فرقة الشيخ أحمد الشامي في طنطا

فرقة الشيخ أحمد الشامي في طنطا

العدد 790 صدر بتاريخ 17أكتوبر2022

بعد هيمنة الفرق المسرحية الجوالة على المسرح في طنطا، أمثال فرقة «الأوبريت المصري»، وفرقة «فوزي الجزايرلي» - وسط انقسام الجميع حول نجاح الفرقتين من عدمه، أو انقسام النقاد في الكتابة المادحة أو القادحة لعروض الفرقتين – أنعم الله على طنطا بزيارة فرقة «الشيخ أحمد الشامي» التي نالت إعجاب الجميع، ولم يختلف عليها أي ناقد أو صحيفة، إلا من كتابات قليلة غير مؤثرة سنتعرض لها في وقتها!! وأول جريدة كتبت عن وصول الفرقة وعن عرضها الأول، كانت جريدة «الممتاز» بكلمة موقعة من اسم مستعار هو «ابن الحقيقة»، الذي قال في أوائل يونية 1928 تحت عنوان «فرقة الشامي على مسرح العائلات»، الآتي:
وأخيراً أراد الله أن يريح الطنطاويين من «بصارة عيوشة»، و«قانون حسنين»، وأنعم عليهم بوجود «الشيخ أحمد الشامي» بينهم، يطلعهم على الفن والأدب ويظهرهم على الفضيلة والأخلاق، في غير تكلف أو تصنع. فقد خلق الرجل ليكون ممثلاً بطبعه وضمت فرقته أفراداً لا يقلون عنه شأناً في عالم التمثيل الراقي والفن الصحيح. ولقد كانت أولى الروايات التي أفتتح بها عهده في مدينة طنطا رواية «على كوبري قصر النيل»، تلك الرواية المصرية في جميع أشخاصها ووقائعها. والتي تمثل لنا جانباً من جوانب الحياة المصرية. وتتناول بحث علل شائعة بيننا عانى المجتمع من تفشيها. ونحن نصدق القراء القول بأننا نبخس المؤلف حقه، ونشوه جلال الرواية وتذهب الكثير من بهجتها ورونقها فيما لو حاولنا تلخيصها للقراء على صفحات هذه الجريدة! فإنها قد تضمنت من رائق العبارات وجزيل المعاني، ما لا يغني معه الاختصار ولا ينفع فيه التلخيص. كما أن بها من المواقف الرائعة ما لا يستطيع القلم التعبير عنه، لا في مجلدات واسعة، أو على الأقل في صفحات عديدة، لا يتسع لها نطاق الصحيفة التي نكتب فيها هذه الكلمة. وناهيك بما يرتسم على وجوه أشخاص الرواية من شعور دقيق، وملامح حقيقية تنطق بذاتها ما يجول في خواطر أولئك الأشخاص من عبر وعظات. لذلك كان حقاً علينا أن نعترف بقدرة مؤلفها ومهارة القائمين فيها جميعاً بأدوارهم. فالرواية تتلخص في أن موظفاً بسيطاً عزّ عليه تفوق أقرانه عليه وترقيهم من دونه. فتلمس الحيلة في ذلك وزيّن له الشيطان «فتوح» أخوه سوء عمله فضحى بهنائه العائلي وسعادته الزوجية في هذا السبيل، واتصل بزوج أخرى توهماً بأنها ستكون واسطة السعادة فكانت مبعث الشقاء، حيث اطلع على فساد أخلاقها، فندم على ما فرط في جانب زوجته الأولى وابنه الوحيد، فراح يخطب ودهما ويستعيد أيامهما بعد أن احتملا من مرارة الحياة وشظف العيش ما لا يطاق. وفي النهاية وجد في قلب