زكي طليمات وتكوين الفرقة القومية في تونس

زكي طليمات وتكوين الفرقة القومية في تونس

العدد 753 صدر بتاريخ 31يناير2022

نجح زكي طليمات في تأسيس الفرقة البلدية، وبدأ يلقي محاضرات في المدن التونسية، مثل محاضرته في مدينة «سوسة» وموضوعها «المسرح العربي قديماً وحديثاً»، ومحاضرته الأخرى في الجامعة الخلدونية وعنوانها «المسرح فن مقدس هبط من أصلاب العقائد»، وآخر محاضراته كانت في صفاقس، هكذا أخبرتنا جريدة «القاهرة». بعد ذلك بدأ طليمات في تحضير عرضة الثاني من خلال فرقة البلدية، وهو أوبريت «ليلة من ألف ليلة» تأليف بيرم التونسي - والذي أخرجه طليمات في مصر عام 1949 - واختار طليمات لبطولة هذا العرض في تونس المطربة اللبنانية – المقيمة في مصر - «لور دكاش» لتقف على خشبة المسرح ممثلة لأول مرة. واختار معها «عواطف رمضان» الطالبة بمعهد التمثيل في مصر. أما التلحين فكان للموسيقار المصري «عبد العزيز محمد».
تم عرض الأوبريت ونجح كما هو متوقع، كما نجت مسرحية «تاجر البندقية»، فأرسل طليمات رسالة نشرتها جريدة «القاهرة» في أواخر مايو 1954 تحت عنوان «صحف شمال أفريقيا تقارن بين زكي طليمات وميشيل سيمون»، قال فيها: مهما سعدت بما ألقى من حفاوة إخواني التونسيين وزهوت بالنتائج التي انتهيت إليها بشأن تكوين الفرقة القومية التونسية، فإن لي ساعات يشملني فيها ضيق وكدر، وأود لو أنني أستطيع أن أعود إلى مصر في خفقة جناح! بقي لي هنا أن أقدم ثلاث حفلات جديدة لتاجر البندقية وستكون هذه الحفلات مقصورة على دعوات رجال الحكومة التونسية، ثم رجال الوفد الفرنسي الذي سيحضر إلى تونس بمناسبة الاحتفال بعيد استقلالها من نير الاحتلال النازي في الحرب السابقة!! ويتألف هذا الوفد من أعضاء مجلس النواب الفرنسي ومن رجال الصحافة، وهذه فرصة مناسبة لإعلاء الفن المصري أمام الفرنسيين الوافدين من باريس، مكة الفن. وقد وفقني الله في الجولة الأولى بإخراج هذه المسرحية المشهورة فعقدت الصحف هنا مقارنة بيني وبين الممثل الفرنسي الكبير «ميشيل سيمون»، الذي مثل دور «شيلوخ» بعد تحويل مسرحية «تاجر البندقية» إلى شريط سينمائي عُرض في تونس في الأيام الأخيرة. وكانت النتيجة أن الصحف منحتني قصب السبق على الممثل الفرنسي باعتبار أنني أحسنت إبراز خصائص شخصية «شيلوخ» وأهمها جشعه في جمع المال ثم جشعه واندفاعه الأعمى إلى الانتقام والتشفي، هذا في حين أن الممثل الفرنسي لم يُجِد إلا في التعبير عن القسم الأول من خصائص هذه الشخصية المعقدة. أما أوبريت «ليلة من ألف ليلة» فقدم يوم 14 مايو بألحان الموسيقار «عبد العزيز محمد» وقامت المطربة «لور دكاش» بالدور الغنائي الأول، ورأيي أن المطربة لور دكاش ذخيرة للمسرح الغنائي العربي إذ أنها تختزن جميع الصفات اللازمة لهذا. وعلى الجملة فإن رحلتي إلى تونس في سبيل رفع راية الفن العربي قد كللت بالنجاح من ناحية تأليف فرقة قومية وإقرار احتراف التمثيل في ظل إعانة مالية ثابتة من جانب البلدية، وقبل هذا لم يكن هناك احتراف للتمثيل في تونس بل كانت هناك مجهودات مبعثرة متعثرة تقوم بها جماعات من هواة التمثيل، ثم من ناحية تنشيط الوعي الفني بين المتعلمين والمثقفين. وقد نجحت في هذه الناحية بطريق محاضرات عديدة ألقيتها في تونس وفي أهم مدنها الأخرى. وقد قدمت اللائحة الداخلية للعمل بهذه الفرقة وعُينت عضواً دائماً باللجنة المشرفة عليها على أن أحضر إلى تونس مرة في كل عام لتمضية ثلاثة شهور أباشر خلالها تحضير مسرحيات الموسم ومراجعة شئون الفرقة. وهكذا يصدق القول «لا كرامة لنبي في وطنه».
