مسرح مؤمن عبده.. نموذج الفنان الشامل

مسرح مؤمن عبده..  نموذج الفنان الشامل

العدد 847 صدر بتاريخ 20نوفمبر2023

كان» مؤمن عبده» - أحد ضحايا محرقة بني سويف- فنانا شاملا، فهو الشاب الطموح في مجال العمل الأكاديمي حيث كان معيدا بقسم المسرح بكلية الآداب في جامعة حلوان، وهو المؤلف المسرحي صاحب النصوص ذات الطابع التجريبي، ومنها» آخر الشارع» و»طعم الغروب» و»مرة واحد بيحلم «و»آخر المطاف» و»ونس الليل» و»الميدالية» وغيرها.
وهو المخرج الذي قام بإخراج مجموعة من العروض المسرحية ضمن نوادي المسرح ومنها «حزن المطر» و»طرح الغياب» و»أثناء الليل» و»توب الفرح» و»شيكا بيكا» وغيرها من العروض التي لاقت نجاحا ملحوظا.
وهو كذلك الناقد المتابع لعروض فرق الأقاليم المسرحية، وهو كذلك كاتب النصوص للأطفال ومنها «شارعنا» و»إحنا بنحب الحياة» و»حضن القمر» وغيرها.
ومن آخر عروضه المسرحية التي قدمت بعد وفاته، على مقهى «القللي» بمدينة الفيوم، قدمته فرقة نادي المسرح بقصر ثقافة الفيوم - في سبتمبر عام 2006م، في الذكرى الأولى لمحرقة بني سويف - العرض المسرحي «آخر الشارع» تأليف مؤمن عبده وإخراج عادل حسان وتمثيل مصطفى الدوكي وأشعار أحمد زيدان، وهذا العرض هو عبارة عن مونودراما خفيفة تجسد الصراع الإنساني في ظل التحولات الاجتماعية، خاصة شخصية الفنان الذي يحاول أن يؤكد على القيمة العليا للفن رغم سطوة التسطيح عبر المستويات المختلفة للحياة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
وينتمي العرض إلى ما يمكن أن أسميه بـ»مسرح المفارقة» الذي يطرح القيمة في إطار تراجيدي، ثم يعبر عنه في مشهد آخر في إطار كوميدي، وقد استخدم المخرج في ذلك تكنيك «الأراجوز»، وملابس «البلياتشو» لأبطال العرض مستخدما في الخلفية إطارا موسيقيا تجسد في أغنية «ودارت الأيام» لكوكب الشرق أم كلثوم، وإن كنت أرى هذه الخلفية الموسيقية قد أقحمت على العرض وأخذت من فنياته . بقي أن نشير إلى أن العرض من تأليف الراحل مؤمن عبده وهو من شهداء حريق مسرح بني سويف وهو صاحب تجربة كانت تبشر بالكثير من خلال أعماله «طعم الغروب» و»حزن المطر» و»طرح الغياب» و»توب الفرح» و»أثناء الليل» و»شيكابيكا».
وكنت وأنا في طريقي لحضور العرض قد قرأت له مسرحية من آخر ما كتب تحت عنوان «ميدالية» تنتمي إلى مسرح العبث، ومع ذلك فهي مسكونة أيضا بروح الحلم فبطلتها بطلة رياضية في رفع الأثقال تمثل مصر في الأوليمبياد ووصلت إلى المرحلة النهائية من التصفيات، وانتظرت الجماهير أن تحصل ابنة مصر على الميدالية الذهبية وبدأ الجميع يتوقع ويتساءل والبعض ترك أعماله والبعض الآخر عسكر على المقهى في انتظار المباراة الأخيرة لكن في النهائي خيبت هذه البطلة آمال الجماهير، وهكذا استقى مؤمن عبده من إحدى حوادث الواقع تجربة لنصه «ميدالية»، فضفره طريقة فانتازية، شاعرية أحيانا، صادمة في أحيان كثيرة. 
وتعد التجربة امتدادا لفكرة» مسرح المقهى» التي ظهرت في مصر في منتصف الستينيات من القرن الماضي.
