الاستعارة وسوء الفهم التراجيدي في مسرح شكسبير

الاستعارة وسوء الفهم التراجيدي في مسرح شكسبير

العدد 594 صدر بتاريخ 14يناير2019

كانت الصور الشعرية في  مسرحيات شكسبير ومنذ مسرحياته الأولى تنبثق من داخل القصيدة والحوار ،وجو الحدث ، وعلاقة البطل بالحياة  فتفرض تطور معانيها. فكل كلمة تصبح كبيان لما سيأتي من معنى تفرضه هذه الصور ويكثر فيها الوصف البياني عن الجو أو الحالة أو موقف البطل وعادة ما تُستَمْد هذه الصور من الطبيعة.
ويُعد شكسبير من الشعراء الذي تفتنه الطبيعة و هي ملهمته فيُدخل دائماً مظاهرها في الحدث أو المشهد بحيث تصبح أحياناً أملاً للشخصيات أو تشكل عذاباً و خطراً بالنسبة لها.فالليل في مسرحية روميو وجوليت يعتبر انقاداً للحبيبين والعاصفة و البرق والبرد يشكل عذاباً حقيقياً لشيخ هرم يهيم على وجهه بعد أن فقد الإيمان بكل ماهو انساني وهو الملك لير.
و يعمل شكسبير دائماً على أن الصور الشعرية عن الطبيعة تنبع من التعبير أو الأحساس الداخلي الذاتي للشخصيات.أو أن مظاهرها مثل الشمس و النجوم تخفي الدواخل الحقيقية السوداء للأبطال،أو أنهم يدينون السماء عندما يعتقدون بأنها متعاطفة مع ما يحدث من مآسي على الأرض ، أوأنهم يتجهون إلى السماء في تمنياتهم عندما ييأسون من البشر على الأرض. وشكسبير يستخدم مختلف التشبيهات والأستعارات  التي يستمدها من الطبيعة أو مخلوقاتها بما فيها الإنسان و الحيوان والنبات فالطبيعة بالنسبة الى شكسبيرهي إستعارات  شعرية وصورية ودرامية.
و يحاول أن يستخدم تشبيهاً ما ليمنحه معنى آخر لم يكن معروفاً به فهو يمنح صفة “الشحوب” للشواطئ البيضاء في مسرحية الملك جون فألصق “البرودة الثلجية” بالسلوك و الفعل البشري ((فبحق شرف بلادنا لا تدعونا معلقين كخيوط الثلج  نتدلى من سقوف منازلنا بينما نرى شعبنا أشد منا برودة.)   و بالرغم من أن الصور التالية تبدو غريبة إلا أنها تمتلك معاصرتها و كأن شكسبير تنبأ بمشاكلنا:   الآن تنشب الحرب أظافرها  /و تكشر عن أنيابها لالتهام عظام الملك العارية / و هي تحملق بغضب في عيون السِلم الوديعة)
الحرب والصفة الذئبية
حيث منح صفة الكلبية و تكشيرة الكلب أو الذئب المتوحش كاستعداد  للحرب التي ستحيل كل شيء إلى خراب. فالصورة الإستعارية المعروفة عن الكلب و تكشيرته تصبح تعبيراً  عن انجلترا و الحرب و بهذا فإنها تمتلك تفردها الشكسبيري كصورة .
و بالتأكيد فان غنى التصور الاستعاري الشكسبيري يحتم أحياناً و خاصة في البدايات الأولى إلى التعبير عن الأشياء المجردة بلغة الإستعارة أي أنه يصور التعبير المجرد بتشبيه استعاري يضاف إليه.   و هذا الغنى في الأسلوب يؤدي إلى غنى في المعاني و أصبح  واضحاً و خاصة في المرحلة المتوسطة هذه بان شكسبير بدأ يعتمد على الأسلبة و الاختزال في المعنى و ما كان يحتاج للتعبير عنه إلى أبيات عديدة أصبحت بعض كلمات ذات دلالات تفي بالغرض .
و يلخص لنا وولفجانج كليمن في كتابه (تطور الصور الشعرية عند شكسبير) هذه المرحلة بما يوحي بأكثر من دلالة بأنها تعني:
(دمج المادي مع المجرد و التركيز على المحتوى و الغموض وربط الأجزاء عن طريق تداعي المعاني و الإيحاءات )
فإذا كانت الصور البيانية التوضيحية مرتبطة بالإستعارة في مسرحيات المرحلة الشكسبيرية الأولى تكمن في  داخل الكلمات أي كل كلمة تؤدي إلى الأخرى في صور متعددة قد تعيق تسلسل المعنى ، فان شكسبير في المرحلة المتوسطة أصبح تسلسل الأفكار لديه منسجماً مع تطور المعنى و الأحداث و القدرة على صياغة الصور الشعرية المتطورة.
 أسلبة الحدث وسوء الفهم التراجيدي
وقد برع شكسبير في مآسيه بإدارة الحوار الذي يُنبأ بمعنيين أو أكثر من خلال الفهم الخاطئ بين الشخصيات ذاتها و كذلك المعنى المزدوج للموقف.
أن العلاقة بين الشخصيات ستتحدد باتجاهين: أما أن احدهم لا يفهم الآخر و يعتقد بأنه فهمه،
أو أنها تفهم بعضها بعضاً بدرجات متفاوتة  و لكن المعنى الحقيقي لا تفهمه الشخصية الشريكة في الحدث أو الحوار ،  أما الجمهور فهو يفهم الحدث و ما يدور بين الشخصيات من التباس ، مما قد يمهد إلى أحداث و تناقضات جديدة تؤدي إلى متانة و ربط تسلسل البناء الدرامي.
