق وزرزور. كما قامت الفرقة بتمثيل رواية «الأميرالاي» فأبدع محمد يوسف في دور الأميرالاي كما كان عباس ضابطاً مجيداً. واستطاع يس أن يجيد ويبدع تمثيل دور الملك، كما أجاد وأبدع كل دور عُهد إليه في جميع الروايات التي تمثلها الفرقة. فهو ممثل بكل ما تحت الكلمة من معان. ولقد كانت مرجريت مثالاً حسناً لجميع عساكر الأورطة. وكم كان موقفها الغرامي بالجاسوس مفتناً ومطرباً، تجلت فيه المواقف التمثيلية الحقة. وساعد على نجاحها كفاءة توفيق وقدرته على ملاءمتها عندما قام بدور الجاسوس. ويمكننا الجزم بأن الأسبوع المسرحي الماضي كان في فرقة الأوبريت رائجاً وناجحاً، وربما كان للمنافسة أثر فيه لأن الفرقة تبذل جهدها للتفوق، وهي موفقة إليه إن شاء الله. [توقيع] جبر.
ناقد آخر للمسرحية
لم يقتصر نقد مسرحية «الدموع» على الناقد «جبر»، بل وجدت ناقداً آخر تناولها بعد شهرين في جريدة «الممتاز»، وكان نقده يحمل الكثير من المهنيّة، مما يعني أنه ناقد دارس وفاهم، وربما كان ممارساً للمسرح! وللأسف لم أجد له توقيعاً! والجميل في الأمر أنه لفت نظرنا إلى أن اسم المسرحية الأصلي «دموع البائسة»!! ومقالته منشورة في منتصف أكتوبر 1927، وقال فيها:
رعى الله واضع الرواية، وألهمه الرشد والسداد فيما يطلع به على الجمهور من نصائح وحكم مصنوعة في قالب روائي بديع، فأنت تشهد الحكمة البالغة والعظمة الناطقة، ملموسة في رواية «دموع البائسة» التي وضعها الممثل القدير والكاتب الروائي البليغ «محمد أفندي كامل»، فلا تكاد تسمع مما تضمنت الرواية حتى تحس في داخلية نفسك بشعور عميق تسرب إلى قلبك، ليحرك وتره الحساس إلى الاتجاه الذي ابتغاه الواضع في روايته. تلك التي قد تدخلت على نواح شتى من مناحي الحياة، ولست موضع الداء فينا. وتركت لنا البحث عن الدواء وإن كانت لمحت إليه بعض التلميح. والرواية تتلخص في أن صديقاً أُغرم بزوجة صديقه ونال من قلبها لدرجة جعلتها تطأ قيود الزوجية، ولا تحترم حقوق البنوة، وقد فاجأهما الزوج في مخدعهما، فكانت مواجهة انتهت بمقاطعة صديقه وتطليق زوجته وحرمانها رؤية ابنتها. وما انقضت خمس عشرة سنة حتى كانت الزوجة مومساً، وكان صديقها خادماً لها - بعد تبديد ثروته في سبيل شهواته وملذاته - وما علم زوجها بهذه الرواية من أحد أصدقائه حتى طلب إلى مطلقته هجران المدينة فرضيت له بذلك مقابل رؤية ابنتها، وعاهدت الله على أن تطلق بيوت الدعارة! فقبل منها هذا الوعد على شريطة إخفاء الأمر عن البنت. وعند المقابلة، وكانت البنت مخطوبة لأبن عمها، ذلك الذي كان عشيقاً للزوجة – وأم خطيبته - في دار عهرها! فكانت مفاجأة للجميع، فأطلق الزوج مسدسه قاصداً إزهاق روح مطلقته فأصابت الرصاصة ابنته، فعقب عليها برصاصة أخرى أصابت هدفه، ثم انتحر. وهكذا انتهت الرواية كما ابتدأت مأساة محرجة، وفجيعة مؤلمة في مختلف فصولها.