وفكرة مسرح القهوة قريبة من فكرة مسرح» الشارع» والتي ظهرت في منتصف القرن العشرين في أمريكا وفرنسا على وجه التحديد وكانت مرتبطة بحركة اليسار، وهي «الحركة التي نما هذا المسرح من داخلها والتي ظلت تؤثر فيه دائما أو كما يقول «هنري لنيسك» في كتابه «مسرح الشارع في أمريكا :»لقد توصلت فرق كثيرة من مسرح الشارع على قناعة فكرية مؤداها أن هناك أسبابا موضوعية وتاريخية واجتماعية لإحساسهم بالاغتراب وأصبحوا يلمسون الحاجة إلى مسرح يملك أسباب التغلب على الاغتراب الاجتماعي من خلال الممارسة الاجتماعية الجماعية والنشاط السياسي، وهذا ما فعله ناجي جورج ورفاقه من محبي المسرح في بداية الستينيات من القرن الماضي في تجربة رائدة في مقهى «المختلط» بالعتبة، وقد استطاع ناجي جورج أن يطوع نصه للمكان المقهى كفضاء مسرحي، فالأحداث المكتوبة تدور في المقهى، فالمكان هو حيز النص وبؤرته، وأبطاله هم رواد المقهى، والحوار لا ينفصل عن الحوار العادي بين الزبائن، فمن التفاصيل المحكية يتولد الحوار المسرحي.
وكذلك ما فعله عبد الرحمن عرنوس في مقهى «استرا» في باب اللوق،  عالم خاص من الفن والثقافة أضاء ليالي مقهى «استرا» في منتصف الستينيات من القرن العشرين، امتزجت فيه روح الشعر بالغناء والموسيقى والمسرح وفن الحكي والواو والزجل وفن القافية والنكت والإنشاد الديني وغيرها من الفنون التلقائية التي كانت تأتي وليدة اللحظة ومعبرة عن روح فنية وأدبية وثابة، استمر نشاطها لأكثر من عشر سنوات وشارك في إثراء هذه التجربة عدد كبير من الفنانين أمثال عبد الرحمن عرنوس والفنانين يونس شلبي ومحمد نوح وأحمد الشابوري وسامح الصريطي ويوسف عيد وحسن السبكي وإبراهيم رضوان والشاعر الراحل عصام عبد الله ولطفي لبيب ومحمود الجندي بالإضافة إلى الماكيير «ميشو» الذي كان يجلس على المقهى يوميا ليحكي النوادر الخاصة والذكريات التي عاصرها مع كبار نجوم السينما المصرية والعربية.
لقد قامت فلسفة المسرح لدى» مؤمن عبده» على تنوع فكرة التجريب، وكسر الأنماط التقليدية، وتكثيف النص المسرحي بما يتوازى مع طبيعة العصر، فالمشاهد في الألفية الجديدة يختلف تماما عن مشاهد المسرح في الستينيات من القرن الماضي.
كان المسرح بالنسبة له محاولة في الرحلة الأبدية للبحث عن معنى الإنسان، فكان لذلك مغرما بمسرح» فريدرش دورينمات» الذي كان يعتمد على البدايات الهادئة في مسرحياته ثم الانقلاب والتحول المفاجئين وبناء خط درامي غير متوقع يثير الدهشة ويصنع التواصل القائم على الاستفزاز للشعور الإنساني بغرض تهذيبه أو تغييره.
كما كان يرى مؤمن عبده أن المسرح هو فن المغامرة والبحث عن صيغ تجريبية دائما لذا نراه عبر تاريخه الطويل قد تعددت أشكاله من خلال تنوع طرق الأداء في التمثيل والتأليف والإخراج ويكاد يكون هو أكثر الفنون كسرا للنمط, فما أكثر المحاولات الجادة للخروج عن الشكل التقليدي للمسرح من أجل الوصول بذائقة الجماهير إلى حالات من مغايرة الدهشة، وهذا التجريب لا يتأتى إلا من خلال مبادرات فنية فردية كانت أو جماعية ترتبط بالواقع السياسي والاجتماعي، فالتجريب ـ في أحد جوانبه ـ مرتبط بالعنصر الزماني والمكاني، الذي يهيئ للعملية التجريبية فضاءً مختلفا بالإيجاب أو السلب.
والمسرح التجريبي هو المسرح الأكثر جذبا للجمهور، لأنه يقوم على عناصر مهمة منها الإدهاش، وكسر حاجز التوقع، والفعل الجماعي، من خلال التفاعلية المتنامية أثناء العرض، فكل عنصر من عناصر العمل المسرحي يحس بذاته وبأهميته وبأن له دورا فاعلا في العملية المسرحية. 
ولا يرجع السبب في اللجوء إلى الفقر المادي في المسرح إلى اتجاهات جمالية معينة، ففي منتصف الستينيات ظهرت رغبة في البحث عن المتفرج الحقيقي أينما كان خاصة أن هذا المتفرج قد عزف عن دخول الأماكن المخصصة تقليديا للعروض المسرحية.


عيد عبد الحليم