و قد يؤدي هذا التلاعب في التورية و سوء الفهم إلى التراجيديا التي تحدد مصير البطل. وإلا ما الذي يدفع عطيل على أن يعيش لحظة التناقض بين ِعواطفه وحبه لزوجته دزدمونه وبين قوة حجته في قتلها.ألم يكن السبب هو  سوء الفهم هذا ؟ الذي يغير مسار ليس الحدث المسرحي فحسب إنما الحياة ذاتها أو ما الذي يدفع هاملت أن يرفض حب أوفيليا الطاهر وينشغل بالتفكير بالانتقام و الثأر لمقتل أبيه والتردد و الصراع في تحقيق الفعل التراجيدي و هو عارف بأنه لا يستطيع تحقيقه، و يخلق سوء الفهم أخطاء اخرى  كثيرة.
والسؤال هنا هو : هل إن سوء الفهم هذا هو جزء مهم من  قوانين التراجيديا الشكسبيرية ؟
فعطيل قتل دزدمونه بدون أن يتأكد و قد ضل على سوء الفهم هذا حتى لحظة قتلها،و هو عارف جيداً بأنه أمام إمراءة بريئة برقتها و نبل حبها و طهرانيتها و هي تأتمر بأوامره و تستسلم أمامه لخنقها و هما يحبان بعضهما لهذا فإنهما يتألمان لأسباب مختلفة فعطيل يتألم لأنه أحبها وهي خانته كما اعْتَقَدَ ،ومع هذا بقى يحبها لكنها حسب منطقه يجب أن تموت وإلا خانت رجال آخرين.
وهذا يدل على ضعف حجته،هل عطيل يقتل دزدمونه حتى لا تبقى في الحياة و تخون آخرين بعد أن يتركها مثلاً أم يحاول أن يجد ويتشبث بتبرير حتى وان كان واهياً  لقتلها .إذن هو لا يمتلك الدليل القاطع على خيانتها و لكن يضع يديه برقبتها وهو يبكي كأي متوحش لقتلها بعد ان يطفأ نور المصباح الذي بجانب السرير حتى يطفأ نور حياة أرق النساء واطهرهن .
ودزدمونه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة تتألم ليس بسبب موتها  وإنما لأن حبيبها يشك بها و يخّونها وليس لديه ثقة بها وهي كالدمية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لأن القانون التراجيدي سيف على مصائر البشر.
عطيل: (على أنني لولا ذنبها  /لو أبدلت منها بالعالم وقد جمع إلى جوهرة واحدة،ما رضيت)
و تموت وهي تعرف جيداً أنها بريئة.هل هذا هو سكونية الحدث أم أنه مصير البطل التراجيدي ؟ أم أنه التناقض الذي يعتمده شكسبير ليخلق الجوهر الحقيقي في الحياة ، أليس هذا عنفاً من قبل الكاتب نفسه أم أنه عنف التوحش البشري حقيقة.؟
إن سوء الفهم و الخطأ الذي يؤدي إلى خطأ آخر أكبر منه مثل الجريمة أو الدم الذي يؤدي إلى دم آخر كما يؤكد ماكبث هو مفهوم و جودي له معناه الفلسفي و الخاص في الحياة منذ ما قبل شكسبير وقد استطاعت الفلسفة وخاصة الوجودية منها في زمننا هذا أن تعطي المساحة الكافية لمثل هذه المشكلة التي لها علاقة بمصير الإنسان.
وقد اهتم شكسبير بخلق علاقة إنعكاسية بين مظاهر الطبيعة وتقلباتها ودواخل الأبطال وهذا واضح في روميو وجوليت وماكبث والملك لير وهنري السادس و مجمل المآسي التراجيدية.
فمثلاً تعتبر ليلة العاصفة وعنفها وبردها  في مسرحية الملك لير  تعبيراً حقيقياً لدواخل لير الوحيد الآن بعد أن تخلى عنه الجميع وأصبح بلا مملكة بسب نزوة الاعتداد بالنفس وجعل الإبوة ميثاق حب و احترام أو كما يوحي لنا وولفجانج كليمن  في المصدر السابق :
(وهذا الانسجام بين الموقف و الجو الكلي للمسرحية يمكن أيضاً ملاحظته في الصور الشعرية التي يحدد بها شكسبير شخصيات الرجال والنساء في مسرحياته )
و من السهولة أن نلاحظ التطور الكبير الذي انتهى إلى التطور في  استخدام الصورة الشعرية من كونها صور لذاتها وتنسج صوراً أخرى على منوالها إلى صور شعرية درامية لها علاقة كبيرة بنسج معمارية البناء الدرامي أي  صور تعتمد التكثيف و الإيحاء و الترابط وتعدد المعاني و التأويل ، أنها مترابطة وتفوق الكلمات بتأثيرها ومتانة بنائها مع البناء الدرامي العام لكل مسرحية.
وكانت الكثير من الصور تنشأ من الخيال الشكسبيري الذي يغزو اللغة ويفرض عليها مجموعة من الصورالبلاغية  المتفردة وإستعارات غريبة ونادرة أدت إلى الدمج بين فكر الكاتب وخياله ، وتمتلك هذه الصور معاني مختلفة بدراميتها نتيجة لكونها صور ذات طبيعة تركيبية ولكنها كانت تعبر دائما عن دواخل البطل .


فاضل سوداني