محفوظ عبد الرحمن الفانتازيا التاريخية الساخرة تقاوم الواقع المتردي

محفوظ عبد الرحمن  الفانتازيا التاريخية الساخرة تقاوم الواقع المتردي

العدد 523 صدر بتاريخ 4سبتمبر2017

يعرف أسرار الكتابة الدرامية للمسرح، كما يعرف أسرار المسرح ذاته، ينتمى للحظته الزمنية، وتصبو عيونه لمستقبل أفضل لمجتمعه، ويؤمن بأن الفن رسالة، والمسرح قضية، والمبدع مثقف غير محايد تجاه واقعه وعليه أن يقوم بدوره الذى حمله ضمير المجتمع له، كى ينير له الطريق ويوقظ وعيه ويدفعه لمواجهة حصار الحاضر وإحباطاته لتغيير واقعه إلى ما هو أفضل وأعدل.
يعرف أسرار الكتابة الدرامية للمسرح، كما يعرف أسرار المسرح ذاته، ينتمى للحظته الزمنية، وتصبو عيونه لمستقبل أفضل لمجتمعه، ويؤمن بأن الفن رسالة، والمسرح قضية، والمبدع مثقف غير محايد تجاه واقعه وعليه أن يقوم بدوره الذى حمله ضمير المجتمع له، كى ينير له الطريق ويوقظ وعيه ويدفعه لمواجهة حصار الحاضر وإحباطاته لتغيير واقعه إلى ما هو أفضل وأعدل.

أنجز أعمالا جادة فى حقل السرد الروائى والقصصى، وأصبح له القدح المعلى فى مصاف كتاب الدراما التليفزيونية العظام، وأدت محاولة له فى ستينيات القرن الماضى إلى تأخر اقتحامه لعالم الكتابة الدرامية للمسرح، حيث قدم نصه المجهول (اللبلاب) للهيئة العامة للمسرح والموسيقى عام 1963، ووافقت عليه لجنة القراءة، وقام بإخراجه “كمال حسين”، لكن رفض عرضه، فيما يبدو رقابيا، قبل فتح الستار عنه بأيام قليلة، مما أدى لابتعاده عن الكتابة الدرامية للمسرح، والتفرغ للكتابة الدرامية للتليفزيون الوليد، الذى بدأ الكتابة له منذ 1965، متوقفا لعقد كامل عن المسرح، حتى كتابته نصه المعروف (حفلة على الخازوق)، وبعد أن أبتعد هو بذاته عن الوطن، عقب انقلاب السادات على التجربة الناصرية، وابتعاد النظام عن تحقيق العدالة الاجتماعية التى كان يصبو إليها جيله وتعلق حلمه ببدايات تحققها فى الستينيات، مع ميل النظام الساداتى للفكر الرأسمالى واقتصاد السوق، ومعاداته للمثقفين التقدميين، والذى كان يسميهم ب “الأراذل”، وتبلور ظهور الثورة المضادة، مما أدى إلى هجرة مجموعة كبيرة من ألمع الأدباء والفنانين والمخرجين فى أكبر عملية نزوح جماعى للأدمغة المصرية لخارج البلاد، مثل “محمود السعدنى” و”أحمد عباس صالح” و”أمير إسكندر” و”على شلش” و”سعد أردش” و”ألفريد فرج” و”غالى شكرى” وغيرهم كثر ومنهم كاتبنا المتميز.
ذهب “محفوظ عبد الرحمن” إلى المملكة السعودية أولا ثم إلى الكويت ليعمل كاتبا للدراما التليفزيونية الصاعدة ثم رئيسا لقسم النصوص فى التليفزيون الكويتى (74- 1978)، فتهيأت له عوامل كثيرة لإعادة اقتحام عالم الكتابة الدرامية للمسرح وتأسيسه على بنية الحوار المشاكس لقضايا الواقع الساخنة، وذلك بابتعاده عن مصر التى بدأ المسرح فيها منذ منتصف السبعينيات يميل فى غالبية عروضه للدعائية والتهريج وهيمنة الفكر المحافظ والتوجه نحو الاهتمام بشكل العمل على حساب مضمونه، وصولا لما عرف بالمسرح السياحى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، والمسرح التجريبي والنظريات الشكلية منذ النصف الثانى من الثمانينيات، وقد سمح له ابتعاده هذا عن الوطن حرية الكتابة للمسرح الإنساني الجاد، فضلا عن وجود مخرج متحمس لكتاباته، وهو المخرج الكويتى “صقر الرشود”، الذى اتفق فى مسيرته الا بداعية مع فكر كاتبنا، وشاركه الرأى فى كون الفن رسالة تنويرية للمجتمع، لا تنقل الواقع كما هو، ولا تهرب منه فى تهويمات فكرية وألاعيب شكلية.
