مسرح المخرجين.. هل يعني نهاية عصر المؤلف؟

مسرح المخرجين..    هل يعني نهاية عصر المؤلف؟

العدد 823 صدر بتاريخ 5يونيو2023

المخرج هو العنصر الثاني في العملية المسرحية، بعد المؤلف، ومن حيث الأهمية فإن دوره هو الأهم في العملية المسرحية –بشكل عام-، وفي مجال النقد المسرحي، يطلق كثصير من النقاد على العملية المسرحية، مصطلح “الإخراج المسرحي”، على اعتبار أن كل المصطلحين –في المعنى، والمحتوى، والتأثير- يأتي مرادفا للآخر.
لكنني أرى أن الإخراج المسرحي عنصر مهم من مجموعة من العناصر التي تتكامل لتقدم للجمهور فرجة مسرحية مختلفة، وهذا ما أشار له”باترس بافيس” في كتابه “الإخراج المسرحي المعاصر”، حيث يقول:
«إن الإخراج المسرحي هو عرض يتخذ مظهر نسق للمعنى، يتحكم فيه مخرج أو مجموعة ما، وهو مفهوم مجرد، نظري، غير مادي وتجريبي، إنه ضبط المسرح وفقا لحاجات المشهد والجمهور، والإخراج المسرحي يضع المسرح في حالة تطبيق وممارسة ولكن وفقا لنظام ضمني في ترتيب المعنى”(1)
وفي العالم العربي نجد أن فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، كانت مرحلة “مسرح المؤلف”، حيث ظهرت أسماء كثير من المؤلفين أمثال محمود دياب ونعمان عاشور وألفريد فرج، ومعين بسيسو، وممدوح عدوان، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، وميخائيل رومان ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
وكان المؤلف هو المحرك الرئيسي للعمل المسرحي، وفق اتجاه الكتابة في ذلك الوقت، والتي اتخذت بعدا واقعيا، والانحياز للمدرسة الواقعية لدى أغلبية كتاب ذلك الجيل، في حين اتخذت طابعا تجريبيا لدى البعض كما حدث في مسرحية “الفرافير” ليوسف إدريس، و”الملك هو الملك” و”الفيل يا ملك الزمان” لسعد الله ونوس، و”العصفور الأحدب” لمحمد الماغوط.
ومع منتصف السبعينيات، بدأ المفهوم يتغير، رويدا رويدا، ليتحول الأمر في معظم التجارب التي تقدم في العالم العربي إلى “مسرح المخرجين”، بظهور مجموعة من المخرجين التجريبيين، الذين عملوا على إنتاج أعمال مسرحية تقترب من الجمهور، بل سعوا جادين إلى إيجاد صيغ مسرحية بديلة تجعل من الجمهور مشاركا فاعلا في العملية المسرحية، من خلال إبداء ملاحظاته الفورية على ما يقدم أمامه، وكذلك إيجاد بديل لخشبة المسرح التقليدية.
وهذا ما يؤكد عليه “ستيف جوزيف” في نظريته عن “المعمار المسرحي الجديد”، حيث يقول: “الأبنية الجديدة للمسرح لا شك تحقق ميزات عديدة للمشاهد فمعظمها قد بني بحيث تتوفر لمنصته مرونة امكانية تشكيل الأسلوب المناسب لعصر المسرحية وربطه بحداثة جمهور عصرنا الحالي”(2)

