مقاربات حول نظرية الأداء(2)

مقاربات حول نظرية الأداء(2)

العدد 794 صدر بتاريخ 14نوفمبر2022

 اللعب والألعاب والرياضة والمسرح والطقس
تشترك هذه الفعاليات في العديد من الخصائص : 1) ترتيب خاص للزمن، 2) قيمة خاصة مرتبطة بالأشياء، 3) عدم الإنتاجية من حيث السلع، 4) القواعد، وغالبا أماكن خاصة – أماكن غير عادية – مميزة أو مبنية لأداء هذه الفعاليات .
الزمن :
زمن الساعة هو قياس موحد أحادي الاتجاه، ومتتابع لكنه دوري، تتم موائمته من الليل والنهار والإيقاعات الموسمية . وفي فعاليات الأداء تتم موائمة الزمن للحدث، وبالتالي فهو حساس للعديد من الاختلافات والانحرافات الإبداعية . والاختلافات الأساسية لزمن الأداء هي :
1- زمن الحدث، عندما يكون للفعالية نفسها تسلسل محدد، وكل خطوات هذا التسلسل يجب أن استكمالها بغض النظر عن طول أو قصر الزمن المنقضي . وأمثلة ذلك : البيسبول والتسابق والحجلة والطقوس حيث يتم الحصول علي سعي أو حالة، مثل رقصات المطر والعلاجات الشامانية، ولقاءات الإحياء والعروض المسرحية المكتوبة التي تعرض بالكامل .
2- ضبط الزمن، حيث يُفرض زمن عشوائي على الأحداث – تبدأ وتنتهي في لحظات معينة سواء استكملت أم لا . وهنا يوجد صراع مؤثر بين الفعالية والساعة . والأمثلة : كرة القدم وكرة السلة والألعاب المبنية علي الكم، أو في كم من الزمن يمكنك أن تفعل كذا .
3- الزمن الرمزي، عندما يمثل مدى الفعالية مدى آخر ( أطول أو أقصر ) من الزمن . أو عندما يتم التفكير في الزمن بشكل مختلف، مثل المفاهيم المسيحية عن « نهاية الزمن « أو زمن الحلم الوطني، أو الحضور الدائم في عقيدة الزن . والأمثلة : المسرح والطقوس التي تعيد تفعيل الأحداث أو تلغي الزمن ولعبة التظاهر والألعاب .
وتقدم رياضة الملاكمة مزيجا مذهلا . إذ أن طول كل جولة ( 3 دقائق ) والقتال (عدد معين من الجولات ) يحدد الزمن . ولكن يمكن إنهاء المباراة بالضربة القاضية في أي وقت وزمن الحدث أثناء قياس الضربة القاضية ( العد إلى عشرة) هو زمن محدد .
     وفي التسابق، يتنافس المتسابقين ضد كل منهم الآخر، إما بشكل مباشر أو غير مباشر (في محاولة لتسجيل رقم جديد ) . والزمن هو الوسيلة التي يُقارن بها كل منهم مع الآخر . ورغم ذلك، في كرة القدم، فان الزمن فعال جدا في اللعبة نفسها . فكلا الفريقان، أثناء اللعب ضد كل منهما الآخر يلعبون مع الزمن وضده . والزمن موجود لكي يمتد أو يستنفد . بينما المماطلة استراتيجية مهملة في البيسبول, وكارثية في السباقات، وحاسمة في كرة القدم، حيث تنتهي كثير من المباريات والفريق الفائز يستنفذ الوقت . وتتخذ مسرحيات التشويق نفس الموقف تجاه الزمن، فغالبا ما يحاول البطل الانتهاء من شيء قبل نفاذ الوقت .
     وأغلب المسرح التقليدي يستخدم الزمن الرمزي، ولكن العروض التجريبية تستخدم غالبا الحدث أو ضبط الزمن . ومسرح الوقائع عند الآن كابروAllan Kaprow – الذي قدمه في أواخر الخمسينيات والستينيات والأعمال المفاهيمية الأكثر خصوصية في الثمانينيات من القرن الماضي – تستخدم الزمن . ونذكر منها مثلا«سوائل Fluids«عام 1967 . كما يصف كابرو العمل بقوله :
عرض«سوائل«هو حدث منفرد جرى في عدة أماكن على مدى ثلاثة أيام . ويتكون من بناء كتل مستطيلة ضخمة من الثلج ..... وقد بنيت الهياكل في 20 مكان في أنحاء لوس أنجليس . فإذا كنت تمـر بالمدينـة فلا بد أن تواجـه فجـأة هذه الهياكـل التي بلا معـنى                   والمتروكة لكي تذوب .