ويعلق الناقد على هذا الملخص قائلاً: لسنا نعيب على الرواية – وهي قتالة، فتاكة بالعواطف، منطبقة على اسمها تماماً فهي دموع البائسة – غير فصل بسيط تخلل الرواية في حياة الزوجية بماخور الفساد – ذلك الدور الكوميدي الصرف الذي يقوم به أمين بك وأخوه وعمتهما حورية، وحكايتها التي لا علاقة لها بالرواية، والتي تأخذ بالجمهور إلى اتجاه خاص ينتهي مسرعاً، وإذا انتهى لا يجد من ورائه غير رغبة المؤلف في أن يروح النفوس بشيء من الضحك يدخله عليها، وبودنا لو مُثلت هذه الرواية بغير أن يأخذ هذا الدور نصيباً فيها فبعد أن يتواعد جمال بك ومطلقته على المقابلة ترفع الستار، وتحصل المقابلة، وتكون المفاجأة مباشرة، وفي هذا توفير للوقت وللمناظر، وتمشٍ معقول مع طبيعة الرواية. وإذا كان ولا بد من وصف حياة المومس ومبلغ افتتان المندفعين في تيار غرامها بها – فلا بأس من أن يقوم بهذا الدور خطيب البنت قبيل مقاطعتها بالخطاب، وقبيل عزمه على الزواج – لأن هذا الخطيب من أشخاص الرواية الحقيقيين وله دور فيها. أما أمين وإبراهيم فلا زلنا مصممين على أن وجودها في الرواية سخرية لا مبرر لها، اضطر إليها المؤلف رأفة منه على الجمهور الذي خيم عليه الحزن في جميع فصول الرواية وأدوارها. كذلك يهم الجمهور الاطلاع على ما يأتي: علاقة محمود أفندي بجمال بك، وقد سمعنا جمال بك يمن عليه بكثير من الحسنات. وطريقة هيام محمود أفندي بضياء، وكيف أتصل محمود أفندي بضياء بعد المفاجأة. وكيف ضاعت ثروته التي كان يمن بضياعها على ضياء وهو في خدمتها. هذا وغيره تحسينات يصح إدخالها على الرواية ونطمع في كفاءة واضعها أن يعير هذا الطلب شيئاً من العناية. وفيما عدا ذلك فالرواية معجزة من معجزات القلم، تجر القلوب إلى حزن عميق، والنفوس إلى تفهم معاني شتى من صور الحياة وألوانها، وتجعل المرء يتخذ الحيطة من كل المحيطين به. ولعل أبرز دور في الرواية، هو دور جمال بك، وموقفه عند مفاجأة زوجه، تشرع في تدنيس شرفه بمنزله مع صديق له، واحتماله هذه الصدمة، ثم تفكيره في تهريب ابنته سعاد وإخفائها عن عيون أمها، ثم درسه الحكيم في الصحافة الذي أخذ يتلوه على الجمهور بعد 15 سنة من حادثته المشؤمة، وكذا مباغتته من صديقه علي بك بظهور ضياء ووجودها في القاهرة تحترف البغاء وتعاقر العهر، واستسلامه لفكرة إرغامها على مبارحة المدينة، وكيف حصلت مقابلته بها، وأخيراً كيف كان مركزه مع ابن أخيه خطيب ابنته وعظاته النافعة بشأن البدع التي ترتكب في الأفراح والمآتم ونحوها. وفي النهاية كيف خشى افتضاح الأمر وقضى على حياة المومس بعد بنتها وختم الفجيعة بالقضاء عل نفسه خنقاً. في كل هذه المواقف الأليمة نجد عباس الدالي يجيد ويبدع، فلا إفراط ولا تفريط مع هزات القلوب بنبرات الأصوات المناسبة مما استوجب إلفات نظر الجمهور إليه، وإعجاباً به. وبالمثل كانت «ضياء» وتذللها لزوجها عند المفاجأة للصفح عنها، وتوسلها لأن ترى ابنتها، وتطور حالتها إلى احتراف البغاء، والتعيش من الزنا، وكيف لا تبقى المومس على رفيق، وكانت تستعمل الدهاء والمكر مع محمود الذي أصبح خادماً لها تقنعه بحبها إياه. وكذلك الحال عند مقابلتها مع جمال بك في دارها، والسؤال عن ابنتها والتزلف إليه ليريها إياها وتضحيتها بكل أموالها، وعزمها على التوبة لتكفر عن حياتها جزاء رؤية سعاد بعد 15 عاماً من مفارقتها. وهذه المواقف المتباينة تتطلب قدرة وكفاءة وجدها الجمهور مجسمة في مرجريت، فكم كانت مبدعة في بث محمود غرامها وفي التذلل للزوج وفي تمثيل دور العهر واللعب بعقول زبائنها. وغير هذا من المراكز التي اجتازتها في دورها بغير أن يظهر عليها أي تقصير، وكانت دموع الجمهور سباقة عن دموعها في مواقف التذلل والتحسر على ما جنت يداها. أما محمود وقد قام بدوره توفيق، فقد نسى (جاكتته) في المخزن الذي أودع به ريثما ينتصف الليل، كما نسيها عند خروجه من المنزل. ولسنا ندري هل ترك الجاكتة من عند الرواية أو من عند الممثل؟! وعلى كل حال فهو نقص لا نعلم الحكمة فيه. وكان باقي الأشخاص في الرواية متوسطي الأهمية، فلم نتمش مع مواقفهم في أدوارهم، اللهم سوى البواب عفيفي الذي كان يتباكى لمصيبة سيده فأضحك الجمهور والواجب أن يبكي بحق، أو يقف واجماً حتى لا يتخلل هذا الموقف شيء يستفز الجمهور نحو الضحك. ومهما قيل فإن الرواية نجحت في فرقة الأوبريت نجاحاً كبيراً، جعل أفراد الفرقة يحسون بهذا النجاح فتعهدوا للجمهور بتقديم روايتين أو أكثر في كل أسبوع من هذا النوع. سدد الله خطاهم وألهمهم الصواب في خدمة المسرح.
 


سيد علي إسماعيل