وجد “محفوظ عبد الرحمن” نفسه فى موقف شديد التباين، فهو فى الخليج بعيد جسدا عن وطنه وقيود واقعه وصرامة رقابته، مما يسمح له بمناقشة أسخن قضايا الواقع، وخاصة قضية الديمقراطية التى آمن بأنها الجناح الآخر للاشتراكية، فلقمة العيش تتحكم فى صياغة البرلمان، والمجتمع الفقير لا بد من أن تتحكم فيه قوة رأس المال، والشعب غير المتعلم لا يهتم بمن يمثله ويشرع له قوانينه، والمساواة وتكافؤ الفرص هى التى تمنح المواطن حق المشاركة السياسية فى المجتمع، فى الوقت الذى تمثل فيه كتاباته عن وطنه وهو خارجه حساسية من أن تحوم حوله شبهات الهجوم على الوطن من خارجه، وهى الشبهات التى طالت الكثير من المبدعين المصريين الذين أبعدهم الفكر المتخثر والمرتد والمتحالف مع القوى الظلامية خارج وطنهم، فضلا عن حساسية الكتابة أصلا عن قضايا ساخنة، وأبرزها قضية الديمقراطية بأجوائها الواقعية، لدى أنظمة عربية تصادر حرية الحديث عن الحرية، ولهذا أبحر بنصوصه المسرحية فى أجواء التاريخ عامة الذى يعشقه ويراه ظهير الحاضر، وفى الفنتازيا التاريخية بصورة خاصة، والتى أرى أنه أحد أهم مؤسسيها فى الدراما العربية -المسرحية والتليفزيونية- وأبرز من كتب أعماله عبرها، مستحضرا هذا الأجواء التاريخية لأرض الواقع، ومقدما نوعا من المشابهة التاريخية، التى تقرأ الحاضر فى ضوء وقائع الأمس أو المتشابهة معه، بهدف توصيل رسائل المسرح لمجتمع الحاضر التى هى غاية الكتابة عند كاتبنا الكبير.
إبحار “محفوظ عبد الرحمن” نحو الأجواء التاريخية أو ما يشابهها، ليس نوعا من التقية الفكرية انفلاتا من رقابات الحاضر المتعددة وشبهاته الحائمة فوق كل تفكير حر، وليس مجرد دس شخصيات الواقع فى أردية التاريخ، ومنحها حق الحديث من خلف أقنعة الأمس، بل هو وعى من الكاتب بأن التاريخ هو وقائع جزئية حدثت فى الماضى، وترتبت نتائجها على مقدمات متصلة منطقيا بها، وليس نتيجة لنبوءات خرافية أو أفعال ميتافيزيقية، وعلى كتابة الراهن الدرامية أن تحول الجزئي إلى كلي، وأن تكشف عن هذه العلاقة المنطقية بين المقدمات والنتائج، واضعة إياها أمام عقل الجمهور المتلقى الآنى كى يعرف إلى أين تقوده المقدمات التى يعيشها وتتشابه مع مقدمات الأمس، دون معرفة نتائجها المختبئة فى مستقبل أيامه، وهو ما يجعل اختيار كاتبنا لـ (موضوعات) التاريخ أو ما يشابهها اختيارا دقيقا وشديد الوعى بالماضى والحاضر معا، تبدى ذلك منذ أول مسرحياته الصاعدة لفضاء المسرح، وهى (حفلة على الخازوق)، والتى بدأ كتابتها فى المملكة العربية السعودية، وأتمها بالقاهرة عام 1974، وقدمها لمسرح الطليعة ليخرجها “سمير العصفورى”، غير أن الرقابة رفضتها عامذاك، ونشرت بدار الهلال عام 1975، وقام “صقر الرشود” بإخراجها لمسرح الخليج بالكويت في العام التالي.
بإرشادات مسرحية طويلة، تمثل نصا موازيا داخل الكتاب المتضمن للمتن الحوارى للمسرحية، وبعيدا عن الجمهور المتلقي له فى المسرح، نتعرف على شخصيات المسرحية المتحركة داخل أجواء تاريخية مختلقة، والمرسومة بصياغة ساخرة منها ومن تاريخهما السابق على بداية حدث المسرحية الدرامي، الذى يدور حول الفتى الفقير الحالم “الشاطر حسن”، القادم حضوره من كتاب ألف ليلة وليلة ومن الحكايات الشعبية المصرية معا، وإن نجحت حبيبته “هند” فى سرقة هذا الحدث الدرامى والقيام ببطولته، فهو لم يفعل شيئا سوى تفجير الموقف الدرامي، عبر المصادفة التى أوقعته بيد الشرطة، ومدير سجن البلاد ومساعده اللذين فكرا فى أن بقاءهما فى أماكنهما لا بد أن يستشعر معه ملك البلاد أن ثمة مؤامرات تحاك حوله، فيقبضان على أول عابر سبيل ظهر يوم الجمعة، ويكون هذا الفتى المراكبي البسيط والعاشق للحرية، ويزج به فى السجن بهدف توظيفه للقيام بتهمة الهجوم على قصر الوالى، ما دام قد قبض عليه أمام القصر، وهو يبرر توجهه لقصر الوالي، بهدف نقل رؤيا رآها فى نومه له، فثمة مصادفة أخرى ورطته أكثر فى التهمة الملفقة له، ومفاد رؤياه أن أرضًا خضراء تقع على شاطئ بحر أزرق، هاجمها جراد أكل كل شيء فيها حتى الإنسان نفسه، إنها كارثة وعليه أن يخبر والى البلاد بها، كى يحترس ويتحرك لينقذ البلاد وشعبها.