ينتهي عرض سوائل عندما تذوب القوالب، برغم طول المدى الذي تستغرقه  . ويدرك كابرو معنى هذا العمل .
 ان ما يحدث بوضوح هو لغز من نوع ما ؛ باستخدام مادة شائعة (بتكلفة كبيرة ) لصنع بنية شبه معماريـة تظهر في غير مكانهــا وسـط مدينة شـبه استوائية ..... فعرض سوائـل في حالـة سيولة مستمرة ولن يتبقى شيء فعلا سوى بركة ماء – وسوف تتبخر .
وبالمثل تكون عرض « آنا هالبرين  Anna Halprin«تعريض Esposizione” (1963) من 40 دقيقة من المؤدين يحملون أعباء ثقيلة وهم يتسلقون شبكة شحن ضخمة . وقد تحركوا بأقصى ما يمكنهم من سرعة ويحملون كل ما يقدرون عليه . عندما انتهي الوقت، انتهى العمل(13) .
     وتقدم مسرحية يونسكو “ضحايا الواجب Victims of Duty«– مثل كثير من المسرحيات بداية من«أوديب « سوفوكليس وحتى الآن – هو فعل يتحكم فيه زمن الحدث داخل عالم محدد بزمن رمزي . إذ يجب أن يبحث شوبيرت عن مالو، وهذا هو واجبه . وخطوات ذلك البحث، رغم أنها مجهولة لشوبيرت، مجهولة أيضا للمحقق الذي يجبر شوبيرت علي إعادة تجربة ماضيه . المهم أن يفعل شوبيرت ما  هو مطلوب منه، وليس كم يستغرق من الزمن . ينهي تسلسل المضغ والابتلاع المسرحية ويحجز شوبيرت ومادلين ونيكولاس والسيدة في نظام لا مفر منه – فلا نهاية للفعالية لأنها دائرية . والاستخدام الأكثر وضوحا لزمن الحدث في إطار الزمن الرمزي هو المشهد الأول في مسرحية جان جينيه Jean Genet “الخادمتان The Maids«. ترتدي كلير ملابس السيدة وتلعب دورها بينما تلعب سولانج دور كلير . ولأنهما ممثلتين، ينخدع الجمهور – الممثلة س تستطيع أن تلعب دور السيدة بنفس السهولة التي تلعب بها دور كلير . وشيئا فشيئا تنتقل كلير/السيدة وسولانج /كلير خلال النظام إلى محاولة قتل كلير /السيدة . هذا المشهد في الواقع هو بروفة للجريمة التي أنهت المسرحية . فكلا المرأتان حريصتان أن تفعل الأخرى ما هو ضروري . لا يهم المدة التي يستغرقها . ورغم ذلك، فقد كانتا في عجلة – اذ يجب أن ينتهيا قبل وصول السيدة . تحدد الساعة التي جاءتا بها من المطبخ إلى غرفة نوم السيدة الدقائق المتاحة . ينتهي المشهد عندما يدق جرس الساعة – من السابق لأوانه أن تتم جريمة القتل . وتشكو كلير«انتهى الوقت فعلا ولم تصلي إلى النهاية«. فتجيب سولانج«يحدث نفس الشيء كل مرة . وهو خطئك ..فأنت لست مستعدة . لا أستطيع أن أقضي عليك«. هذا الطقس الهزلي في المشهد الافتتاحي، مع قوة المنبه الخارقة، مبني علي التوتر الذي تثيره الإيقاعات الزمنية الرمزية المتصارعة ( الدراما) والحدث ( القتل ) وزمن المشهد ( المنبه ) .
     الزمن الرمزي الغائب علي ما يبدو من مسرح الوقائع وأمثاله، يصعب فعلا استبعاده . فبمجرد تأطير الحدث كمسرح، يقرأ المتفرجون المعنى مما يشاهدونه . تؤكد ترتيبات التمثيل وإعداد المشاهد التقليدية علي المحاكاة في زمنها الرمزي، ويؤكد مسرح الوقائع علي فترات الراحة بين الأفراد والمهام، وبالتالي ربما يتم الشيء الذي يجري تمثيله بدون توصيف .