وأعتقد أن مرحلة “ السبعينيات “ في المسرح العربي قد تميزت بعنصرين هامين : أولهما : البحث في الموروث الشعبي لتقديم فرجة مسرحية شعبية ، تستفيد من الجذور العربية لفن المسرح ، بإحياء فنون كادت أن تندثر مع التطور الحضاري مثل خيال الظل والأراجوز والعرائس القفازية ، والتي شكلت في مراحل انتشارها ما أسماه د. على الراعي ب “ مسرح الشعب “ ، وهذا المنحنى الذي اتجه إليه كتاب المسرح في هذا الجيل أمثال محمد أبو العلا السلاموني ويسرى الجندي وسعد الله ونوس يعدا امتداداً لدعوة د. يوسف إدريس في مقدمة مسرحيته “ الفرافير “ والتي أسماها “ نحو مسرح عربي “ والتي أكد فيها على ضرورة العودة إلى لمسرح السامر بما يحمله من معنى “ جماعية الأداء “ وهو ما أسماه “ بحالة التمسرح “ والتي تقوم على حد تعبيره على “ التجمع “ فتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح والمآتم والمناسبات ، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشرى كحجة “ أحياناً مضحكة ، مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد ، أو الاحتفال بأعياد الحصاد والمناسبات الدينية . أكثر هذه السهرات اليومية في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء ، بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوي والحانات والنوادي .
“هذه كلها لحظات مسرحية ، وأشكال مسرحية كان لابد بمرور الأزمان أن تتطور ويصبح لكل شكل منها تقاليد وتراث”.
لقد كان دخول عناصر “ الفرجة الشعبية “ مغامرة تحسب لهذا الجيل فلم تدخل فقط في الشكل الخارجي للعرض ، بل دخلت في عمق النص المكتوب الذي لم يقدم التراث بشكل حرفي ، بل استفاد من تقنياته مضيفاً إليها الرؤية الواقعية متشعبة الدلالة سياسياً واجتماعياً وثقافياً ، ومن هنا تحقق التمرد ، وتحقق عنصر المواجهة.
وهنا لنا أن نذكر تجارب مهمة لمجموعة من المخرجين  الذين أسهموا في هذا الجانب مثل ، الجزائري عبد القادر علولة، والمغربي الطيب صديقي، والسوري فرحان بلبل، والمصري ناصر عبد المعم، والمصري عبد الرحمن الشافعي، والبحريني محمد العصار وغيرهم.
كما أن هناك  مجموعة من التجارب التي  قدمها بعض أبناء هذا الجيل – من المخرجين- جاءت مخالفة للسائد ، ومتنوعة في الآن نفسه مثل مسرح حسن عبد الحميد المعتمد على التقنيات اللغوية الجديدة ، وتجارب عبدالعزيز مخيون في التعامل مع المسرح بوصفه وظيفة اجتماعية وفنية وتجارب نور الشريف في صنع حالة مسرحية تنتمي إلى ما يمكن أن يسمى بمسرح المواجهة عبر لغة درامية كثيفة وكاشفة أيضاً تجلى ذلك في مسرحياته “ محاكمة الكاهن “ و “ يا غولة عينك حمرا “ وغيرها ، وكذلك تجربة المخرج سيد طليب في المسرح الاجتماعى / السياسي ، ومسرح مراد منير الفكري والسياسي ، وخاصة في تقديمه لمسرحيات سعدالله ونوس وأكثرها نجاحاً “ الملك هو الملك “ والتي قام ببطولتها صلاح السعدني مع محمد منير والتي حققت نجاحاً ملحوظاً مما جعلها تعرض لأكثر من مرة ، بما فيها من خطاب مسرحي كاشف وناقد للسلطة التي لا تكترث بأحد سوى مصلحتها الخاصة ، حتى في التعامل مع من يشغلون كراسيها ، فالوظائف التي يحتلها الأشخاص هي التي تعطى وجودهم معناه وتضفى عليهم الهيبة و “ هيلمان السلطة “ كما قدم “ مراد منير “ لونوس أيضاً مسرحية “ الفيل يا ملك الزمان “ وهى مسرحية قصيرة يعود فيها ونوس إلى بحث آليات عمل السلطة وعلاقة الحكام بالمحكومين ، لكنه يركز في هذه المسرحية على معنى الخضوع الذي يولد عنفاً واضطهادا أكثر ، والمأساة التي ترسمها أحداث المسرحية ذات دلالة بالغة حيث الطفل الذي يقتل دوساً بأقدام فيل الملك ، بالإضافة إلى النقد اللاذع الذي تقدمه المسرحية للانتهازية التي يولدها الخوف من السلطة ، ونموذج ذلك شخصية الرجل الذي كان يدعو الناس للتخلص من فيل الملك – لكن الخوف من مواجهة الملك وأعوانه جعل الرجل يتراجع ويطلب السماح ويطلب من الملك أن يزوج الفيل كي ينجب أفيالاً كثيرة ليعم الخير على البلاد .
ويعتمد “مسرح المخرجين” على كثرة التدريباتـ وتطوير قدرات الممثل، وتنمية مهاراته الآدائية، واستخدام الفراغ المتاح لخشبة المسرح.
وقد استفاد أبناء هذا الجيل من رؤية “ جرتوفسكي “ لما أسماه “ المسرح الفقير”، حيث يقول: “ أنه يمكن للعملية المسرحية أن تتم بدون ماكياج أو ديكور أو أزياء أو إضاءة أو مؤثرات صوتية لكنه لا يمكن أن يوجد ذلك بدون تلك العلاقة “ الحية “ بين الممثل والمتفرج وهذه الدعوة تنبني – في الأساس – على رفض تام لكل آليات المسرح التقليدي لذا كانت دعوته المستمرة للخروج من أسر الخشبة أو “ مسرح العلبة الإيطالية إلى فضاء أرحب ، فيرى أن أرض المسرح يمكن أن تكون بحراً أو سطح مائدة أو مسندي مقعد أو قارباً أو زنزانة سجن».
فمسرح “جرتوفسكي” يصمم أو يعدل كما يشاء المخرج ومن يعملون معه.
وقد وجدنا في تجارب “مسرح المخرجين” في العالم العربي، أن المخرج هو محور نجاح العملية المسرحية، وهذا يرجع أيضا لتلاشي فكرة “المؤلف” ةبصورته التقليدية، فكثير من الأعمال المسرحية التجريبية تقوم على فكرة “الورشة المسرحية” و”التأليف الجماعي” الموجه من قبل المخرج.
______
باتريس بافيس: الإخراج المسرحي المعاصر-، النشأة، الاتجاهات، الآفاق المستقبلية- ترجمة: د. منى صفوت- مراجعة: د. سلوى لطفي- مطبوعات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي- ص24.
د. أحمد زكي: إتجاهات المسرح المعاصر- الجزء الأول- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1996م- ص13.


عيد عبد الحليم