يزج بالرجل الطيب فى السجن، وتأتى لزيارته محبوبته “هند” التى ستحرك بقوة الدينار وجاذبية الأنثى وذكائها الحدث الدرامي بأكمله، بمحاولتها إنقاذ فتاها عبر رحلة طويلة داخل دواوين الولاية الرسمية، موقعة بمدير السجن والمحتسب والوزير فى حبائلها، والثلاثة يمكن للممثل الواحد القيام بأدوارهم، فهم متشابهون فى الشخصية والفكر، والاختلاف فقط فى مستوى الوظيفة التى يمثلونها فى البلاد، ولهذا تدفعهم الفتاة للتوجه لمنزلها ومع كل واحد منهم صك الإفراج عن حبيبها “حسن”، مع الوصول تباعا لبيتها، واختباء كل واحد منهم فى أحد الصناديق الأربعة والمتراصة فوق بعضها، والتى نفذها لها نجار سقط فى غوايتها فاحتل الصندوق الرابع والأعلى، مستدعية والى البلاد ليعرف حقيقة القادة والمسئولين فى بلده، وهو ما يدفعه للأمر بالقبض عليهم، وتعيين حاجبه للقيام بوظائفهم حتى يتسنى له اختيار غيرهم، وتفاجأ الفتاة بأن الحاجب لا يختلف شكلا وموضوعا وفكرة عن مدير السجن والمحتسب والوزير، فهم جميعا أوجه النظام القائم، وتغيير الأوجه لا يعنى حدوث أى تغير فى البناء السياسي والاجتماعي للولاية، والوالى نفسه هو رأس هذا النظام الذى لا يفكر لحظة فى تغييره.
هذه هى القضية التى يطرحها فى صورتها الكلية كاتبنا الكبير، أن التغيير الاجتماعي والسياسى فى أى مجتمع لا يتم بتغيير أشخاصه، بل بتغيير البنية الاقتصادية له، والدراما تكشف عن حقيقة هذا الفكر بتعمد تحقيق التشابه الكامل بين مسئولي الأمس والمسئول الجديد، كلهم أدوات بيد السلطة القائمة، وبفعل اللطم الذى قامت به “هند” لرؤيتها الحاجب الذى حل محل رموز الفساد المقبوض عليهم، ومنهية المسرحية نهاية ساخرة بمرارة العلقم، تثير التفكير فى موضوع السلطة، فلا تعويل على حاكم البلاد فى إقصاء الفاسدين، بل التعويل على الشعب فى تغيير النظام بأكمله.
لا وجود فى مسرح “محفوظ عبد الرحمن” لما يتداوله البعض بمصطلح (الإسقاط)، فالفن يعرف تحليل البناء وتفسير صياغته وتأويل أفكاره وتقييم حضوره وسط مجتمعه، أما الإسقاط -وهو المستدعى من علن النفس واختبار “رورشاخ” خاصة- فيعنى أن يسقط الناقد أو المتلقى عامة ما يراه هو على العمل الفنى، لا ما هو موجود بالفعل داخل بنيته الجمالية، كما أن نصوص كاتبنا تستعصي على أى فرض لأفكار من خارجها عليها، فهى تسمو بوقائع الواقع لمصاف القضايا الكلية، ولهذا نجح نص (حفلة على الخازوق) عندما أخرجه “صقر الرشود” وقدمه على مسرح (كيفان) الكويتى فى ديسمبر 1975، ومشاركته فى مهرجان دمشق المسرحي فى مايو 1976، مما حفز كاتبنا على كتابة نص يسير فى ذات الاتجاه (الفنتازيا التاريخية الساخرة)، وهو نص (عريس لبنت السلطان) وقام “صقر الرشود” بإخراجه وتقديمه عام 1977، كما أخرج له فى العام التالي نص (السندباد) أو (الفخ والسندباد)، وهو نص لم يطبع، وأعتقد أن لصديقنا الناقد والكاتب”عبد الغنى داود” نسخة مخطوطة من هذا النص الأخير، وقد صاحب سوء الحظ نص (عريس...) برحيل مخرجه المفاجئ عن دنيانا فى حادث سيارة أليم بدولة الإمارات فى ديسمبر من نفس العام، وتدخل مخرج آخر فى بنية العرض، مما أثر بالسلب على طبيعته وفكره حين تقديمه فى مهرجان دمشق المسرحي بعد عدة أشهر من رحيله، فلم يستقبل بنفس حماس استقبال (حفلة على الخازوق).
رغم أن نص (عريس لبنت السلطان) -المنشور بشركة الأمل بالقاهرة عام 1978- كان أقرب لقضايا الواقع الساخنة، ومشيرا إليه، بقيامه على موضوع حلول التتار بالأرض العربية، وتحركهم للاستيلاء على مدينة متخيلة يبدو أنها سورية بوقوعها بين بغداد والقاهرة، وإرسالهم رسولا للسان البلاد وحاشيته، هو الفلاح البسيط “أحمد الغلبان” الذى قبض عليه ودفع لينقل رسالة التتار للسلطان العربي، وفحواها الاستسلام المهين وزواج “خاقان” التتار بالفتاة “ذهبية” ابنة السلطان، أو قبول الغزو التترى على المدينة، التى ستسقط بين أيديهم لا محالة، وهو تحدٍّ مصيرى يتطلب استجابة تتفق وقدرات السلطان وشعبه، وهو بدوره السؤال الدرامي الذى يحدد مصائر الشخصيات المتشابكة معه، إما القبول بمعاهدة صلح مهينة تباع فيها ذهبية البلاد الجميلة، أو الوقوف ضد الغزو والخروج لصده، وبالطبع يفضل رجالات الدولة، التى شاهدنا مثلهم فى (حفلة على الخازوق)، الاستسلام وتوقيع معاهدة السلام التى ستسمح للأعداء بالتسلل للبلاد واستباحتها، بينما يرفض “حسن الغلبان” ومجموعة الصعاليك وشباب البلاد الخضوع للأمر الواقع، ويقررون الخروج لملاقاة العدو والذود عن وطنهم.