الأشياء :
      يتم تقويم الأشياء في الحياة اليومية باستخدامها العملي ( كأدوات) أو ندرتها وجمالها ( كالمجوهرات والمعادن النفيسة و الفن ) أو قوة مقايضتها ( مثل النقود الورقية والمعدنية ) أو عمرها . وفي فعاليات الأداء يكون لكل الأشياء قيمة سوقية – فيما عدا أدوات بعض الطقوس وآثارها  – أقل بكثير من القيمة المحددة للأشياء داخل بيئة الفعالية . والكرات والأقراص والحلقات والهراوات والمضارب – وحتى الأدوات المسرحية – هي أشياء عادية ليس لها قيمة مادية ويمكن استبدالها بسعر رخيص إذا فُقدت أو استُهلكت  . ويتم تصميم أغلب الأدوات المسرحية والملابس لكي تبدو أكثر تكلفة مما هي عليه فعلا . ولكن هذه الأشياء تكون  ذات أهمية قصوى أثناء الأداء، وغالبا ما تكون بؤرة تركيز الفعالية . وأحيانا تكون حاسمة في خلق واقع رمزي، كما في المسرح ولعب الأطفال . ويتم تعزير الفعاليات الدنيوية الأخرى مثل اللعب والرياضة والألعاب والمسرح والطقس من خلال التباين الشديد بين قيمة الأشياء خارج الفعالية عند مقارنتها بقيمتها كبؤرة للفعالية . ومن وجهة نظر العمل المثمر، فمن السخف بذل الكثير من الطاقة علي التحكم في الكرة أو الدفاع عن منطقة مساحتها عشر ياردات . وبالمثل من السخف أن نعتقد أن الملابس يمكن أن تصنع من الممثل ملكا، أو حتى تساعد الممثل “لي ج. كوب Lee J. Cobb في أن يصبح«ويلي لومان . فما هي  القيمة المادية لعظام القديس – أو حجاب تورين ؟ .
اللا انتاجية
الفصل بين فعاليات الأداء والأعمال المنتجة هو العامل الأكثر إثارة توحيدا في اللعب والألعاب والرياضة والمسرح والطقوس . وما قاله هوزينجا  J.Huizinga وروجر كيلو Roger Cailois  عن اللعب ينطبق علي الأنواع الأدائية :
تلخيصا للخصائص الشكلية للعب، يمكننا أن نسميه فعالية حرة تنشأ بوعي تام خارج الحياة العادية باعتبار أنه غير جـاد، مع أنه في نفس الوقت يستوعب اللاعب بشكل مكثف ومطلق .  
خصائص اللعب في الحقيقة، هي التي لا تنتج ثروة أو سلعة .
ولكن كيف يمكن هذا ؟  في كثير من الجوانب نرى أن كثير من محترفي الرياضة والمسرح (ناهيك عن الكنائس والمعابد) متورطين في عصر الاقتصاد الكبير . فالرياضيون الأفراد يربحون الملايين، وتوقع دوريات المسابقات الرياضية عقود تليفزيون بالمليارات . ويتم تبادل الأموال من أجل القبول والمرتبات وعقود الوسائط والتنازلات التحويلات .. الخ . ويتم تبادل المليارات من أجل الرهانات . وتعتمد الاستثمارات واسعة النطاق علي هذه الفعاليات . ومع توفر المزيد من أوقات الفراغ، نتوقع زيادة مطردة في هذه النفقات . فهل نعتقد إذن، مثل هوزينجا، بأن اللعب الحديث يضمحل لأنه يشارك كلية في الترتيبات الاقتصادية للمجتمع .
     وهذه المسألة معقدة . ولا يمكن الإفصاح عنها إلا من خلال تقويم العناصر البنيوية للفعاليات الأدائية . ففي العمل المنتج، تحدد الترتيبات الاقتصادية شكل العملية . وبالتالي، ربما يدير الرجل صاحب القليل من المال معرض سيارات صغير ويوظف بضعة عمال . والمؤسسة الضخمة ذات الملايين ربما تشغل خط إنتاج . وفي أجزاء كبيرة من حياتنا تتوقف الصناعة المنزلية لأنها أعلى في التكلفة من الإنتاج الضخم . وحتى عندما تعود الصناعة المنزلية علي استحياء فان ذلك لأن الكمبيوتر تؤمن الروابط التي تشكل شبكة، أو لأن أفراد المستهلكين يمكنهم شراء السلع اليدوية . في هذه القطاعات حيث يوجد منتجين صغار وكبار – للأثاث مثلا – تختلف أساليب العمل، ووسائل التجميع وحتى المنتج النهائي وفقا لحجم العملية . وهذه ليست مجرد حالة لزيادة الكفاءة أو إنتاج المزيد من الأشياء . فالعملية برمتها تغير شكلها، وماهيتها، وفقا لمختلف أساليب الإنتاج .
