مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة(3) إطلالة تاريخية!!

مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة(3) إطلالة تاريخية!!

العدد 811 صدر بتاريخ 13مارس2023

علمنا في الحلقة السابقة أن الريحاني قرر اعتزال التمثيل، وعلمنا أيضاً أن القرار لم يُنفذ! والسبب في ذلك أوضحته مجلة «الكشكول» في أواخر أبريل 1932، عندما نشرت كلمة بعنوان «نجيب الريحاني»، قالت فيها: قلقت الأوساط الفنية جميعاً حينما أشيع أن الأستاذ نجيب الريحاني قد اعتزم السفر إلى أميريكا .. وابتدأت بعض العناصر الفنية منذ ظهرت هذه الإشاعة تعمل لإقناع نجيب بالعدول عن السفر وبقائه في مصر .. وظهرت في الجو قوة مالية تغري نجيب بالبقاء وتغريه بالاستعداد للموسم المقبل وبإعداد العدة له .. ونحن من جهتنا نرجو أن يظل نجيب بين ظهرانينا، فنجيب شخصية لا يستهان بها فهو أستاذ الكوميديا في مصر وهو الذي رفع رأس فن الكوميديا المصري أمام كل من زار مصر من رجال الفن العالميين .. فلقد أعجب به «دني دينيس» حينما رآه وتحدث عنه حديثاً طويلاً، ولقد تحدث عنه أيضاً «شارلي شابلن» حينما زار مصر وأظهر أسفه لأنه لم يتمكن من قضاء سهرة في مسرحه .. نجيب هذا قوة وليس من اليسير أن تتنازل عنها مصر لهوليوود بمثل هذه السهولة .. فالمسألة إذن الآن معركة بين هوليوود وعماد الدين .. وسيفوز منها من يجذب نجيب إليه!
وأسهمت مجلة «الكواكب» بدورها في إقناع الريحاني بالعدول عن الاعتزال، عندما نشرت كلمة تحت عنوان «كشكش بيه»، نشرت فيها أول تاريخ مختصر للريحاني!! قائلة: ليس في مصر غير كشكش واحد، كذلك ليس فيها غير نجيب الريحاني واحد، وواحد فقط لا غير! فالأستاذ نجيب الريحاني مبتكر أو مخترع شخصية كشكش بيه، رجل طليق غريب الأطوار، ليس له في القطر شبيه أو مثيل، يعيش عيشة بوهيمية مطلقة، تدرك مداها في الكلمات التالية:
«كان موظفاً عابثاً مستهتراً في البنك الزراعي يشتغل وظيفة حسنة ويتقاضى مرتباً كبيراً، ولم يكن شغوفاً بالتمثيل مفتتناً به افتتان سائر الممثلين في حداثتهم، ولكن كان طموحاً جداً، يحب المغامرة ويطلب الحرية، ويريد أن يصبح يوماً ثرياً غنياً يلعب بالفلوس لعباً، ويشار إليه بالبنان! درس كل ناحية من نواحي العمل المجدي المثمر، وهو واسع الاطلاع شديد الذكاء يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة، فاتصل بالجو المسرحي اتصالاً وثيقاً ورأى من طبيعته محفزاً للوثوب على المسرح، على شرط أن «يخترع» شخصية جديدة ويدخل نوعاً جديداً في التمثيل يفاجئ به الجمهور مفاجأة مغرية تدفعه إلى الإقبال، وفجأة استقال من عمله واندفع في لجة المغامرة! ولم تمض أيام على إنشائه فرقته التمثيلية الأولى وفتح أبواب مسرحه، حتى لمع نجم كشكش بك، وذاع اسمه على