مع بداية الثمانينيات يعود كاتبنا إلى وطنه، بعد أن غادر كرسى الحكم الرئيس المناوئ للمثقفين، دون أن يتغير النظام الذى أسس قواعده فى السبعينيات، وظل كاتبنا على نهجه المسرحي فى التحذير مما هو قادم، باللجوء للفانتازيا التاريخية، التى صار متفردا فيها، فيكتب حينذاك ثلاثية من النصوص القصيرة، نشر بمختارات فصول 1986، وهى: (ما أجملنا) الذى قدمه لأول مرة فريق (نادى المسرح المصرى) بالمسرح القومى عام 1981 من إخراج “عادل هاشم”، ونشر عام 1984، وتدور وقائعه فى قصر عباسى غير محدد الزمان، اغتصب فيه شقيق الحكام الشرعي الحكم من أخيه بعد قتله، غير أن للأخ ابن صار شابا وزعيما شعبيا يجمع حوله فى الجبال كل المناوئين للحاكم المغتصب، ويهددون عرشه. ونص (احذروا) نشر 1983، أخرجه لأول مرة “ابو بكر خالد شلقامى” لفرقة (المسرح المتجول) فى العام التالي، محذرا فيها السادة فى سبأ وفى كل المدن المتشابهة من طوفان قادم بانهيار سد البلاد، منذرا الشعب من الاستسلام لأنظمة ظالمة مطاردة للحرية والعدل، غير أنه فى النص الثالث (محاكمة السيد م) 1985 يقتل على يد صديقه غير الوفى “م”، مما يدفع الشعب لحمل القاتل للسلطان لمحاكمته لمعرفة أسباب القتل، إلا أن السلطان المغتصب لا يهمه الأسباب والدوافع، بل يهمه فقط فعل الخلاص من الزعيم الشعبى، بينما يهم الكاتب أن يؤكد فى ثلاثيته على أهمية المعرفة، معرفة الإنسان والشعب لحقائق الوقائع التى يعيشون فى ظلها، ويذبحون باسمها، وتنتهك عدالتهم الاجتماعية باسم الحرية المفرغة من أبعادها المجتمعية.
من إخراج “سعد أردش” تقدم فرقة (المسرح الحديث) عام 1989 نصه (الحامى والحامي) الدائر فى سياق فانتزى خيالى، مستوحى من أجواء ألف ليلة وليلة، يفقد فيه الخازندار لؤلوة السلطان فى سهرة حمراء فى بيت الفاتنة “رضوى”، ليكتشف فيما بعد أن اللصة هى هى ذاتها “رضى” التى ورثتها عن جدها، الذى منحها فى الأصل للملكة كلها، وليس لواليها فقط، فليس لحاكم أن يمتلك هذه الدرة اليتيمة وحده، فهى فريدة عصرها، ومع سريان الوقائع يدرك الجميع أن ثمة درتين أخريين مقلدتين بدقة فائقة عنها، مما يصعب معرفة الحقيقية من المزيفة، كما سعب معرفة من حامى البلاد من حراميها، حيث تختلط الأمور، ويتحالف رجالات الدولة مع اللصوص، وينشغل السادة بالبحث عن الدرة، بينما اللصوص ينهبون المدينة، وفى النهاية تقد الدرة بيد أحد البسطاء المدينة، الذى توجه إليه وإلى الجمهور الفاتنة “رضوى” دعوتها بأن يكون شجاعا وعادلا كى يمكنه الحفاظ على درة البلاد.
تتناسج دوما فى أعمال كاتبنا المعرفة بالحرية والعدالة الاجتماعية، أنها ثالوث الحياة الكريمة للمجتمع، والدعوة لضرورة أن يثق الحاكم بالشعب، ويحقق لمجتمعه ما يحلم به ويستحقه، تعد واحدة من أبرز رسائل مسرح “محفوظ عبد الرحمن”، والتى كشف عنها فى مجمل مشواره الدرامي المسرحي منذ نصه الأول المعروف (حفلة على الخازوق) حتى نصه (الملك يلهو) الذى يبدو أنه كتبه فى نهاية الثمانينيات، ليتوقف مرة أخرى عن الكتابة للمسرح لأكثر من عقد كامل، حتى عودته للكتابة وتقديمه لنص (بلقيس فى مملكة التيه) عام 2010، وأن قام الكاتب والناقد د. “عمرو دواره” بإخراج (الملك يلهو) لفرقة مسرح الغد عام 2002، والدائر حول فقد سلطان البلاد لهويته وعرشه، حينما يهبط مع وزيره لوسط المدينة ذات يوم متنكرين، ليعرف أسرار أهلها، ويتعرف على موقع الثائر على ملكه “بشر الراعي” وسط العامة فى إحدى حانات المدينة، والتى يقبض عليه ووزيره فيها، ويتنكر رجاله فى القصر، بعد أن تآمرت زوجته السلطانة عليها، فلا يجد أمامه مفرًّا غير الانضمام للثوار كى يسترد عرشه، ويكون فى معية الثائر الذى رفع سيفه فى وجه النظام الفاسد.