زوجته الطاهرة ما يغفر له زلاته ويصفح عن غلطاته. فقبلته فاقد البصر، فاقد المركز الذي كان يتعيش من ورائه. وأخيراً رد الله عليه بصره ويسر للعائلة طريق العيش مما جاد به عم الزوجة «العمدة عمار». فانتظمت حياة العائلة وعادت سيرتها الأولى من السعادة والهناء. والرواية ترينا إذن كيف تكون الزوجة الصالحة من النظام المنزلي والعطف الزوجي والحنو الأمومي والاقتصاد المالي. وكيف يكون الابن البار من الأدب والطاعة. وكيف يؤثر دعاة السوء على النفوس من تزيين التفرقة في سبيل أعراض الدنيا الفانية ومتعها الزاهية. وكيف يكون مآل التزوج من فاسدات الأخلاق طمعاً في تلك المتع وحقارة مركز الزوج في نظر زوجه، ونظرها بعين الاستهانة إلى ابنه من غيرها، واحتيالها على ستر معايبها عن عينه، وتفننها في حمله على حسن الظن بها بمساعدة أهلها وذويها. وكيف تؤثر الزوجة الصالحة العمل لتعيش وتربي ابنها، وتحافظ على مستقبله. وفي النهاية كيف يعطف قلبها ويحنو إلى رجل أساء إليها وأهمل أمرها بغير سبب. وأخيراً كيف يحسن الله سبحانه وتعالى عاقبة المتقين. هذا ما نستطيع اختصاره من مغزى الرواية ووقائعها. وإن كانت كلها عبارة عن مأساة خالدة، وحقيقة واقعة. كثيرة الذيوع في أوساطنا المصرية، ولقد تناوب أفراد الفرقة مواقفهم فيها فكانوا مبدعين ومعجزين نحتار في توزيع الثناء بينهم وتقسيم عبارات الإطراء عليهم. فكلهم أجاد وكلهم قام بدوره كما يجب أن يكون، وكما هي مقتضيات الطبيعة، لكن الذي برز منهم وكان له من المواقف الرائعة ما أدهش الحضور، اثنان «زاهية» القائمة بدور أمينة أم صلاح، والشاب القائم بدور صلاح. فكلاهما استمطرا العبرات وكلاهما دخل بعباراته إلى القلوب القاسية فحركها فبعثت العيون على صفحات الخدود وابلاً من الدمع الغزير. وأقسم لقد بكيت في ثلاثة مواقف: الأول في ساعة الطلاق، والثاني في ساعة المقابلة على كوبري قصر النيل، والثالث في ساعة نجاح صلاح وعدم العثور على ما يحتفل به بأصدقائه ومهنئيه وكم كانت مخلصته وفية تلك الخادمة «شلبية» التي عرضت قميصها للبيع ثمناً لقوت سيدتها البارة! وقسماً لو لم يتخلل الرواية ما تخللها من نكات فتوح الحشاش وعمار العمدة لكانت كلها دموع حارة، وزفرات متصاعدة، وبكاء في بكاء. لذلك كله واعترافاً بما للفرقة من أثر في نفوسنا سنمسك في هذه الكلمة عن التعرض لنقد مواطن الضعف الطفيفة في الرواية، وفي بعض الوقائع والمواقف على هذا الفوز الباهر الذي تجلى في شخصية الممثلة «أم صلاح» التي كانت على المسرح آية في الأدب والاحتشام، ومثلاً حياً من الأخلاق الفاضلة. إلى ما عدا ذلك من قوة في الإلقاء وبراعة في التعبير، وقدرة في الفن امتازت على جميع من عداها. [توقيع] «ابن الحقيقة».