القواعد :
ولكن الفرق بين لعب البيسبول (في ملعب المنزل) ودوري البيسبول هو فرق في الخاصية وليس في الشكل . إذ تطبق نفس القواعد علي كلا المباراتين . وربما كان فريق سان فرانسيكو جيانتس لديه لاعبين أفضل من فريق سيكس ستريت ايجلز . ولكن فريق جيانتس لا يمكنه أن يملك لاعبين أكثر في الملعب ومازالوا يعتبرون لعبتهم بيسبول . وعندما تغيرت القواعد – وأحيانا تتغير استجابة للضغوط الاقتصادية، ويكون للتليفزيون تأثير علي الرياضة – فإنهم عادة يتغيرون تماما . وعندما تجرى التعديلات علي مستوى اللعب في المنازل – لأنه لا يظهر عدد كاف من اللاعبين – يتم إدراك هذه التعديلات باعتبارها توافقات مع ما ينبغي أن تكون عليه اللعبة . ما أقوله عن الرياضة يمكن قوله عن الطقوس والألعاب والمسرح أيضا، مع بعض الفروق .  لا يهم كم تم إنفاقه أو دفعه أو المراهنة به، أو متضمنة بطرق أخرى في هذه الفعاليات الأدائية، فتظل أشكالها المعنية ثابتة . فعندما يفسد المال شكلا – اللعبة ثابتة، ويتم استخدام نجم ليس لقدرته علي لعب دور معين ولكن بسبب اسمه ببساطة –يمكن للناس أن يلاحظوا الترتيب غير الصحيح . وتقع بعض الفعاليات، مثل مصارعة المحترفين، بين الرياضة والمسرح : من المعروف أن المباريات ثابتة ولكن يتم إثارة بعض عدم التصديق للتشويق .
     وبالتالي تؤثر الترتيبات الاقتصادية في اللاعبين و رؤسائهم والمتفرجين والمعجبين والمراهنين – فالجميع منغمس في الفعالية – بينما لا تظل الفعالية نفسها بلا تأثير . فالأموال والخدمات والمنتجات (الملابس ومعدات الرياضة  الخ) التي تولدها هذه الفعاليات ليست جزء منها . ففي الألعاب والرياضة والمسرح – ويظل اللعب حالة منفصلة – تصمم القواعد ليس فقط لإخبار اللاعبين كيف يلعبون ولكن للدفاع عن الفعالية ضد التجاوز من الخارج . فالقواعد بالنسبة للألعاب مثل التقاليد بالنسبة للطقوس والمسرح والرقص والموسيقى . وإذا كان لا بد لنا أن نجد طريقة أفضل للأداء فيجب أن تتوافق هذه الطريقة الأفضل مع القواعد . ويبدو أن الطليعة هي فعالية كسر القواعد . ولكن التجريب في الفنون، فعلا، له مجموعة قواعده . ولنا أن نفكر فيما يلي : البيئات التكنولوجية العادية التي يعيش فيها أغلب الأمريكيين - مع السيارات والطائرات والأجهزة والتليفزيون والاستريو الخ – قد تغيرت بشكل جذري خلال السبعين سنة الماضية بشكل أكبر من اهتمامات وتقنيات الطليعة . وتعد فعاليات الأداء علي طول السلسلة المستمرة – من اللعب إلى الطقس – تقليدية بالمعنى الأساسي .
................................................................................
ريتشارد شيشنر يعمل أستاذا بجامعة تيش للفنون بجامعة نيويورك علاوة علي أنه رئيس تحرير مجلة دراما ريفيو Drama Review   .
هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابه«نظرية الأداء Performance Theory«الصادر عن روتليدج عام 1988  .


ترجمة أحمد عبد الفتاح