الألسنة، وازدحمت المقاعد والمقاصير بالجمهور يقبل على هذا النوع الفكه الاستعراضي الغنائي من التمثيل فنجحت الفرقة وتدفقت الأموال على خزائن الريحاني، حتى ذهب ينشئ فرقة جديدة أخرى أسند رئاستها إلى الأستاذ عزيز عيد، فانضم إليه كبار الممثلين والممثلات الذين يعرفهم الجمهور اليوم، وفي مقدمتهم الأساتذة: عزيز عيد، ويوسف وهبي، ومختار عثمان، وأستفان روستي، وأحمد علام، وغيرهم. ومن الممثلات السيدات: روز اليوسف، وفاطمة رشدي، ودولت أبيض (ولم تكن تزوجت بعد الأستاذ جورج أبيض) وغيرهن. ونجحت الفرقة الثانية كما نجحت الأولى، وكثر الإقبال وتزايدت الأرباح، وارتقى الوسط التمثيلي فأصبح الممثلون يتقاضون أجوراً عالية لم يحلموا بها من قبل وحدث نزاع أو شقاق بين الأستاذ نجيب الريحاني وبين مدير فرقته الثانية الأستاذ عزيز عيد، انتهى بأن أقفل نجيب المسرح الثاني فخسر خسائر فادحة. واشتدت المنافسة بين الممثلين وأصحاب الفرق، ونجحت فرقة بربري مصر الأستاذ علي الكسار، وألف عزيز فرقة أخرى ولم يلبث أن عاد الأستاذ يوسف وهبي من إيطاليا فافتتح مسرح رمسيس واجتذب إليه أشتات الممثلين المجيدين، فتزعزعت فرقة الريحاني، وتأثرت مكانتها بين الجمهور الذي تحول إلى مشاهدة التمثيل الدرام. تناثرت أموال نجيب ولم تعد أرباحه تغطي نفقات فرقته الباهظة فاضطر إلى الوفر والاستغناء عن بعض «النمر» والممثلين فلما ضاقت به الحال، رأى أن يسافر إلى أمريكا مع السيدة بديعة مصابني، لعله يستطيع أن يجمع من هناك ثروة طائلة. وفعلاً حزمت الفرقة أمتعتها وسافرت إلى البلاد الأمريكية، ولم تطل غيبتها حتى عاد نجيب ببعض آلاف من الجنيهات! رأى الريحاني أن فرقة رمسيس في نجاح وازدهار، فوقف يبتسم ابتسامته المحبوبة ويقول: «سأنافسها وأزاحمها مزاحمة أنتزع بها نجاحها وجمهورها». ولم يلبث أن أخرج فكرته إلى حيز العمل، وافتتح مسرحه الدرام، بعد أن ضم إليه نخبة من كبار الممثلين والممثلات، في مقدمتهم الأستاذ أحمد علام والسيدة روز اليوسف. افتتح موسمه الدرام برواية «المتمردة» وكانت الرواية قوية وتمثيلها ناجحاً، ولكن الجمهور الذي تعود أن يرى الريحاني في شخصية «كشكش بيه» المرحة الضاحكة، لم يستسغه في الدرام رغم نجاحه. ومع ذلك ظل يناضل ويقاوم حتى إذا أخرج الرواية المشهورة «مونافانا» أدرك الحقيقة المؤلمة القاسية، فسقط من يده سلاح المقاومة وانهزمت الفرقة، فانحلت بعد أن خسر نجيب كل قرش يملكه! وعاد من جديد إلى شخصيته المحبوبة الأولى «كشكش بيه» فكون فرقة جديدة وعاد يتابع جهاده، ولكنه دفاع المستميت في سبيل كسب العيش فقط، ولا تزال هذه الفرقة تعمل إلى الآن رغم عصف العواصف بها! ونجيب الريحاني من ألطف شخصيات المسرح المصري، قدير في عمله إلى أقصى حد .. (إلى هنا أنهت المجلة كلامها)!!