قبل أن نقف وقفتنا الأخيرة مع أحدث ما قدم لكاتبنا الكبير، ويسير به فى نفس بحاره التاريخية والفنتازية التاريخية، نشير إلى نص فريد له هو (كوكب الفيران) الذى كتبه عام 1983، وصاغه فى صيغة رمزية شفافة، وبمضمون واضح جلى، ورسائل مباشرة للواقع الملتهب لا تحتاج إلى أى تأويل، ونشر النص بدار شهدى 1984، وأخرجه بفرقة المسرح الحديث د.”محمد عبد المعطي” فى موسم 86/1987، ويدور حدثه الدرامي فى الزمن الراهن، وبشخصيات معاصرة للمتلقى، تواجه فى إحدى قرى مصر، وتحمل اسم (كفر سبع) بظهور فئران متوحشة، يطلق عليها الفلاحون اسم (الفانتوم)، ولا توجد إلا فى صحراء نيفادا الأمريكية، ألقى بها البعض فى القرية الطيبة لتنهش الزرع والضرع والبشر وأوراق هويتهم، ويقف العمدة المثقف مع الطبيبة الواعية فى وجه هذا التسلل المميت للوطن الطيب، وينتهى النص بخطبة عصماء تحذر العالم الثالث من هذا الخطر الداهم.
يمكننا التوقف هنا أحدث ما كتبه وعرضه كاتبنا “عبد الرحمن”، وهو (بلقيس فى مملكة التيه) نموذجا لقراءة النص وعرضه معا، مؤكدين على أن العرض المسرحي الجيد لا بد أن يشحذ قدراتنا على تلقى وتحليل وتفسير عناصره بصورة دقيقة، فجودة المنتج تستلزم جهدا نقديا لا يستهين به لتخلفه عن المهيمن أو يهوله لمجرد مجاراة صرعات سائدة، وذلك بداية من النص الدرامى المعتمد عليه، فحصا لكيفية صياغته بصورة مرئية سمعية حاضرة فى فضاء المسرح، وكشفا لهذه العلاقة المتشابكة بين النص والعرض، والرؤية المتداخلة بين صناع العرض بأكملهم؛ من كاتب النص لمخرجه وممثليه ومصممى سينوجرافيته، ولذا فإن عرض (بلقيس) الذى قدمته فرقة المسرح القومى، للكاتب “محفوظ عبد الرحمن” والمخرج “أحمد عبد الحليم”، يحملنا عبء مدارسته بتأن، حيث يجذبنا من أول عنوانه لعالم زاخر بالأفكار والمعلومات والرسائل التى يطرحها النص -الذى كتب منذ سنوات- على جمهوره الآنى، خاصة مع تجهيزه للعرض فى سياق سياسى وفكرى قبيل ثورة يناير الشبابية، وعرضه بعدها فى سياق سياسى وفكرى و(مزاجى) مختلف، وهو العنوان الذى يحمل اسم بطلة العرض الدرامية “بلقيس”، والذى بدوره يستدعى من الذاكرة حكايات هذه المرأة الأسطورية التى حكمت مملكة سبأ، واشتهرت بجمالها وثراء مملكتها، والجاذبة بدورها لحكايتها الأسطورية مع “سليمان” (الحكيم)، ملك اليهود فى الزمن الغابر، وروت الكتب السماوية الثلاثة حكايته مع “بلقيس” هذه، مما جعل اسمها لا يأتى إلا مقرونا باسمه وبحكايته الخرافية معها، وهو ما يؤثر على قدرة المتلقى على الاستقبال الحر للمسرحية المستخدمة لاسمها وصفات كثيرة منها ومن حكايتها، والتى تجدل جديلة (درامية معاصرة) من الحكايات الدينية والأسطورية والتاريخية الدائرة حول هذا الرمز الرائع للمرأة الملكة القوية والأنثى الشامخة فى المخيلة العربية، فيقرأ بحكايات الماضى فى ضوء العرض الآنى ودلالاته الخاصة به، فتصير المعرفة السابقة (باترونا) يقيس عليه الا بداع الجديد، ويهمن العالم الأسطورى على عالم المسرحية الإنسانى، ويتشابك التاريخى بالمعاصر، والخيالى بالواقعى، وتبقى الرسالة مضمرة فى بنية تبدو بلورية، نرى أنها ليست كذلك بالمرة.
 هنا تتشكل المعضلة الأولى فى عملية تلقى العرض المسرحى، حيث من الضرورى أن يفك المتلقى شفرات العرض ويفسر رموزه ليفهم رسالته وفقا لثقافته الخاصة، وهو أمر طبيعى، غير أن هذه الثقافة الخاصة، التى تمثل إطارا مرجعيا للمتلقى، تشكل عبئا على عملية التلقى ذاتها، حيث لا تمنح شخصية “بلقيس” نفسها -نصا وعرضا- وجوهر شخصيتها من خلال كلمات النص وفعلها داخله، وتجليها فى فضاء المسرح، بل أيضا من خلال ما يعرفه المتلقى المصرى عنها، مثلما هو الحال مع شخصيات يعرفها المتلقى المصرى مسبقا مثل “إيزيس” و”عنترة” من موروثه الثقافى المصرى / العربى، وأيضا من ثقافته المعاصرة لشخصيات مثل “دون جوان” و”دون كيخوته” وعوالمها الخاصة، مهما دخلت هذه الشخصيات فى أعمال جديدة، فمن السهل عليه اكتشاف حضورها فى الأبنية المسرحية الجديدة، بينما الأمر مختلف مع شخصيات لا يعرفها مثل “خوانا المجنونة” أو “بدرو بارامو”، إذا ما استوتا أمامه فى عمل ما، وذلك بسبب عدم عبورهما بمخزونه الثقافى القابع فى لا وعيه الجمعى، رغم أن الأولى هى ملكة أسبانيا فى النصف الأول من القرن السادس عشر، وتعرفها المجتمعات الناطقة بالإسبانية، وصيغت عنها أفلام ومسرحيات أسبانية كثيرة، والثاني هو اسم لبطل رواية المكسيكى “خوان رولفو” المعنونة باسمه، ومع ترجمتها للعربية منذ سنوات، إلا أنها ما زالت محصورة فى قراءات المتخصصين بالآداب العالمية، والمكتوبة بالإسبانية بوجه خاص.