وما زال طليمات يحكي
عاد زكي طليمات إلى مصر عودة الفاتحين، وظل يحكي ويروي عن فتوحاته الفنية في تونس، لعله يعطي درساً لبعض تلاميذه الجاحدين، ممن كانوا سبباً في تركه مصر وقبوله السفر إلى تونس! وكانت جريدة «القاهرة» أول جريدة تنشر له حواراً بعد عودته، ونشرته تحت عنوان «زكي طليمات يرعى الجنين الذي خلفه في تونس». وأهم ما قاله طليمات في هذا الحوار: في تونس مسرحان مسرح للغة العربية وللمترجمات، وهذا مسرح لخاصة الجمهور، وأظن أنه لا يعكس أطياف الحياة التونسية المحلية الحقة، ولا يلونها بألوانها الخفيفة وإن كان هذا المسرح يؤدي رسالة التثقيف العام. أما المسرح الآخر فهو مسرح تقدم مسرحياته باللهجة التونسية وهو أصدق تعبيراً عن النفسية التونسية من المسرح الأول إلا أنه مسرح يكابد هزالاً في مسرحياته وفي وسائل أدائه. وهذا المسرح المحلي قد جاء بعد المسرح باللغة العربية كما هو الحال في مصر، ويمكن أن نرجع نشأته إلى عام 1927. ولا توجد في تونس فرقة واحدة تحترف التمثيل بالمعنى الصحيح، وإنما توجد جمعيات تمثيلية أعضاؤها جميعاً من هواة التمثيل ومن هنا تأتى أن المسرح التونسي العربي لم يأخذ مدارجه من الرقي المنشود إذ كيف ننتظر من هواة للتمثيل يقضون نهارهم في كسب العيش من مهن مختلفة ثم يعتلون خشبة المسرح في الليل بأجساد منهوكة؟ ولست بما أقرر انتقص من أقدار هؤلاء الهواة وبينهم النابه في فنه، وبينهم من ضحى بماله في سبيل هوايته. لست بهذا أنتقص من أقدارهم بل أنني أغتنم هذه الفرصة لأحيي جهودهم المتواصلة وأخص بالذكر السيد «محمد الحبيب» المحامي والسيد «بشير المتهني» الموظف الكبير بوزارة العدلية باعتبار أن لكليهما حياة حافلة في الارتقاء بالمسرح التونسي العربي. وكانت بلدية تونس تعين هذه الجمعيات بإعانات مالية كل عام ولكن هذه الجمعيات كانت تتنازع بدوافع من النزعة الفردية ولم يكن نتاجها منظماً ولهذا فكرت البلدية أن تقرّ احتراف التمثيل بوساطة إنشاء فرقة تضم أنبه العناصر التمثيلية وتتولى هذه الفرقة وإعانتها مالياً. وكانت مهمتي هي تحقيق مشروع البلدية نحو إنشاء فرقة قومية تونسية تكون عنواناً لتونس الناهضة. فطلبت من البلدية أن تحشد لي أقدر الممثلين التونسيين وأن تضع تحت امرتي مكاناً أباشر فيه التدريبات لأقدم مع الممثلين التونسيين مسرحيتين كبيرتين بحيث تجمع كل منهما أكبر عدد من الممثلين وتحقق مجالات واسعة للإخراج المسرحي بحيث تتكشف مواهب هؤلاء الممثلين التونسيين على وجه واضح واخترت مسرحيتي «تاجر البندقية» لوليم شكسبير باعتبار أنها تحفة عالمية تقع في تسع لوحات متتالية ثم أوبريت «ليلة من ألف ليلة» باعتبار أنها من قلم تونسي يقيم بيننا في مصر وهو الأستاذ «محمود بيرم التونسي» وعملت في التدريبات بروح عالية، وساعدني على إتمام مهمتي تعاون زملائي التونسيين الذين تبادلت وإياهم الثقة والمحبة منذ الجلسة الأولى، وقدمت المسرحية الأولى وهي «تاجر البندقية» يوم 3 إبريل على مسرح بلدية تونس وحضرها الوزراء ورجال البلدية والتعليم. وكان ذلك النجاح الذي تحدثت عنه الصحف التونسية فرنسية وعربية. وفي 8 مايو دعا مدير البلدية رجال