وفي العاشر من يونية 1928 احتفت جريدة «الحضارة المصرية» بقدوم الفرقة إلى طنطا قائلة على لسان الناقد «عبد اللطيف خليل»: هبطت مدينة طنطا فرقة الأستاذ الشيخ أحمد الشامي لتمثيل الروايات الأدبية على مسرح كازينو العائلات، فشاهدنا نوعاً جديداً من التمثيل الأدبي الراقي، الذي يمثل أشرف الغايات وأطهرها. ويعطي للمتفرجين مغزىً جميلاً وفكرة طيبة عن الحياة الاجتماعية، ويصور لك الفضيلة والآداب الشرقية، وعيوبنا الحاضرة بصورة تنطبع في النفس، وتترك فيه أحسن الأثر. وبذلك قضى على التهريج الذي كنا نراه من أفراد لفظتهم المسارح فراحوا يطعنون الآداب العامة والشرف والطهارة باسم التمثيل، حتى أحدثوا جرحاً دامياً لم يعالجه غير الأستاذ الشيخ أحمد الشامي. والحق يقال إننا نشاهده على المسرح فنرى عظمة الفن وروعة التمثيل وجلال الموقف. ولا يسعنا إنصافاً للحقيقة وتقريراً لها إلا أن نشكر لحضرة السيدة «روز» الممثلة الأولى في الفرقة، شريف مواقفها. فلقد رأيناها تعطي الناظر فكرة ناضجة وأثراً بارزاً للشخصية التي تُسند إليها بدون تكلف، حتى يخيل إليك أنك ترى صورة صحيحة لا أثر للصنع فيها حتى لا يسعك في موقف الحسرة واللوعة إلا أن ترسل دموعك وراء دموعها، ولا تتمالك من أن تمسك فؤادك بيدك إشفاقاً عليه خشية أن يكون قد أطاره التأثر، وذهب به التوجع فدلت بذلك على مهارتها وقدرتها. ولست أغمط السيدة المحترمة «زاهية سامي» حقها، فهي ممثلة قديرة تملك نفسها وتحفظ توازنها على خشبة المسرح، وتقوم بأدوارها بمهارة وكفاءه في حشمة ووقار، حتى استحقت إجلال الناس واحترامهم. ولا يفوتنا أن نثني على حضرة الأستاذ القدير مصطفى أفندي سامي، وتوفيق أفندي إسماعيل، وأحمد أفندي بيومي - الممثل الخفيف الروح - وباقي أفراد الفرقة على ما يقومون به في سبيل إعلاء فن التمثيل والنهوض به إلى سماء المجد والشرف. ونرجو للأستاذ الشيخ أحمد الشامي ما هو جدير به من التشجيع.
لم يكتف الناقد «عبد اللطيف خليل» بذلك، بل كتب كلمة أخرى بعد أربعة أيام - منتقداً فيها تصرف الخواجة صاحب المكان - قال فيها تحت عنوان «فرقة الأستاذ الشيخ أحمد الشامي بطنطا»: جاءت إلى طنطا فرقة حضرة الأستاذ الشيخ أحمد الشامي المبدع الشهير والممثل الكبير، لتمثيل سلسلة روايات أدبية من النوع الذي أشتهر الأستاذ بإتقان تمثيله وإجادة المواقف فيها. وبذلك رفع كرامة التمثيل وإعلاء الفن في المدينة، وقضى على ذلك التهريج الذي نشاهده في البؤر الأخرى. ولولا وجود ذلك المخلوق الغريب الخواجة «حبيب» ووقوفه موقفاً شاذاً حيال مندوبي الصحافة في طنطا، وخشونته في معاملته لهم لما ادخرنا وسعاً في دعوة الشعب الطنطاوي لتشجيع فرقة الأستاذ الشيخ أحمد، ولعملنا على أن تبقى محاطة بجميع أنواع التبجيل والاحترام. ولكن الخواجة حبيب لا يحب غير المال، ولو أضاع في سبيله الشرف والكرامة!! ونحن تشجيعاً للفرقة وحدها، سنوالي نشر رواياته التي يمثلها على المسرح. وعسى أن يخفف الخواجة حبيب من غلظته في المعاملة، وبذلك يكون قد ساعد الأستاذ على توطيد مركزه الأدبي والمالي هناك.