مما سبق يتضح لنا أن قرار الريحاني بالاعتزال كان السبب في اهتمام الصحف بذكر محطات من تاريخه الفني! وهو التاريخ الذي اهتمت بذكره مجلة «الصباح» في سبتمبر 1932، عندما قرر الريحاني السفر بفرقته إلى بلاد المغرب العربي، فنشرت المجلة مقالتين بتوقيع «مسرحي» جاء فيهما الآتي:
الآن والأستاذ نجيب الريحاني يتأهب بكل ما أوتي من قوة لرحلته العظيمة نرى فرضاً علينا أن نقول فيه كلمة حق هي أقل ما يستحقه رجل كان له فضل إحداث انقلاب كبير في المسرح المصري!! فقد كان التمثيل في مصر قبل عهد الأستاذ الريحاني قاصراً على الروايات الغنائية، وكان الجمهور المصري يرتاد المسرح لسماع الغناء لا لمشاهدة التمثيل، وكان إقباله على رواية دون أخرى بنسبة ما فيها من قصائد وألحان! فالإقبال يشتد ويتزايد على الرواية التي تحتوي على أغانٍ أكثر من غيرها، ويضعف على الرواية التي تحتوي على القليل من الغناء. فكانت الفرق في ذلك العهد فرق غنائية لا فرق تمثيلية. ولم يكن للروايات المحلية شأن يذكر بل لم يكن لها من وجود البتة. ثم جاء الأستاذ الريحاني فأحدث انقلاباً خطيراً في المسرح المصري بدأه بتمثيل روايات صغيرة محلية من نوع الكوميدي الاستعراضي، فاستمرأ الجمهور المصري هذا النوع الجديد القيم من التمثيل وتجلى رضاؤه عنه في شدة إقباله على شهوده، مما شجع الأستاذ نجيب على التوسع فيه فبنى له مسرحاً خاصاً به في شارع عماد الدين، وكان هو أول مسرح مبني في هذا الشارع بعد مسرح الكورسال الذي كان قاصراً على الفرق الأجنبية. وبذلك يكون الأستاذ الريحاني هو مؤسس وحدة للتياترات وجمعها في حي واحد، وهو صاحب الفضل في شهرة شارع عماد الدين الذي كان مجهولاً تماماً قبل أن يبني فيه مسرحه «الإجبسيانة»!! وظل الأستاذ الريحاني يواصل سعيه في تثبيت نوعه الجديد في أذهان الجماهير، حتى فاق نجاحه ما كان يقدره له أكثر المتفائلين! فقد كان إيراده اليومي - وهو قاصر على بيع الشباك فقط - يبلغ 120 ج مصرياً على أقل تقدير، رغم ارتفاع أثمان التذاكر بما يقرب من ثلاثة أضعاف ثمنها الحالي. وبلغ عدد أفراد فرقته حوالي الـ140 شخصاً بين ممثلين وممثلات وراقصات ومطربات! وعلى مسرحه ظهرت كفاءات جديدة وتخرجت مطربات وممثلات قاموا بأوفر قسط في خدمة المسرح والغناء، نذكر منهن على سبيل التدليل: السيدة فاطمة رشدي، السيدة فتحية أحمد، والسيدة زينب صدقي، والسيدة بديعة مصابني، والسيدة دولت أبيض، وغيرهن وغيرهم من كبار الممثلين كالأستاذ حسين رياض. وبالجملة فإن الجمهور المصري كان يرى في النوع الذي يقدمه له الأستاذ الريحاني أكبر عزاء لهم في سنين الحرب السوداء، فكانت رواياته هي الوحيدة إلى الآن التي مثلت بالتوالي شهراً كاملاً. ثم اتسعت آمال الأستاذ الريحاني ورأى الجمهور الأفرنكي في مصر منصرفاً عن المسرح المصري، فأراد أن يجذبه إليه فابتكر له نوعاً جديداً في التمثيل لم يعرفه العالم من قبل، وهو نوع «الفرانكوآراب»! ونجح مسعاه ونجحت فكرته فتدفقت عليه جموع الجاليات الأجنبية، وكان هذا أول عهدها بشهود التمثيل العربي. وفي روايات الأستاذ الريحاني وما فيها من ألحان، ظهرت عبقرية فقيد الموسيقى الخالد الشيخ سيد درويش فعرفه الجمهور وكان لا يعرفه، وأصبحت ألحانه يتغنى بها الشعب بجميع طبقاته في الطرقات والمزارع والبيوت والقصور، كما أصبح اسم «كشكش» على كل لسان. وكان الممثلون المصريون قبل عهد الأستاذ الريحاني يشتغلون يوماً أو يومين في