فى نصه (بلقيس فى مملكة التيه) المكتوب فيما يبدو 2002، والمنشور بالهيئة المصرية العامة للكتاب 2008، والذى أخرجه “أحمد عبد الحليم” لفرقة المسرح القومى أوائل 2011 والوطن ثائر على نظامه القائم، الأمر مع “بلقيس” جد مربك، ومثير للالتباس، تعمده النص وأصر عليه المخرج، بداية من أنسنة الشخصية وحكايتها، مرورا باستخدام خطوط من الحكايات القديمة ثم التشكيك فيها فى ذات الوقت، وصولا لنقض الحكاية بأكملها، سواء أجاءت من رحم التاريخ، أو تلونت بألوان أسطورية، وذلك بداية من افتتاحية النص المكتوب، والتى تبدأ بموقف يشبه الحلم أو الكابوس بعقل الملك “الهدهاد بن شرحبيل” ملك سبأ بلقائه ب”المنذر بن المنذر” وزير الملك العظيم، الذى جاءه بنذير شؤم، يفجر حدث الدراما، طالبا الأميرة “بلقيس” لملك مملكة لا يعرفونه ولا يعرفونها، والمثير أمام ملكة سبأ هنا ليس طلب الزواج ذاته، فكم جاءها من خطاب كثر، بل فى الوفد الضخم من الفرسان القادم لدعم طلب الزواج، والتهديد بضرورة تحقيقه، وكأنه زواج قسري، طلبه حاكم طاغية فلا بد من تنفيذه، مما يذكرنا بالطلب الصريح لملك التتار “خاقان” الزواج بالفتاة “ذهبية” ابنة السلطان، أو التهديد بغزو المدينة، فى (عريس لبنت السلطان).
يستبدل المخرج “أحمد عبد الحليم” بهذا المشهد الافتتاحى كابوسا آخر يداهم الأميرة “بلقيس” ذاتها ليوقظها مفزوعة من نوم بوسط منتصف فضاء المسرح، كانت مستغرقة فيه أثناء افتتاح العرض برقصات لمجموعة من الشباب تجسد بالحركة الراقصة هذا الكابوس الذى يحاصر فيه الرجال الفتيات بصورة عنيفة، فى دلالة واضحة على إحساس أنثوى بوقوع مصيبة قادمة، قابعة فى موقف درامي يعد المتلقى لوقوع حدث جلل تخشاه الأميرة وتتنبأ به، ومن ثم فإن فى هذا التبديل دلالة على نقل ثقل الدراما من الأب (الملك) للابنة (الأميرة)، واستعادة لدورها الأسطورى الذى يضعها فى صدارة الأحداث، ويصوغها كـ (امرأة) قوية لا بد من إخضاعها لـ (رجل) أقوى وأكثر حكمة، فالأساطير التى صاغتها العقلية الذكورية، لا يفوتها أمر كسر تعاظم أى امرأة فى الدنيا بقوة الرجل وعقله الحكيم.
تبدأ أحداث المسرحية فيما بعد هذه الافتتاحية الكابوسية، بالحديث عن ملك عظيم أرسل رسله المدججين بالسلاح لمملكة بعيدة عنه، طالبا الزواج بالأميرة الجميلة “بلقيس” فقط لا غير، لكى يضمها لحريمه بزوجاته المائة، لا حديث إذن عن مملكة قوية تسبح فى الرخاء والجمال، توجد بأقصى جنوب الجزيرة العربية، فى اليمن تمركزا وامتدادا حتى الحبشة فى القارة الإفريقية، وتحكمها امرأة فاتنة هى “بلقيس”، وتدين بدين غير سماوى، وصل لسمع الملك العظيم فى أقصى شمال غرب الجزيرة العربية، حيث مملكته العجيبة، والذى تستدعيه الذاكرة من قلب الحكايات الدينية والأسطورية، كلما جاء اسم “بلقيس”، وهو ملك اليهود “سليمان” الذى يحكم مملكته (أورشليم) بالإنس والطير والجن، وأثاره ما جاء به هدهده من سبأ بالنبأ اليقين عن امرأة تحكم هذه الدولة البعيدة بالقوة والبأس، وتملك “عرشا عظيما”، وتعتنق مع أهلها ديانة تعبد الشمس، فبعث إليها هدهده بكتاب فى منقاره ليلقى به بحافة فراشها، آمرا إياها وشعبها بالرحيل إليه مؤمنين باليهودية، فلما تشاورت مع رجالها الأقوياء أكدوا على قوتهم وبأسهم وقدرتهم على المواجهة بالحرب، على حين رأت هى ضرورة المهادنة بإرسال الهدايا، حتى تعرف حقيقة قوة هذا الملك الآمر، فأرسل إليها جيشا ضخما، يخرجها وأهلها من مملكتها ويأتى بها وبهم إليه أذلة صاغرين، لأنه القوى الذى طلب هذا، ودون ذنب منهم جنوه غير عدم معرفتهم بديانته وعدم إيمانهم بها، كما أرسل عفريتا من جانه يأتى بعرشها فى لمح البصر، لتفاجأ حين وصولها به، فتؤمن بقوته وبدينه، وأن حكت التوراة الحكاية بمنظور مختلف، يشير إلى أنها هى التى “سمعت” به، فسافرت إليه بهداياها العظيمة “لتختبره بأحاجى” تعرف من إجاباته عليها أسراره الاقتصادية والعقائدية الغائبة عنها.