هجوم الناقد جبر
ظهر الناقد جبر في منتصف يونية 1928، وكتب مقالة نقدية هجومية ضد عرض مسرحي للفرقة في جريدة «الضحوك»، تحت عنوان «في كازينو العائلات رواية مطر باشا»، قال فيها: قمت عن جريدة الضحوك بزيارة فرقة الشامي التي هبطت المدينة من أيام عيد الأضحى المبارك. وطاب لها المقام فبقيت هنا حتى الساعة. وكانت رواية الليلة «مطر باشا» وهي تتلخص في أن هذا المطر باشا تزوج من زوجة أخرى خدعته ثم أساءت معاملة ابنه وبنته ورابه أمرها فطلقها. وكانت بنته مغرمة بابن عمها وجنت في سبيله. وكان هذا فقيراً فأتجر في كردفان، وعاد ثرياً بعد أن كان عمه مشرفاً على الإفلاس. فسدد عنه دينه وتزوج بنت عمه التي شفيت من العته بسبب لا تعلمه. وكأن مؤلف الرواية يريد اطلاع الجمهور على صفحة من كتاب حياة الأغنياء واسترسالهم في شهواتهم، والعاقبة التي تعود عليهم من هذا السلوك. فلم يوفق لذلك وأخفق إخفاقاً فاحشاً للأسباب الآتية:
لأن العقلية التي وهبها المؤلف لمطر باشا لا تتفق مع أصغر العقليات، ولا يتصف بها أقل الناس إدراكاً، فضلاً عن رجل أحرز رتبة «الباشوية» وأصبح صاحب ذلك الثراء العظيم. ولأن المؤلف قد أدخل في دور الباشا ألفاظاً لا ينطق بها غير الحشاشين، أو السوقة. ولأن مظهر الدسوقي ابن الباشا كان يناقض تماماً مظهر أبيه، ولا يتمشى مع التقاليد والعبارات التي كان يتفوه بها وحركاته على (الخشبة) كانت غير مألوفة. ولأن سبب جنون فاطمة بنت الباشا لم يتبين بوضوح في الرواية ولا سبب شفائها كذلك. ولأن بهاء ابن أخي الباشا لم تتغير حالته في الملبس بعد الغني الهائل الذي ناله عن حالة الفقر المدقع التي كان عليها قبل السفر إلى كردفان. ولأن وجود الحكيم الذي قام بدوره توفيق إسماعيل لا محل له في الرواية، ولا موجب لسفره مع بهاء الدين وأوبته معه بعد ثلاث سنوات بالحالة التي سافر عليها. ولأنه لم يتبين السر في ارتباك مطر باشا المالي ولم نعلم عنه سوء في سلوكه أو إعوجاج في أخلاقه. ولأننا لم نطلع على التزوج من أنيسه ولم نطلع أيضاً على سبب انفصاله عنها. ولأن المؤلف قد لازمه التفكك في جميع أجزاء الرواية، فلم يربط أي موضوع منها بالآخر وكان الأجدر بها أن تكون عدة روايات مستقلة تمثل كل منها جانباً مستقلاً من جوانب الحياة. وأخيراً لأنها كانت خليطاً من الألفاظ والمعاني لا يكاد المطلع يفهم لها مغزى مقصوداً.
أما «أشخاص الرواية» وكما يقال عن معنى الرواية يقال أيضاً عن أشخاصها، فإن الفرقة لم توفق في توزيع الأدوار وإلا فما معنى استئثار الشيخ أحمد بدور «المحب» في الرواية، وليس على سحنته ما يدفع إلى الحب ولا في موقفه ما يبعث على الإعجاب. ثم وكيف تعيب (المجنونة) على الآباء تزويج الفتيات لمن هم دونها سناً ومركزاً. وهي واقعة في هذه الغلطة وابن عمها بهاء ولا يتناسب معها لهذه الأسباب ولغيرها. يمكن الجزم بأن الرواية لم تنجح لا في التأليف ولا في التمثيل. فخرج الجمهور حانقاً غاضباً متألماً. وكيف يستباح دخول أنيسة على المدير في غرفة الاستقبال بعد الحجز على حمار شيخ الخفر! وكيف يتفق إفلاس الباشا مع بخله وسعيه المتواصل في امتلاك أطيان الغير وضمها لأملاكه؟! نحن نريد تمثيلاً، يطلعنا على الجوانب الحقيقية من حياتنا لا نريد هشيماً من الألفاظ وخليطاً من المعاني لا يتبينها المطلع، ولا يفهم لها معنى. أما ما يذيع الشيخ من أن لديه روايات من نوع الدرام فهذا ما لا نوافقه عليه بعد الذي شاهدناه في رواية مطر باشا من الضعف والتفكك. ولعل هذه الرواية أخف من غيرها وقعاً لعدم اشتمالها على أدوار غنائية للشيخ المغرم بتلك الأدوار، التي تتنافى مع سنه وحنجرته! ولولا ضيق المقام لأفردنا لكل من الممثلين والممثلات نقداً خاصاً لا يجعل لأحدهم ميزة في التمثيل المطلوب. فنكتفي بهذا الإيجاز انتظاراً لفرصة أخرى نوفيهم فيها حقهم. [توقيع] جبر.


سيد علي إسماعيل