الصحافة ليعلن لهم أن البلدية قد قررت تأليف فرقة يطلق عليها «الفرقة التونسية القومية» بعد أن شاهدت «تاجر البندقية» ورأت كفاية الممثلين التونسيين حينما تحسن قيادتهم ويوجهون توجيهاً فنياً صادقاً ومخلصاً، وقرر رصد مبلغ خمسة آلاف جنيه لمواجهة مكافآت ممثلي وممثلات هذه الفرقة هذا عدا تكاليف الإخراج والمسرح والدعاية فقد رصد لها اعتماد آخر. وإزاء هذا النجاح أحسست بشعور فيه غبطة وفيه زهو! اغتبطت أنني أديت خدمة فنية لقطر عربي شقيق تجمعنا وإياه منذ القدم أواصر متينة من العروبة والثقافة والأمل الواحد. اغتبطت أنني أديت رسالة نحو فن التمثيل عامة ثم أنني أزهو لأنني ركزت راية مصرية على المسرح التونسي العربي. وحينما خطب رئيس البلدية في الحفل قال ما يأتي موجهاً الكلام إليَّ: «لقد تركت لنا جنيناً في تونس وواجب على الوالد أن يرعى جنينه! ولهذا قررت البلدية أن يكون للأستاذ زكي طليمات مؤسس هذه الفرقة نشاط فني كل عام بحيث يكون له إشراف فني على كل موسم من مواسم هذه الفرقة مدى ثلاث سنوات».
معلومات أخرى
لم تترك مجلة «الفن» فرصة نجاح طليمات وكثرة أحاديثه لجريدة «القاهرة»، فطلبت من مراسلها في تونس الأستاذ «محمد بن علي» حضور حفلة البلدية لزكي طليمات، وأخذ حوار من طليمات بهذه المناسبة. وبالفعل نجح المراسل في ذلك ونشر حواره في المجلة تحت عنوان «زكي طليمات أنقذ المسرح التونسي!»، وجاء فيه بتفاصيل جديدة ودقيقة، بالإضافة إلى أمور سبقته فيها جريدة «القاهرة»! ولأهمية ما جاء في هذا الحوار سنلخصه فيما يلي:
أقامت البلدية التونسية حفلة دعت إليها كبار رجال الصحافة وأعلن فيها الأستاذ المنصف كاهية البلدية إنشاء الفرقة القومية التونسية واعتبار تقديم مسرحية «تاجر البتدقية» افتتاحاً لهذه الفرقة، وذلك بعد النجاح الذي أحرزه الممثلون التونسيون باشتراكهم مع الأستاذ زكي طليمات الذي قام بإخراج الرواية وتعليم الممثلين والقيام بدور شيلوك. وقد رأيت أن أستطلع رأي الفنان الكبير زكي طليمات عن الفرقة بعد تكوينها فقلت له: ما هو شعورك بعد تأليف الفرقة القومية التونسية. فأجاب، الحمد لله الذي أمدني بتوفيقه فاستطعت أن أنهض بهذا المشروع على وجه جعل البلدية تتولى تنفيذ مشروع فرقتها القومية على الوجه الذي أعلنه حضرة كاهية البلدية، ثم شعور الامتنان لبلدية تونس التي يسرت لي أسباب إنجاز هذا المشروع ثم أخذت بنتائجه، فاعتمدت إعانة مالية لهذه الفرقة الوليدة التي أرجو لها حياة مديدة في الارتقاء بالمستوى الثقافي العام للشعب التونسي المحبوب. إن المسرح أصبح اليوم ضرورة اجتماعية وحالة ثقافية وليس متعة ولوناً من ألوان التسلية وقتل الوقت، وما أحوج تونس الناهضة إلى مسرح قومي يعبر عن حاضرها وعن آمالها في المستقبل. س: هل من المنتظر عودتكم إلى تونس في أكتوبر القادم، لإتمام ما بدأتم، ولإخراج مسرحيات الموسم الجديد للفرقة؟ ج: صرح السيد «الحسين بن منصور» رئيس لجنة الفنون المستظرفة للصحفيين في هذا الاحتفال بأنه سيكون لي عودة في شهر أكتوبر كما سبق أن تحدث معي السيد كاهية البلدية في هذا الشأن باعتبار أنه من الواجب أن أرعى الجنين الجديد الذي ولدته في تونس. وجوابي على هذه الدعوات الكريمة أنني سأكون عند طلب البلدية إذا سمحت لي ظروفي في مصر بهذه الدعوة العاجلة، فلا شيء أحب إلى نفسي من أن أعاود الجهاد مع زملائي الممثلين التونسيين بعد أن تبادلت وإياهم الثقة والمحبة والزمالة. س: ما هي اللائحة الداخلية التي تنظم أعمال الفرقة بعد أن طلبت البلدية هذا؟ ج: تقوم هذه اللائحة في جوهرها على الأسس الآتية: أولاً، القضاء على الحكم الفردي المطلق وإعطاء فرص في تمثيل الأدوار لجميع أعضاء الفرقة تبعاً لكفاياتهم وليس تبعاً لمراكزهم أو مرتباتهم. ثانياً، أن يكون للفرقة مدير مسئول عنها في حدود التزاماته أمام لجنة مؤلفة من عضوين من أعضاء البلدية ومن مدير مسرح البلدية، ثم اثنان ينتخبان من بين الأدباء التونسيين الذين عرفوا بجهاد محمود في سبيل المسرح التونسي، وبهذا لا تنفرد البلدية وحدها بتوجيه شئون هذه الفرقة، بل ويشاركها في المسئولية شخصان من الخارج ممن لهم جهاد في المسرح. كذلك راعيت أن يكون اختيار المسرحيات التي تقدمها الفرق يرجع إلى لجنة فرعية تؤلف من مدير الفرقة ومن أحد أعضائها البارزين ثم اثنين من الأدباء التونسيين الذين يؤلفون للمسرح. وبذلك تكتمل العناصر الصالحة التي تكفل لهذه الفرقة أن تسير على نظام ديمقراطي صميم، فضلاً عن أن تعيش مؤدية لرسالة فنية سليمة. س: وما هو رأيك في الممثلين التونسيين؟ ج: إن خصب تونس الذي يتجلى في خضرتها قائم أيضاً في كفايات ممثليها، إذ توجد مواهب خفية لديكم لا ينقصها سوى الصقل والتوجيه، إن الممثلين وكلهم من الهواة يعملون بما حبتهم به الفطرة من مواهب تبشر بالخير، ولكن الأداء التمثيلي لا يكون على أتمه ولا يعطي ثماره إلا إذا قام على التعليم والمرانة الحصيفة إلى جانب الموهبة الطبيعية. س: وما هي الوسائل الناجحة التي تنقص للنهوض بالمسرح التونسي؟ ج: بعد أن انتهينا من تكوين هذه الفرقة القومية التونسية التي تحظى بإعانة وإشراف البلدية، ومن قبل قام معهد التمثيل التونسي، الذي أرجو أن يؤدي رسالته، لم يبق سوى مرحلتين لا بد أن تفكر في قطعهما إدارة التعليم العام، أولاهما إنشاء مسرح مدرسي، ومسرح شعبي. الأول أهدافه أن يُكوّن جمهوراً من المتعلمين يؤمنون بالمسرح ويشجعونه، والثاني لمحو الأمية الذهنية، ثم تكون الخطوة التالية بعد ذلك هي تشجيع التأليف المسرحي التونسي، لأنه لا بد أن يكون الغذاء الذي يقدم للشعب محلياً وقومياً يستسيغه جمهور العامة ويتأثرون بما يرد فيه. كذلك يجب أن ترصد إدارة التعليم مكافآت مالية لمن يترجمون نفائس المسرح العالمي إلى العربية. س: هل أنت راض عن الجمهور التونسي الذي شاهد لكم عروض تاجر البندقية؟ ج: لا شيء أحب إلى الفنان الممثل من مطالعة جمهور ينصت إليه فيتأثر بما يقوله، كذا كان حال الجمهور التونسي الذي تفضل بتحيتي أفضل تحية. إن في تونس جمهور مرهف الحس ذواقة، بحيث يجب على الممثل أن يحسب له حساباً عسيراً في نفسه قبل أن يمثل أمامه. وإذا كانت الجرائد التونسية قد أشادت بنجاح الرواية إخراجاً وتمثيلاً وعدته فتحاً جديداً في المسرح العربي، فالفضل في هذا يرجع إلى الجمهور التونسي. 


سيد علي إسماعيل