تطرح هذه الحكاية المستقرة فى ذاكرة المتلقى، على عقله وهو يدلف لعالم هذه المسرحية، رغم عدم وجودها بصورة جلية فيها، وإن وجدت علامات منها تثير الالتباس، فاسم “سليمان” يغيب عن الملك المعتدى، وإن بقى منه جبروته المعلن، وهدهده يختفى ومعه خطابه الأول للملكة، ويقال إنه “سمع” عن الأميرة الجميلة، دون تحديد المصدر الناقل للملك عنها، بل إن “بلقيس” نفسها لم تجلس كملكة على العرش بعد، فوالدها ما زال يحكم، وهى بعد مجرد أميرة شابة يطلبها الخطاب، وهذا “الملك العظيم” أحدهم، فهو طالب الزواج بها، وليس الإيمان بدينه، ومع ذلك تبقى صورة الملك الباطش بأمره، “سيد الدنيا وملك الزمان” كما يصفه رسوله الخاص، ويبقى جيشه القوى الذى يرسله ليأتى بالأميرة عنوة للزواج به، كما تبقى ملامح من الجنى حامل العرش العظيم، متمثلة فى شخصية رسول الملك “آصف الراجى”، القادم إليها برسالة الملك فى حراسة جيش جرار، والذى يشكك فى كل لحظة فى انتمائه لعالم الجن، مشيرا إلى اكتسابه صفة (الجنى) لذكائه فقط، وحسنا فعل العرض فيما بعد ليلة الافتتاح بنزعه الباروكة والماكياج عن رأس ووجه “أحمد سلامة” ممثل دور “آصف” واللتين كانتا توحيان بشيطانيته وانتمائه لجنس الجان، ترسيخا للأسطورة، ويبقى ما يثير الدهشة أكثر قبة الصخرة قابعة فى عمق المسرح تشير إلى القدس أو أورشليم القادم منها الملك العظيم، وهو ما لم يشر إليه النص صراحة فى إرشاداته المسرحية ولا فى متن حواره، حيث لم يحدد جغرافية الوقائع أو زمن وقوعها، وأن أشار فقط إلى مكان انطلاق الحدث الدرامى فى مدينة (سبأ) و”غرفة العرش فى قصر الهدهاد سيد سبأ”، دونما أية إشارة لأى زمن يقع فيه هذا العرش، تاركا للمخرج ومتلقى العرض تحديد هذا الزمن بصياغة سينوجرافيا المنظر المسرحى وأزياء شخصياته، وهما –المخرج ومصمم السينوجرافيا – اللذان أعادا النص الدرامى لقلب الأسطورة، وهو ما جعل المتلقى يفسر ما يحدث أمامه بفضاء المسرح وفقا لما يعرفه سلفا، وبالتالى يبدأ رحلة البحث عن الدلالة المشتركة بين الحكاية الأسطورية التى يعرفها والمسرحية التى يراها الآن أمامه، ومجبرا هذه الأخيرة على الانصياع لخطوط الأولى، باعتبار أن هذه (الأولى) هى الأصل التى استمدت منه المسرحية حدثها وشخصياتها وعلاماتها، مما يضاعف من حالة التباس التلقى لدلالات المسرحية فى ذاتها.
ويزداد الأمر التباسا داخل متن النص الدرامى ذاته، حينما يفتح لنا مدخل المسرحية عالما موازيا للأسطورة القديمة، بهذه الإشارات الخاصة بوصول جيش الملك العظيم بقيادة “فاتك السارى” والرسول “آصف” لطلب يد الأميرة، واهتزاز الملك “الهدهاد” أمام جبروت ملك يطلب يد ابنته، ويرى ضرورة الامتثال السريع لهذا الطلب الذى لا ينتظر “اعتذارا أو تفكيرا أو تلكؤا” بل “الاحتفال فورا بالرغبة الملكية السامية”، كما يقول وزيره، مغلفا هذا الطلب بقوة الوفد الرسمى، وعظمة ملكه الذى يجلس “فى برجه المشيد الذى لا تدخله حشرة إلا بإذنه”، ويدعم هذا التكابر قول وزير سبأ لملكه أن هذا الوزير قادم من “بلاد أبعد من الخيال” يسكنها قوم من الجن أو أكثر تفوقا منهم، ومن ثم يرضخ ملك (سبأ) لموافقة ابنته على السفر إلى الملك بموكب محمل ب (الهدايا) المذكورة فى الأسطورة، غير أن القائد “فاتك” ينتهز فرصة خروجها والوفد المرافق فى رحلة التوجه نحو المملكة الكبيرة، فيقوم بقتل أبيها “الهدهاد” بأوامر خاصة من الملك العظيم، للشك فى إخلاصه له، بعد أن دفعه للموافقة على أن يكون تابعا للملك العظيم ويحكم البلاد باسمه، وهو ما يتعارض مع خطوط حكاية “بلقيس” و”سليمان”، حيث لم يعرف هذا الأخير بها ألا بعد توليها الحكم بفترة، وهى تولت الحكم ليس بعد قتل أبيها، بل بعد موته موتا طبيعيا، واستخلافه لها، رغم أنها فتاة، لرجاحة عقلها ولأنها ابنته الوحيدة دون ذكور، كما أن المسرحية تتدارك نفسها، وتكشف فيما بعد عن سر قبول “بلقيس” الذهاب بنفسها للملك الذى طلب يدها، دون انتظاره، بأنها انتوت بعقلها قتله بخنجر ليلة الزفاف، وهو أمر لا علاقة له بالقصة الأسطورية، بل بحكاية أخرى يحكيها التاريخ عن “عمرو بن ذى منار بن أبرهة” الملقب ب (ذى الأذعار)، أمير قصر (غمدان) بصنعاء، الذى حارب “بلقيس” أثناء توليها حكم سبأ، فهزمها فى البداية، ثم هزمته بعد ذلك بالحيلة، حيث قبلت الزواج منه، أو عرضت عليه هى الزواج بها، قاتلة إياه ليلة العرس بعد شل قواه بكؤوس الخمر، وطعنه بالخنجر المخبأ بملابسها، وان حكت حكايات أخرى أنه حارب جدها “شرحبيل” ليسترد ملك (حمير) الذى كان له، وطرد منه، ولذا فإن حكاية قتل ملك (سبأ) بأمر الغريم، وحكاية قبول الزواج والتخطيط لقتل هذا الغريم بعد أن صار عريسا فى عرينه بالخنجر، والتى تعلنها “بلقيس” فى المسرحية صراحة لأمها التى فكرت فى قتل الملك العظيم بالخنجر: “فكرت نفس الفكرة وهذا ما جعلنى احتمل كل الأيام القاسية، سأبدى له الود وأظهر له الفرحة بالزواج، (...) وفى اللحظة المناسبة سأطعنه بالخنجر.”، وهو ما يجعل المسرحية تميل فى هذا الموقف تجاه شخصية “عمرو بن أبرهة” المتصارع معها داخل جغرافيتها اليمنية، وإن اختلطت ملامحها بشخصية الملك “سليمان” بالإشارات الخاصة بقوته المهولة، وبالوفد المرسل لمملكة أبيها، وبحكاية الجنى المصاحب، والبعد الجغرافى لمملكته عن مملكتها.
 ينفجر الحدث الدرامى إذن بطلب ملك متكابر ليد أميرة فاتنة لا تعرف عنه شيئا، ويتحرك هذا الحدث بموافقتها السير إليه فى احتفال مهيب، راضية فى الظاهر، ومضمرة فى الباطن نية قتله، غير أنه يسير بالمسرحية فى تغريبة ملحمية، تتوه فيها الأميرة ورفقاء الطريق، بعد أن تركت وراءها مملكة قتل حاكمها، دون أن تعرف فى البداية، وذلك لتفريطه فى أرضه وفى ابنته، ويوجهون جميعا وعثاء الطريق فى صحراء التيه العربية، فتتفجر الأسئلة والإجابات، وتحمل لغة الحوار الراقى العديد من القضايا المحملة على الحدث الدرامى البسيط، وتمر الأيام كأنها سنون طويلة وثقيلة، وهم بعد يعانون الحيرة والغربة والتوهة، ويكتشفون أن الخيانة قابعة بديارهم، عبر الوزير “حيرم النعمانى”، الذى يمثل صورة الطامح للسلطة فيخون سيده، وتلتقى “بلقيس” لأول مرة بأمها “رواحة” والتى كانت تظن أنها ابنة ملك الجان والمعروفة فى الأساطير باسم “رواحة بنت سكن”، وتزوجها الأب يوما -فى هذه الحكايات الأسطورية- ليعزز ملكه الأرضى بدعم من ملك الجان، ولتمنح الأسطورة بطلته ميلادا مختلفا عن ميلاد البسطاء من الناس، ومن ثم فالأميرة / الملكة “بلقيس” لا تقل – فى عالم الأساطير – رفعة ونبلا ومزجا بين ما هو إنسى وما هو جنى عن الملك “سليمان”، والذى سخر الإنس والجن، دون أن يكون وليدا لهما، بينما هى تفوقه هنا فى ولادتها من أب أنسى وأم جنية، وأن غابت عن ابنتها وهى طفلة بعد أن خالف أبوها شرطها معه، ككل جنيات الحكايات الأسطورية، وبخاصة فى (ألف ليلة وليلة)، بالسؤال عما لا يعرفه وتمتلك الجنيات حق معرفته، وذلك كما أفهمها الأب فى المسرحية وفقا لما جاء فى الأسطورة، حتى عثرت بها على أرض الواقع الدرامى المعاصر، فعرفت أنها إنسية مثل الآخرين، وذلك فى إطار أنسنة المسرحية لشخصياتها وحكاياتها.. كما أنهم فى التيه يعرفون باغتيال “الهدهاد” فينصبون فى التيه “بلقيس” ملكة على (سبأ) التى تركوها خلفهم.
 بعد مغامرات عدة عبر الفيافي تدرك في نهايتها “بلقيس” ورجالها أنهم اكتشفوا أرواحهم التى ظنوا يوما أنها ماتت، دون أن تقول لنا كيف حدث هذا التغير فى الوعى بالذات والكون، وتصل بها الرحلة التائهة إلى (مملكة الوهم)، فيفاجأ الجميع بموت الملك منذ سنوات فراشه، وأن إذلالهم قد تم بيد ميت لا قدرة له على الفعل، فتقرر العودة برجالها إلى مملكتها (سبأ) لحمايتها من أى قادم، برفع السيف فى وجه كل مهدد لها ولوطنها.


د.حسن عطية

hassan_attia@hotmail.com‏