الأسبوع، فأصبحوا في عهده يشتغلون كل أيام الأسبوع، وتبع ذلك ارتفاع هائل في مرتباتهم فقد كان أكبر من فيهم قبل عهده يتقاضى مرتباً شهرياً لا يزيد عن 8 ج فأصبح في عهده أقل من فيهم يتقاضى 20 ج، وأصبح أصحاب الحرف وكبار الموظفين يغبطون الممثل في فرقة الريحاني على مرتبه الكبير! وحسبنا أن نذكر بالدليل أن «دينا ليسكا» كان مرتبها الشهري 100 ج مصري، وأن السيدة بديعة مصابني 150 ج. وأراد الأستاذ الريحاني بعد ذلك أن يبتكر نوعاً جديداً فانتقل من الروايات المحلية إلى روايات شرقية اقتبسها من قصص ألف ليلة وليلة وأخرجها إخراجاً يتفق أو يزيد عن فخامة الوصف الذي كتبه لها مؤلف ألف ليلة وليلة! ووصل الأستاذ الريحاني في هذه الروايات وإخراجها إلى أوج مجده وعظمته. ورأي الجمهور فيها من كل الوجوه عظمة وروعة وجلالاً لم تسبق له رؤيته في كل ما رآه من روايات تمثيلية من يوم أن عرف التمثيل في مصر. وكانت كل رواية منها مثل «الليالي الملاح، والشاطر حسن، وأيام العز، ونجمة الصبح» ثروة فنية قائمة بذاتها، خدم بها الريحاني جمهوره خدمة حقة لأنه استطاع أن يجمع بين التهذيب الشعبي وهو المطلوب من المسارح وبين إضحاك الشعب وتعزيته عن همومه وهو من أولى ما يجب على الممثلين حيال شعوبهم.
ويختتم الكاتب «مسرحي» - وهو توقيعه - مقالتيه، قائلاً: هذا التوفيق الذي وصل إليه الأستاذ الريحاني من أكبر الأدلة التي يستند عليها كل مؤيد للرأي القائل بأن عِبر التمثيل يجب أن يحوطها الفرح لا الحزن، على أنه ليس من الإنصاف أن تقتصر على القول بأن الأستاذ الريحاني كان في توفيقه هذا قاصراً على مزج العبرة بالفكاهة، لأنه في الواقع وفق إلى ما هو أكثر من هذا! وفق إلى مزيج متجانس محبوب اشتملت عليه رواياته التي اقتبسها من ألف ليلة وليلة، والتي اختارها لرحلته الكبيرة، فهو قد مزج العبرة بالفكاهة ومزجها بالموسيقى الشرقية والألحان العربية، وأخرج كل ذلك في إطار فخم من مناظر عظيمة خلابة وملابس فخمة ثمينة! فكان له من الجمهور ما أراد أو فوق ما أراد، وأقبل على تلك الروايات إقبالاً لم يعهده أصحاب روايات الدراما على شدتها وعنفها. ورأي الجمهور في الأسلوب الجديد الذي كتبت به هذه الروايات موسيقى يلذ وقعها على الأذن وتستسيغها الأسماع!!
ومما سبق يتضح لنا أن هاتين المقالتين المنشورتين، كان الغرض منهما الترويج للريحاني قبل سفره إلى بلاد المغرب العربي، وذلك بنشر ملخص عن تاريخه وإنجازاته المسرحية بما فيها من ابتكارات وريادات في مجال التمثيل الكوميدي. أما تفاصيل ما حدث في بلاد المغرب، فسوف نتناوله بالتفصيل كثيراً عندما يذكرها الريحاني في مذكراته الحقيقية والمجهولة – التي لم ننشرها حتى الآن – وسأذكر تفاصيلها الدقيقة، عندما أكتب تاريخ مسرح الريحاني، لأن تفاصيل الرحلة – كما سيذكرها الريحاني في مذكراته – تختلف عن التفاصيل المنشورة في الصحف وقتذاك!! وفي هذا الخصوص يجب أن أشير إلى أن تفاصيل رحلة الريحاني وفرقته إلى تونس، ذكرتها من قبل في حلقاتي الـ32 المنشورة ابتداءً من سبتمبر 2021 في جريدة «مسرحنا» تحت عنوان «العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس»، وتحديداً المقالة الثانية عشرة وعنوانها «ورطة نجيب الريحاني في تونس»، وفيها تحدثت عما حدث للفرقة في تونس فقط!! لذلك عندما سأكتب في حلقاتنا هذه عن رحلة الريحاني إلى بلاد المغرب العربي، سأتحدث عن نشاط الفرقة في الجزائر والمغرب!!


سيد علي إسماعيل